مر عامان على تشكيل الحكومة السودانية الانتقالية في أغسطس/آب 2019، بعد الاتفاق السياسي بين قادة الجيش وأحزاب تحالف الحرية والتغيير. ينص الاتفاق على الشراكة بين قادة المجلس العسكري الذي انقلب على الرئيس السابق عمر البشير والأحزاب وقوى الحرية والتغيير، لمدة ثلاث سنوات، يدير فيها البلاد مجلس حكم انتقالي عضويته مناصفة بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، ليكون له الصلاحيات السيادية والرقابية والتشريعية، ولأحزاب الحرية والتغيير الصلاحيات التنفيذية فقط.

تمت هذه الصفقة باسم الثورة في سابقة لم تحصل من قبل في أي بلد في العالم؛ أن يكون الجيش طرفًا سياسيًّا وشريكًا للأحزاب، فمن المعروف أن الجيوش إما أن تدير المراحل الانتقالية كلها، أو تتركها جملة لشخصيات مستقلة.

منذ إنفاذ هذا الاتفاق اندلعت حالة من الاستقطاب في المجتمع السوداني غذَّاها الدعم الإعلامي الكامل للحكومة من قبل الإعلام الدولي والقنوات العربية تحت اسم أنها «حكومة الثورة» التي تعبر عن إرادة الشعب.

وتحت غطاء دولي أمريكي أوروبي أصدرت هذه الحكومة قانون «تفكيك التمكين»، الذي نص على الفصل والطرد لجميع الموظفين المحسوبين على النظام السابق واستبدال آخرين موالين لأحزاب الحرية والتغيير بهم؛ ما تسبب في انهيار واسع في الخدمة المدنية، حيث انهارت قطاعات النفط والكهرباء والمياه والسدود، فقد فُصل موظفون أكفاء على خلفية ميولهم السياسية المزعومة، ولم تستطع أحزاب الحرية والتغيير إعادة تشغيل هذه المؤسسات، حيث إن هذه الأحزاب لا تملك الكادر المهني المدرب، وهذه مؤسسات لا تحتمل التلاعب.

نتيجة لذلك عاش الناس عامين من الجمر دون كهرباء لأنه لا يوجد عدد كافٍ من الفنيين للصيانة بعد فصل العشرات، ودون وقود بسبب الدمار الذي تم في وزارة النفط والمصفاة. أما المياه وقطاع السدود فقد فُصل 11 ألف موظف فيه في مجزرة وظيفية غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث.

نعم، لقد دمرت أحزاب الحرية والتغيير بهذه القرارات الحزب الحاكم سابقًا، لكنها كذلك دمرت مؤسسات الدولة؛ لأنها لم تكن لديها كوادر كافية لكي تشغل هذه المؤسسات، وأنصارها الموجودون في خارج البلاد لم يأتوا ليعملوا في هذه المؤسسات. فالرواتب التي تُدفَع للمهندسين والأطباء والفنيين في المؤسسات الحكومية لا تقارن مع الرواتب التي يتقاضونها في دول المهجر التي يقيمون بها، أي إنهم طردوا الإسلاميين من مؤسسات الدولة دون توفير أي بديل لهم.

الشارع السوداني بات ساخطًا وبشدة على الحكومة، ويُحمِّلها انهيار وضع الخدمات، بالإضافة إلى الانفلات الأمني الذي يعقب الثورات عادة، ويسببه سوء استغلال بعض المواطنين للحرية بتحويلها إلى مرادف للفوضى.

خطاب الحركات المسلحة ودعوات الانفصال

لكن الملعب السياسي السوداني لا يضم فقط أحزاب الحرية والتغيير والحزب الحاكم المنحل والجيش، فهناك لاعب آخر هو الحركات المسلحة المتمردة التي دخلت الخرطوم وفق ترتيبات أمنية. دخول هذه الحركات عقَّد المشهد السياسي للبلاد، حيث تزامن مع دخولها خطاب عنصري من بعض أنصارها يتوعَّد سكان الخرطوم وأقاليم شمال السودان بالانتقام بسبب ما اعتبروه دعمًا سابقًا كانوا يقدمونه للنظام السابق. بسبب هذا الخطاب تصاعدت دعوات الانفصال من قبل أهل شمال ووسط البلاد، والدعوة لتخليص السودان من دارفور وتأسيس ما يعرف باسم «دولة النهر والبحر».

إن تصاعد هذه الدعوات بهذا الشكل هو تأكيد على فشل المرحلة الانتقالية، فمثل هذه الدعوات هي غير مسبوقة في تاريخ السودان، ويعتقد كثيرون أن أحزاب الحرية والتغيير باتت تستخدم دعوات الانفصال بعد أن حاربتها في البداية لابتزاز الحركات المسلحة.

ووسط دعوات الانفصال والتقسيم يترقب الجيش انهيار المرحلة الانتقالية ليتدخل وينهي هذا الوضع، فقد كانت السلطة المطلقة التي منحها الجيش للحرية والتغيير بداية هي مجرد توريط لأحزاب لم تكن تملك الكادر الذي يمكن أن يدير مؤسسات الدولة، لكنها ترغب في إدارة الدولة بروح الانتقام.

الجيش ينتظر

يتزايد حضور الجيش في المشهد السياسي يومًا بعد الآخر، وبعد أن كانت أحزاب الحرية والتغيير تتوعد القيادات العسكرية بالمحاكمات، وتهددهم بسيف المحكمة الجنائية الدولية، تحوَّلت مؤخرًا إلى كيل المديح لقادة الجيش، وخصوصًا الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس السيادي.

تسببت أزمة إقليم التيجراي في تغيير المزاج الدولي من الأوضاع في السودان، حيث توقف المجتمع الدولي عن دعم ما يسمى بالديمقراطية في البلاد، وبات يدعم تزايد نفوذ الجيش، حيث إن إثيوبيا تعتبر بالنسبة إلى الدول الغربية منطقة نفوذ استراتيجي، ومجموعة التيجراي العرقية هم حلفاء لتلك الدول في داخل إثيوبيا. أدرك الجيش السوداني هذا الأمر مبكرًا، فسمح بتواجد اللاجئين التيجراي في الأراضي السودانية، وأصبح المطلب الأساسي للمنظمات الغربية هو السماح بتدفق المعونات الإنسانية للتيجراي، ولم تعد هذه المنظمات مهتمة بالأوضاع الحقوقية في البلاد.

في مطلع أغسطس/آب الحالي قالت فورين بوليسي إن الولايات المتحدة تتجه لتعيين سفير لها في السودان، واختارت لذلك منسق التحالف الدولي ضد داعش جون غودفري. هذا الأمر مؤشر خطير لطريقة تفكير إدارة بايدن في الملف السوداني، حيث باتت الأولوية الأمريكية في السودان أمنية استخباراتية، ولم تعد الأولوية لها قضية التحول الديمقراطي، فإدارة بايدن ليست صادقة في مواجهة الاستبداد والسلطوية، والجناح الانتهازي داخل الحزب الديمقراطي هو الذي فرض رؤيته على الإدارة، بينما الجناح المثالي أو «التقدمي» قد انكمش دوره ولم يعد هو الذي يوجِّه سياسات الإدارة نحو الخرطوم، فالأولوية الآن هي إثيوبيا التي لن تقبل الولايات المتحدة تصاعد النفوذ الروسي المتزايد فيها بسبب حكومة أبي أحمد.

لقد أعاد الجيش تموضعه وجمَّد الاتفاق بشأن القاعدة الروسية في بورتسودان بعد تفاهم سري مع الولايات المتحدة، لا نعرف تفاصيله حتى الآن، ولكننا نلاحظ توقف الخارجية الأمريكية عن المطالبة بالانتقال الديمقراطي، وكذلك تجميد قانون الانتقال الديمقراطي الذي شرعه الكونجرس ضد الجيش السوداني لتفكيك إمبراطوريته الاقتصادية.

لقد باتت أولويات الغرب في السودان أمنية، الأمريكيون يريدون حليفًا قويًّا على حدود إثيوبيا التي تواجه خطر التفكك الكامل أو الوقوع في سيطرة النفوذ الروسي والاتحاد الأوروبي الذي بات ملف الهجرة غير الشرعية أزمته المؤرقة، وهو مستعد في سبيلها للإذعان لأردوغان ولوكاشنكو والسيسي وملك المغرب وجنرالات الجزائر وميليشيات ليبيا، المهم أن تمنع هذه الدول الهجرة غير الشرعية والسيطرة على الحدود، ولم تعد حقوق الإنسان أجندة للسياسات الأوروبية الخارجية.

عبد الفتاح البرهان رجل الخرطوم القوي بات يقترب من تحقيق نبوءة والده التي تحدث عنها في مقابلة تلفزيونية منذ عامين، وكما ورد على لسان شخصية هشام بن عبد الملك في مسلسل «صقر قريش» (تأليف: د. وليد سيف، إخراج: حاتم علي): «أخطر ما في النبوءة ليس ما فيها من خبر الغيب وحقائق الأقدار، لكن ما تبعثه في صدور الرجال من الطمع، فيجتهدون في تحقيقها اجتهاد المستيقن لحدوثها». إن أخطر ما في النبوءات ليس صدقها، ولكن كونها محفزة للتحرك والعمل.