لا يزال الصراع الدائر في السودان ممتدًّا منذ منتصف شهر أبريل/نيسان الماضي وحتى الآن؛ وذلك بين أفراد الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ «حميدتي».

وبحسب ما أفادت به الأمم المتحدة في 14 مايو / آيار الجاري، فإن 676 شخصًا على الأقل قتلوا وجرح 5576 شخصًا منذ بدء القتال، وذلك بحسب البيانات الرسمية المسجلة من قبل المستشفيات فقط؛ حيث من المتوقع أن يكون العدد الفعلي أكثر من الأرقام المعلنة.

وبعيدًا عن الخطط الخادعة التي ينتهجها كلا الطرفين في تلك الحرب داخل السودان، والتي بطبيعة الحال نتج عنها خسائر أخرى مادية إلى جانب تلك البشرية المعلنة من الأمم المتحدة، فإن هناك خدعات أخرى انتهجها الطرفان، ولكن عبر منصات التواصل.

تُدقق «إضاءات» في هذا التقرير في كيفية تعمد كل من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع خداع الآخر، وذلك بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الأحداث خلال الشهر الماضي.

قصف كرتوني

البداية كانت من صفحة الجيش السوداني، والتي نشرت مقطع فيديو، في أول أيام الحرب السبت 15 أبريل / نيسان، ادعت أنه لقصف جوي من قبل قواتها الجوية لمطاردة الهاربين من قوات الدعم السريع في الولاية الشمالية.

وبحسب البحث العكسي عبر جوجل، فإن هناك نسخة أخرى لنفس المقطع منشورة بتاريخ 3 يوليو/ تموز الماضي، وذلك عبر حساب مهتم باللعبة القتالية الشهيرة «ِARMA 3»، عبر منصة التواصل الصينية «تيك توك».

وتبين أن المقطع المنشور من القوات المسلحة السودانية يعود لمشاهد ملتقطة من تلك اللعبة، وهي لعبة محاكاة تكتيكية عسكرية طورتها شركة «بوهيميا انتراكتيف» التشيكية وأطلقتها في سبتمبر 2013.

الأمر الأكثر إثارة أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يُستخدم فيها مشاهد من اللعبة على أنها لأنشطة عسكرية، إذ ارتبطت عادة مع الحروب والصراعات حول العالم، كان آخرها الحرب الروسية الأوكرانية. 

سطيرة وهمية 

الرد بالتضليل أتى سريعًا من قبل قوات الدعم السريع، حيث نشرت حساباتها الرسمية عبر منصات التواصل مقطع فيديو آخر، ادعت خلاله سيطرتها على مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون السوداني في أم درمان بعد يومين من بدء الاشتباكات.

وبتحليل المقطع نجد أن هناك فردًا واحدًا فقط في الفيديو، يعلن سيطرة القوات على المبنى، إلى جانب زميله الذي يصوره خلف الكاميرا، والذي بدا مضطربًا بشكل واضح، ويقف وحيدًا أمام البوابة الرئيسية لهيئة الإذاعة.

كما نشرت قوات الجيش السوداني منشورًا قبل نشر فيديو السيطرة، قالت فيه: «قواتكم المسلحة تستعيد السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون وإعادة البث»، وهو الأمر الذي يشكك في صحة رواية قوات الدعم السريع في المقطع.

أما الأمر الذي قطع الشك باليقين في تلك الرواية، فهو متابعة البث المباشر للتلفزيون الرسمي السوداني، والذي واصل نشر الأخبار المتعلقة بالجيش والداعمين له، إلى جانب البيانات المتعلقة بالبرهان منذ بداية الصراع وحتى الآن، حيث لم يتوقف إلا لسويعات قليلة فقط قبل أن يعود بشكل طبيعي.

وانتهجت قوات الدعم السريع نفس الطريقة أيضًا عندما نشرت مقطع فيديو، ادعت فيه السيطرة على مبنى القيادة العامة للجيش، عبر منصاتها الرسمية، ووضعته تحت عنوان: «انتصارات أبريل».

ورغم أن المقطع يوحي هذه المرة بسيطرة فعلية على أرض المعركة، حيث يظهر العشرات من جنود قوات الدعم السريع بالفعل، وفي المنطقة الجغرافية حول مبنى القيادة العامة، فإن خرائط جوجل أظهرت كذب تلك الرواية أيضًا.

وتبين من خلال مقارنة الشواهد الموجودة في المقطع والخرائط عبر جوجل أن المباني الظاهرة في الفيديو تقع عبر الإحداثيات: «15.598910, 32.540157»، حيث تبعد أكثر من 2 كم عن مبنى القيادة العامة للجيش، وهو الأمر الذي ينفي صحة دخول قوات الدعم السريع للمبنى والسيطرة عليه كما ادعت.

 

الاتهامات الدبلوماسية

ولم يتوقف التضليل عند حد العمليات العسكرية فقط على الأرض، بل امتد أيضًا إلى حد العلاقات الدبلوماسية مع دول الجوار، وظهر ذلك جليًّا في واقعة مقتل مساعد الملحق الإداري بالسفارة المصرية في الخرطوم.

وسارعت القوات المسلحة السودانية بالإعلان عن وفاة ما وصفته بمساعد الملحق العسكري المصري، محمد الحسين محمد الراوي، كما ورد في البيان، حيث اتهمت بشكل مباشر قوات الدعم السريع بقتله أثناء مروره بسيارته في الطريق العام بشارع السيد عبد الرحمن بالعاصمة السودانية.

اتصالًا بما تناولته بعض وسائل الإعلام بشأن استشهاد مساعد الملحق العسكري المصري في الخرطوم، أكد السفير المصري في الخرطوم هاني صلاح، على أن جميع أعضاء البعثة الدبلوماسية المصرية بخير، بما في ذلك أعضاء مكتب الدفاع. وأكد السفير على استمرار البعثة والمكاتب الفنية المصرية في القيام بمهامهم وسط ظروف في غاية التعقيد.
نفي وزارة الخارجية المصرية.

تلك الرواية التي نسفتها الخارجية المصرية عقب نشرها نفيًا رسميًّا على لسان السفير المصري في السودان؛ مما اضطر الجيش السوداني لنشر تصحيح مرة أخرى، يؤكد وفاة مساعد الملحق الإداري، محمد حسين محمد القراوي، والذي كان يستقل سيارة دبلوماسية وليس سيارته الشخصية كما زعمت في البيان السابق.

ولم تنتظر قوات الدعم السريع طويلًا، حتى نفت مسئوليتها عن الحادث، حيث قالت: «إن مقتل الدبلوماسي المصري مسئولية قوات الجيش والإسلاميين»، مضيفة أن ذلك جاء كمحاولة للوقيعة بين قوات الدعم السريع ومصر.

وتكرر سيناريو تبادل الاتهامات الدبلوماسية مؤخرًا أيضًا، إذ اتهمت قوات الجيش السوداني، الدعم السريع باقتحام مقرات سفارات المملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، وجمهورية جنوب السودان، والصومال، ومقر الملحقية العسكرية للمملكة العربية السعودية، وإتلاف المستندات وسرقة الأثاثات والسيارات الدبلوماسية.

النفي جاء سريعًا من قبل الدعم السريع كالمعتاد، إذ نشرت القوات عبر حساباتها على منصات التواصل، مقطع فيديو، أظهر تواجدها في محيط منزل السفير السعودي بغرض التأمين، إلى جانب شهادة أحد المارة الذي ادعى اقتحام السفارة الأردنية من قبل قوات الجيش.

جيوش التضليل 

وامتد نطاق التضليل بين طرفي الصراع إلى مئات الحسابات عبر منصات التواصل، أو بالأحرى اللجان الإلكترونية التي تحاول تلميع صورة كل طرف على الآخر، من خلال نشر حقائق ملتوية، أو انتصارات وهمية، إلى جانب الأخبار التي تتعلق بحياة / وفاة القائدين البرهان وحميدتي عادة.

وتداولت الحسابات الموالية للجيش على منصات مختلفة مقاطع فيديو ادعت أنها لضربات جوية على مقرات لقوات الدعم، والاستيلاء على كميات ضخمة من النقود من منزل دقلو، وشن غارات جوية في شمال البلاد، ولكن اتضح لاحقًا أن اللقطات قديمة وتعود إلى اليمن وليبيا، بحسب ما رصدته شركة «بيم ريبورتس».

على جانب آخر، أوضحت الشركة المتخصصة في منصات التواصل، أن اللجان التابعة لقوات الدعم السريع لم تكن وليدة اللحظة بالتزامن مع الصراع؛ إذ إن هناك حملة ممنهجة لتلميع صورة تلك القوات على فيسبوك بدأت منذ مايو 2019، بعد الإطاحة بنظام الرئيس السابق عمر البشير.

ختامًا، نحن أمام مشهد شديد التعقيد ليس فقط على صعيد التحرك العسكري على الأرض، ولكن أيضًا على صعيد المعلومات المتداولة من طرفي الصراع، والتي لن تكون بالضرورة انعكاسًا للحقيقة، الأمر الذي سيصعب مهمة وسائل الإعلام في الوقت الحالي؛ وبالتبعية مهمة الشعب السوداني في توثيق الجرائم التي ارتكبت في حقه مستقبلًا.