كانت أول الأبيات التي لفتت نظري في شعر فؤاد حداد هي أبياته عن «صلاح الدين»، تلك المصادفة اكتشفت مدى عمقها بعد وقت، كلما ازدت قراءةً في شعر فؤاد حداد، وسيرة صلاح الدين.

ربما ليس غريباً أن يكثر ذكر «صلاح الدين» في شعر «فؤاد حداد» المُتيَّم بفلسطين والقائل عنها:

ولا في قلبي ولا عنيا
إلا فلسطين
وأنا العطشان مليش مايه
إلا فلسطين
ولا تشيل أرض رجليا
وتنقل خطوتي الجاية
إلا فلسطين

وفي قصيدة «القدس» من المسحراتي:

يا قدس يا نوارة السنين
كأن عيني في ميتمي
يا قدس ما يحتمل دمي
إلا أشوفك وأرتمي
وأبوس ترابك المريمي
أبويا وابني على فمي

لكن الغريب هي الطريقة التي يذكر بها فؤاد حداد أحد أبطاله الأثيرين، فهو مثلاً لا يضفي عليه صفات البطولة والشجاعة فقط، بل وصفه له ربما من أعمق ما كُتب عن صلاح الدين في سيرته وصفاته، وقد تمر بعض القصائد مرور الكرام على من لم يقرأ سيرة صلاح الدين بالتفصيل، لكن فؤاد حداد يقوم بما يصعب حتى على المؤرخين، وذلك حين يذكر الأحداث التاريخية بمنتهى السلاسة، مُتبعاً مدرسته الشعرية (البساطة منتهى الأبهة).

تأريخ شعري

يمكن اعتبار قصيدة «الأرض بتتكلم عربي» سيرة موجزة وتفصيلية في الوقت نفسه لحياة السلطان الناصر صلاح الدين:

هذا الذي رد الثغور البهيَّة
وبنى بأسماء الأئمة المدارس
وحضر مع الخصم لمقام القاضي
وأعاد إلى الأم الصليبية ابنها
أمَّا عن المنكر نهى
وأمَّا في ليلة شجن بالشام
حلف يمين أفضل له
يفقد ولاده ومؤنسته ولا يهدم
هذا صلاح الدين فتى مقدم
حامل لواء الفتية والأجناد
فوق الخيول المسرجات الجياد

ولكل سطر حكاية، عندما أتى صلاح الدين إلى مصر، كان مُوكلاً من الخليفة العباسي، والملك العادل نور الدين زنكي، لإسقاط الخلافة الفاطمية، لكنه صار وزيراً للدولة الفاطمية، وبدلاً من الصدام المباشر بدأ خطته بإنشاء المدارس السنيَّة، وكانت مدرسته الأولى للمذهب الشافعي، بناها بجوار مسجد عمرو بن العاص، بعد أن هدم سجناً فاطمياً ليتيح المجال لبناء المدرسة، ثم أتبعها بمدرستين واحدة للمذهب المالكي، وأخرى للحنفي.

حرص صلاح الدين على تخصيص يومين من كل أسبوع، يحضر فيهما الجلسات القضائية مع العلماء، ويترك مجالاً لمن يريدون تقديم التماسات، أو رفع شكاوى له. وذات مرة اشتكاه رجل للقاضي ابن شداد، مُدعياً أن صلاح الدين استولى على أموال له بعد موت مملوكه في الشام، وكان رد فعل صلاح الدين أن تقام المحاكمة، وينفذ فيها حكم الشرع، لكن بمجرد قول الرجل ادعاءه، وذكره لتاريخ الواقعة، تبيَّن أن صلاح الدين كان في القاهرة، ولم يكن في الشام أصلاً في ذلك الوقت، وبدلاً من معاقبة الرجل للادعاء على السلطان، أشار ابن شداد على صلاح الدين أن الرجل ربما بحاجة للمال، لذلك قدم ادعاءه، فأعطاه صلاح الدين خلعة سلطانية.

بعد «موقعة حطين»، وبرغم استمرار القتال بين الصليبيين والمسلمين، سُرِقَ رضيع من معسكر الصليبين، فنصحوا أمه أن تستعين بصلاح الدين، لأنه رجل رحيم القلب، ولمَّا اكتشف أن الرضيع تم بيعه في سوق النخاسة، رده إلى أمه، وأعادهم لمعسكرهم.

عندما وقف صلاح الدين أمام «حصن عسقلان»، كان عليه اتخاذ أحد أصعب قراراته العسكرية، فالحصن الفاصل بين مدينتي يافا والقدس يمكن أن يُشكِّل خطراً على مصر، إذا ما وقع في يد «ريتشارد قلب الأسد»، الذي كان في طريقه بالفعل لمدينة يافا.

لم تكن المفاضلة بين القاهرة والقدس مطروحة، فعند صلاح الدين إما كلتاهما معاً أو لا شيء، وكانت عسقلان من المدن التي فتحها ضمن الساحل الفلسطيني قبل القدس، لذلك قرَّر هدمها بدل أن ينال ريتشارد المدينة وتحصيناتها، ليُركِّز صلاح الدين جهوده على حماية القدس.

وهنا كان قَسَم صلاح الدين، بعد قراره بهدم المدينة التي تُسمى «عروس الشام»، قال لابن شداد:

والله لأن أفقد أولادي كلهم أحب إليَّ من أن أهدم منها حجراً واحداً، ولكن إذا قضى الله بذلك وعيَّنه لحفظ مصلحة المسلمين طريقاً فكيف أصنع؟

وبرغم أنها أول القصائد التي قرأتها لفؤاد حداد، إلا أني لم أدرك تماماً ما يعنيه، إلا بعد قراءة كتاب «صلاح الدين وإعادة إحياء المذهب السني»، لعبد الرحمن عزام، وترجمة قاسم عبده قاسم، كانت فقرات القصيدة تظهر جلية أمامي في الصفحات التي تحكي المواقف التي صاغها فؤاد حداد في سطر لا أكثر.

من حقه أن يبتسم

في شعر فؤاد حداد من حق صلاح الدين أن يبتسم، لأنه نصير المظلومين، ولأنه طيب وأمير، ولأنه مُخلص، ولأنه صاحب مروءة، وقارئ وفارس، ولأنه يشبه الفجر.

يقول عنه في قصيدة «قاطف العسل»:

وباغني صبحية
كان السلام نور ربوع الشرق
والناصر صلاح الدين رد الصليبيين
يا وعد مين الفجر يشبه رحلته في الحياة
بعد ما سلم على المؤمنين
من صلاته قام على الشرفة
ينظر جناين مصر والبساتين
هو اللي سهمه قصد قلب الأسد ورماه
الفجر من حواليه
صاحب مروءة وشيخ يقرا وفارس
احتار خياله منين
الفجر سيف أبيض
والفجر مفتوح الإيدين
ولما صوت النفير
فيه الوداعة زي صوت الودع
والنجيل طيب ما يعرفش الوجيعة
والفساقي سرة الأيام
يا ريت
الرضيع يتعلم الحنية
قبل ما يخط المشيب راسه
صلاح الدين
سلطان في أرض الطيبين وملك
كل التاريخ يشهد لإخلاصه
قامت عينيه
تجري السما على غيمة وردية
مسحت إيديه
على غزالة لبني في زهرية
آمن سهام الصيادين للأبد
رق باله
واتبسم صلاح الدين
وماكانش غيره في ملوك زمانه أمير
من حقه أن يبتسم!

وفي مقطع آخر من القصيدة، يقول على لسان الحمام القادم من أرض الحرمين:

أنا من أرض النبي
وقلبي حن بي
إلى السيف الذي دمر
الظلم الأجنبي
يا يوسف الأمين
يا درع المسلمين
مبارك المقام
رسالة من الحمام
عن حبي لا تسل
كلمتك بالمثل
يا قاطف العسل
تشفي المستضعفين
ترفع عن البنين
مشقة الانتقام
رسالة من الحمام

أمل ومقاومة

أحياناً يترك فؤاد حداد لديَّ انطباعاً أنه يتعامل مع صلاح الدين بصفة شديدة الخصوصية، غير كونه بطلاً أو رمزاً، ويتعامل معه بصفته «الممكن» الذي حارب «المستحيل»، ويتعامل معه بصفته «الجهاد والمقاومة»، وكأنه أغلى كنوزه، وأثمن أدوات مقاومته، كما يؤكد في عدة قصائد، وكما اختار هذين المقطعين بالذات ليكونا في مقدمة ديوانه «من نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة»، نفس الديوان الذي كانت نواته «الأرض بتتكلم عربي»، جاءت فيه قصيدة «قاطف العسل»:

أملك عمر
وأملك صلاح الدين
طرب اليتامى
ونقش إسلامي
في سمع الزمن
دي هي كلمة عمر
كلمة صلاح الدين
كلمة عرابي في ميدان عابدين
من التاريخ أيام بتتغنى
وليالي في أيام العرب منشدين
قول عمر بن الخطاب
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.