حكم السلطان «عبد الحميد الثاني» الدولة العثمانية 33 سنة (1876- 1909)، سماهم «أحمد شوقي»؛ «الثلاثين الطوال» في قصيدته التي يهجو فيها ممدوحه السابق.

حُكْم 30 عامًا يورِث تعددًا في وجوه وزوايا النظر لشخصية سياسية مثل شخصية السلطان «عبد الحميد الثاني». فهو بالنسبة للبعض حامي المسجد الأقصى من اليهود، وبالنسبة للبعض الآخر هو وجه من وجوه تسلط الدولة العثمانية على العرب، أو مستبد يصلح أن يلمزه «الكواكبي» في كتبه، أو داهية يحاول تقليم أظافر دعاة الإصلاح ويفرض عليهم الإقامة الجبرية بالقرب منه في إسطنبول كما فعل مع «جمال الدين الأفغاني»، و«عبد الله النديم»، وهو أيضًا صاحب فكرة الجامعة الإسلامية، ومحاولة أن يكون حائط صد ضد قوى الاستعمار الغربية، وصاحب مشروع سكة حديد إسطنبول – بغداد.


السلطان والشعراء: مدح وهجاء

نبدأ مع «جميل صدقي الزهاوي»، ففي إسطنبول مدح السلطان «عبد الحميد» وهجا الاستبداد. تم سجنه ثم ترحيله إلى بغداد، وعندما انقلب ضباط «الاتحاد والترقي» على السلطان ثم خلعوه «رحب الزهاوي» بالخطوة وبالدستور الجديد. ثم بدأ يشعر بموجة التتريك التي أتت مع الحكم الجديد، وسرعان ما انقلب «الزهاوي» على هذه الموجة وأصبح أكثر عروبية، ومالأ الإنجليز بعد احتلال العراق.

أما «أحمد شوقي» فقد ناصر الخليفة «عبد الحميد» ومدحه بقصائد عديدة في مناسبات مختلفة. بداية في الحرب بين تركيا واليونان عام 1897، وقصيدة أخرى في عيد جلوس السلطان وهو في إسطنبول عام 1904، واستصرخه لينقذ مكة من قسوة شريفها أمير الحجاز «عون الرفيق» في عام 1904، وقصيدة أخرى يهنئه بنجاته من قنبلة عام 1905.

لكنه بعد ذلك رحب بالانقلاب العثماني على السلطان وبالدستور عام 1908، ولم يذرف الدموع على عزل ممدوحه، والذي كان أنعم عليه بالـ«بكوية»، وبكوية إسطنبول كانت في ذلك الوقت يلقب صاحبها بصاحب السعادة ومساوية لـ«الباشوية» المصرية.

لنتذكر أن شوقي قال عن عبد الحميد:

بسيفِك يعلو الحقُّ، والحقُّ أَغلَبُ * ويُنصَرُ دينُ اللهِ أيَّانَ تَضرِبُ

قصائد «شوقي» في مدح الخلافة، والسلطان يصلح لها أيضًا شطر البيت الذي دوّنه في قصيدته وهو ينعي الخلافة عام 1926: «ودفنْتُها، ودفنتُ خيرَ قصائدي معها».لكنه ورغم فرحه بعزل السلطان، فإنه تمنى أن تطوى السماء وكأنها القيامة، ويظلم العالم بسقوط علم الخلافة عن أدرنة بعد استيلاء البلغار عليها عام 1912.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، انهارت الدولة العثمانية فبكاها شوقي، وأثنى على «أتاتورك» وتحمس له في حربه مع اليونانيين، بسبب محاولته التقليل من أطماع الدول المنتصرة في تركيا. ثم ألغى «أتاتورك» الخلافة فلامه شوقي، ثم انقلب عليه.

شوقي كان من أوائل من فطنوا لمصريتهم بعد سقوط الخلافة، لقد احتاج أن تسقط الخلافة ويذهب العثمانيون ليستوعب هذه الهوية، وهو الموقف الذي عانى منه مثقفون، مثل «شكيب أرسلان» بعد سقوط الخلافة، وتبدل العالم القديم. عالم «الجنتلمان» العثماني بعالم جديد مختلف.

والقصيدة التي ألقاها في افتتاح البرلمان عام 1924 تدل على هذه الروح المؤمنة بمصر، هوية مختلفة عن الدولة العثمانية رغم صعوبة البداية، يعلق «عارف حجاوي» ويقول: «ألمس في الأشطر إحساس شوقي بعدم الأمان».

مصرُ الفتاةُ بَلَغَتْ أَشُدَّها * وأَثْبَتَ الدَّمُ الزكِيُّ رُشْدَها يا رَبِّ! قَوِّ يَـدَها وشُدَّها * وافتحْ لها السُّبْلَ ولا تَسُدَّها

و«حافظ إبراهيم» تكرر معه ذات الموقف. فمواقفه السياسية مترددة ومتحيرة، لكنه مدح الخلافة والسلطان، فقال:

مِنِّيِ على دارِ السلامِ تحيةٌ * وعلى الخليفةِ مِن بَنيِ عثمانِ

لكنه سرعان ما فرح بعزله، ولم يقصر في قصائد الفرح والشماتة، فقال:

فَرِحَ المسلمونَ قبل النصارى * فيكَ قبلَ الدُّرُوزِ قبلَ اليهودِ شمِتُوا كلُّهُمْ وليس مِنَ الهِمَّـ * ـةِ أنْ يَشمَتَ الوَرى في طَريدِ

ولحافظ قصيدة أنشدها في حديقة الأزبكية في يوليو/ تموز 1909، بعد سقوط السلطان وصدور الدستور:

ولم يُغْنِ عن عبدِ الحميدِ دَهَاؤُهُ * ولا عَصَمَتْ عبدَ الحميدِ تَجارِبُهْ

وفي العراق كان هناك معروف الرصافي وفي عام 1908 كان الرصافي في الـ33 من العمر، ونشط في تأييد ضباط جماعة «الاتحاد والترقي» الذين أرغموا السلطان على الدستور. وكان للجماعة حضور في يغداد، وأصدروا صحيفة بالعربية والتركية، وتولى الرصافي تحرير نسختها العربية.

أما «إيليا أبو ماضي» ففرح بالدستور الجديد، وقال:

ويا أيها الدستورُ! أهلًا ومرحبًا * على الطَّائرِ الـميْمُونِ، يا خيرَ قادِمِ
وله قصيدة يفرح فيها بنفيه إلى اليونان، يقول فيها:
ضيفَ سَالُونِيكَ! مَا لكَ في * سِجْنِها ضَيْفٌ سِوَى السَّأَمِ جُرْتَ يا عبدَ الحميدِ بِنا * غيرَ أنَّ الجَـوْرَ لم يَدُمِ

أما الشاعر القروي «رشيد سليم الخوري»، فلخص عصر عبد الحميد بأنه عصر الظلم:

هكذا انقلب شعراء هذا العصر (الزهاوي، شوقي، حافظ، الرصافي، القروي، وإيليا) على السلطان، وجعلوا حسابه في يد الملك الغفور، على ما ارتكبه من أمور جسام، وفرحوا بنفيه إلى سلانيك في اليونان، ووجدوا في نفيه قصة درامية في تطورها وتغير الحال، وقرت أعين الشعراء بالدستور وذم الاستبداد والانفراد بالرأي.


شكيب أرسلان: الجنتلمان العثماني

كانت علاقة عائلة «شكيب أرسلان» بالسلطان العثماني عن طريق عمه «مصطفى أرسلان»، وساعدت تلك العلاقة في إبقاء إدارة متصرفية لبنان تحت إمارة تلك العائلة. تزامنت عودة «أرسلان» من أوروبا إلى إسطنبول في عام 1892م مع وصول «جمال الدين الأفغاني» إلى العاصمة العثمانية.

كان قد دُعِي من قبل السلطان «عبد الحميد» الذي كان معجبًا بتعاليم «الأفغاني» الإسلامية الشاملة، وراغبًا في الإفادة منها في تعزيز ما كان يراه حقًا متمثلًا بادعاء الخلافة والمطالبة بها. وكانت سمعة «الأفغاني» كمحرض يشكل خطورة ذائعة الصيت أيضًا، إلا أن «عبد الحميد الثاني» شعر أن شبكته الأمنية العريضة المتمثلة بسلك الشرطة قادرة على تحييد هذا الجانب غير المرغوب فيه من الرجل الشهير.

وعلى الرغم من أن العلاقة بينهما سرعان ما توترت، خاصة بعد ادعاء «الأفغاني» وجود تواطؤ في اغتيال الحاكم الفارسي «نصر الدين شاه» في عام 1896م، فإن الأشهر الأولى التي قضاها في إسطنبول كانت أشهرًا مستحسنة.

في هذه الحقبة تحديدًا نجح «أرسلان» في مقابلة «الأفغاني». وحسب رواية «أرسلان» لما جرى في هذا اللقاء، طلب منه الأفغاني أن يصف ما رآه في أوروبا، وفرح الأفغاني به وقال له: «أنا أهنئ أرض الإسلام التي أنبتتك».

أقام «شكيب» في إسطنبول لمدة سنتين، سعى لتوطيد علاقة الأسرة بالدولة العثمانية، وعقد صداقة مع «حسن فهمي» وزير المالية، ومع «منيف باشا» الذي شغل منصب وزير التربية والتعليم العثمانيين طوال زمن حياته المهنية المديدة.

وقد تكون هاتان السنتان قد أتاحتا الفرصة أيضًا لأرسلان لعقد لقاء مع السلطان «عبد الحميد» مرة واحدة على الأقل، الذي تكرر في حالة «شكيب أرسلان» هو الإعجاب بالخلافة العثمانية، والإيمان بها حتى مع عزل السلطان «عبد الحميد»، فقد بارك «شكيب» انقلاب تركيا الفتاة، وكانت له علاقة طيبة مع «أنور باشا»؛ وصفه له في سيرته الذاتية يدل على تقدير شديد لهذه الشخصية.

كان «شكيب» يرى في الانقلاب والدستور إمكانية إصلاح من الداخل، وأن الإصلاح ممكن مع النظام القديم، لكن جهود «الاتحاد والترقي» ستبوء بالفشل، وستخسر الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ويخرج قادة هذا الانقلاب على زورق ألماني إلى المنفى في برلين ومعهم «شكيب أرسلان»، ليواجه عالمًا بلا سلطنة ولا خلافة.


عبد الله النديم

فسادٌ في الدَّوائرِ، واختـلالٌ * وظُلـم في الـمحــاكمِ والْتِواءُ

تم نفي «عبد الله النديم» إلى إسطنبول عام 1893 ومنعه من الكتابه جنبًا إلى جنب مع «جمال الدين الأفغاني» الذي قرّبه السلطان «عبد الحميد الثاني» للاستفادة من دعوته إلى الجامعة الإسلامية. عاش «عبد الله النديم» ووجد نفسه عاطلًا. فلا كتابة، ولا خطابة ثورية، وفي وسط مراقب من حرس السلطان، ولا يجد متنفسًا إلا اللقاء بصديقه «جمال الدين الأفغاني».

في هذه الفترة كتب «عبد الله النديم» كتابه «المسامير»، بعد اصطدامه بأحد أفراد حاشية السلطان «عبد الحميد الثاني» يُدعى «أبو الهدى الصيادي» مستشار السلطان. كان يسميه -النديم- «أبو الضلال»، وكتب فيه كتاب «المسامير» الذي أظهر الشيطان شخصية مهزومة أمام أبو الضلال!.

توفي «النديم» بمرض السل في إسطنبول في العام 1896، وأمر السلطان بجنازة رسمية سار فيها أستاذه «جمال الدين الأفغاني». المثقف الأخير الذي نستعرض علاقته المتوترة مع السلطان «عبد الحميد الثاني» هو «عبد الرحمن الكواكبي».

عانى «الكواكبي» من نفس الشخصية التي ضايقت «عبد الله النديم»، وهو «أبو الهدى الصيادي». فقد حاول نزع نقابة الأشراف من «الكواكبي» في حلب وتحويلها إلى عائلته. ولم يكن هذا هو الصراع الوحيد للكواكبي مع العثمانيين والسلطنة. فقد خاض صراعًا مع «عارف باشا» والي حلب، وحكم عليه بالإعدام لكن تم تغيير مكان المحاكمة إلى بيروت وتم الحكم ببراءته.

لم تكن تلك التجارب التي خاضها «الكواكبي» تجعله يغفل أثر الاستبداد والظلم في الحكم. فكتب «طبائع الاستبداد». وسبب وفاته غير ثابت لكن البعض يتهم به الدولة العثمانية.

كانت علاقة المثقف العربي مع الدولة العثمانية مضطربة في تلك الحقبة. فتارة يمدحها. لم لا، وهي وجه القوة أمام الاستعمار الغاشم. وتارة يضيق بها وباستبدادها وبتهميش العرب. ولم تكن الهويات المحلية للبلدان العربية أو الأفكار القومية أخذت مكانتها في النفوس، كما حدث مثلًا مع «شكيب أرسلان»، فهو لم يتحمس لثورة «الشريف حسين» على الدولة العثمانية، وظل مؤمنًا بإمكانية الإصلاح حتى مع عزل السلطان «عبد الحميد الثاني».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. «العودة إلى المنفى»: أبو المعاطي أبو النجا