ذات يوم، يصعد المنبر، الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وقد ارتدى ثوبًا من الغنائم الحربية، فبدأ خطبته بعد حمد الله «اسمعوا يرحمكم الله»، فعلا صوت من غمار الناس بالمعارضة: «والله لا نسمع»، ويُكرِّر جملته في تحدٍ: «والله لا نسمع»، ثم يبيِّن سبب المعارضة: لأنك «ميّزت نفسك علينا في الدنيا… أعطيت كلاً منا بردة واحدة، وأخذت أنت بردتين».

أجبر المسلمون الخليفة الراشد على الخضوع للمحاكمة، وبدلًا من الثناء عليه، وتقدير إنجازاته، طالبوه بالعدالة. ولإثبات أنه مظلوم جاء عمر بابنه عبد الله يدافع عنه ويشهد بأنه أعطى لأبيه بردته، لأن والده رجل طويل، وبردته جاءت قصيرة.

لا تذكر كتب التاريخ اسم الرجل المغمور الذي حاسب الخليفة، ولا منصبه ولا مكانته في المجتمع، هو رجل عادي، لم يخشَ أن يواجه الحاكم، لم يمنعه من معارضته وتقويمه ما قدّم من أعمال، ولو كانت في حجم تقويض مملكة فارس، وتدويخ جيوش الروم وطردهم من الشام ومصر.

ومن قبل عمر، راجع المسلمون الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم)، عارضوه نبيًا، وجادلوه رسولًا. جادلته امرأة، اعترض على خطته الحربية جندي في ساحة معركة بدر. وفي كل المرات كان الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم) ينصت في شغف، والوحي ينزل مستجيبًا. وعلى هذا ربّى الإسلام أبناءه. لا فارق بين حاكم ومحكوم، الكل سواءٌ أمام العدالة، ولو كانت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم). فاختفت رهبة الحاكم من القلوب، وحلّت محلها خشية الله.

وأناس بهذا الوعي استطاعوا في سنوات معدودة أن يقوّضوا أركان مملكة فارس، ويطردوا الروم من سوريا، ويفتحوا مصر بأربعة آلاف جندي، ويُشيِّدوا «إمبراطورية الإيمان»، من الصين شرقًا إلى جبال البرانس غربًا.

تقرّب المسلمون لربهم بتقويم حكامهم، مهتدين بقول نبيهم (صلى الله عليه وسلم):

أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.

لكن هذا المسلك القويم لم يكن ليرضي الملوك والسلاطين.

أولى خطوات تطويع الدين لخدمة السلطان

مع رحيل الخلافة الراشدة بطعنات السيف المسموم الذي أصاب جبهة الخليفة الرابع عليَ بن أبي طالب (23 قبل الهجرة -40هـ/ 599-661م)، جاء المُلك العضوض، لتبدأ أولى خطوات تطويع الدين لخدمة السلطان المُتغلِّب، وتحويل الإسلام من سوط على ظهور الظالمين، إلى مخدر للجماهير، لكي تُساق كالقطيع، لا صوت لها فيعلو، ولا رأي لها فيُسمع.

استخدم الملوك طرقًا شتى لإخضاع المسلمين، كان من بينها تحويل علماء الإسلام إلى فقهاء للسلطان، ومن يرفض الخضوع، يُعاقب جلدًا بالسياط على الأجساد وتطويحًا بالسيف للرقاب.

عرف التاريخ سعيد بن جبير (46-95 هـ/ 665-714م) مثالاً للعابد الزاهد [1]، الرافض لسلطان الطغاة، وعرف الحجاج بن يوسف الثقفي (40-95 هـ/ 660-714 م)، قاتله بالسيف.

تحاول الدولة شراء ولاء العلماء، بإخضاعهم لسلطان الوظيفة، فاستحدث بنو أمية منصب القاضي الذي يحصل على راتبه من خزانة الدولة، ومقابل الدنانير التي تُصب في جيبه عليه أن يغض الطرف عن أموال المسلمين التي تنثر على الجواري وتوزن بها قصائد المديح.

يُدرِك علماء الأمة الخطر الذي يُهددهم، فينأون عنه، بتحقيق الاستقلال المادي، بالعمل في التجارة والحرف اليدوية، بعيدًا عن دنانير السلطان. فعلها الإمام أبو حنيفة النعمان (80-150 هـ/ 699-767م) حتى صار من أعلام التجار في عصره.

يغيظ تحرر الإمام من أغلال الوظيفة ودنانير السلطان، الدولة الأموية، وهو الذي ينفي شرعيتها، ويرى أن الخلافة الراشدة انتهت بمقتل الخليفة الراشد عليّ بن أبي طالب [2]، فيحاول بنو أمية إخضاعه بالمال فيأبى، يعاقبونه بالحبس والجلد بالسوط فلا يلين [3]، يظل الإمام ثابتًا كالطود حتى زال ملك بني أمية، لكن محنته لم تنتهِ بعد.

من بني أمية ينتقل المُلك العضوض إلى بني العباس، ويدرك ثاني ملوك بني العباس «السفاح» أبو جعفر المنصور (95-158 هـ/ 714-775 م)، أن القوة الغاشمة وحدها لا تؤسس ملكًا راسخًا، فالجيوش يمكن شراؤها بالدنانير، وما جاء بالسيف يُؤخذ بالسيف، فأخذ يدعو العلماء والفقهاء إلى تأييد دولته، أو بالأحرى يشتري ولاءهم واعترافًا منهم بشرعيتها، بتعيينهم في مناصب القضاء والاستشارة، متوهمًا أن المال قادر على إطفاء جذوة العلم، وبريق الذهب غالب على لمعان الفكر واستقلاله، لكن هيهات أن يغري المال رجلًا في قدر الإمام أبي حنيفة.

للمرة الثانية، يدفع الإمام ثمن شجاعته واستقلاله. زج به السفاح إلى غياهب السجن، وسلّط عليه السياط ترسم علاماتها على ظهره، فاحتمل الإمام العذاب وهو الذي يعانق سنوات الشيخوخة، يُحرَم الطعام والشراب فيزداد إباءً، حتى إذا يئس السفاح من إغوائه، أفرج عنه، لكن جراح التعذيب والسياط كانت غائرة، قد نالت من جسد الإمام، فمات بعد خروجه من محبسه بقليل كما يموت الصديقون والشهداء والصالحون. [4]

أخفقت الدولة السلطانية في إخضاع الإمام الجليل، لكنها لم تيأس من تكرار المحاولة مع الإمام الرابع لأهل السنة، أحمد بن حنبل (164-241 هـ/ 780-855 م)، وهذه المرة لإجباره على تبني موقف الدولة الفكري، بأن القرآن مخلوق، أي نزل حسب الحوادث في أيام الرسول، وهو ما رفضه علماء وأئمة الأمة الذين رأوا أن القرآن وُجد منذ قديم الأزل، فهو ليس بمخلوق.

أمام سطوة السيف تراجع علماء، فيما ثبت ابن حنبل، فاغتاظ منه سلاطين بني العباس. عذبوه وسجنوه 28 شهرًا، يجلدونه بالسياط حتى يُغمى عليه، ينخسون جسده بالسيف حتى يسقط على الأرض ويُداس عليه [5]. ورغم هول ما يتعرّض له يبقى الإمام صامدًا كالطود لا يتزحزح، حتى إذا يئس سلاطين بني العباس من النيل منه أطلقوا سراحه. [6]

لم تنتهِ المعركة بعد، وإنما استمرت جولاتها تطوي الأيام والسنين والقرون، مرات ينتصر الحكام والسلاطين، ومرات يقارع العلماء الأجلاء السوط والسيف.

التبعية للدولة وصعود صوفية البطن

في العقد السادس من القرن الثالث الهجري، استولى عسكر الترك على الدولة العباسية وملكوا ناصية أمورها، فاهتموا بشكل الدين أكثر من جوهره. ففي الوقت الذي جعلوا فيه الشريعة الإسلامية هي قانون الدولة، نراهم يستبدلون البساطة في بناء الجوامع بالفخامة المترفة، فتحول الجامع إلى مؤسسة لا قِبل للفقراء على تشييدها، وإنما يقوم بها الأمراء والسلاطين، وداخل أروقة الجامع تُعقد حلقات الدرس.

احتضنت أروقة الجوامع المذاهب الأربعة لأهل السنة، في كل رواق فقيه وعالم يُمثِّل مذهبه، يُعلم ويُدرس للأطفال والفتيان، فتحوّل الفقهاء والعلماء إلى «موظفين» يتقاضون راتبهم من السلطان والأمير، فغلبت عليهم سمة التبعية، وغضوا الطرف عن المحارم التي يرتكبها الحكام، فكان ذلك تحولًا سلبيًا أصاب حياتنا الفكرية والسياسية في الصميم.

لم ييأس السلاطين من وأد نماذج سعيد بن جبير، وأبو حنيفة النعمان، والبخاري، وأحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، بإسلام زاهد في الحياة، يترك قيصر ومال قيصر لقيصر. فكانت التكايا، التي يُطعِم فيها السلطان الدراويش المنقطعين للعبادة والدعاء للسلطان. ولا ينقطع الدعاء للسلطان ما استمر يُلقي إلى أفواههم بطعام يسرقه من قوت الشعب، طعام يملأ بطونهم ويُخرِس ألسنتهم عن طلب العدل. وبعد أن كان أعظم الجهاد «كلمة حق عند سلطان جائر»، صار إلقاء طعام إلى بطن شيخ جائع كفيلاً بإسكاته، فلا يُسمع له صوت.

وبعد أن كنّا نرى نماذج للصوفية المتحركة المدافعة عن الأمَّةِ كالإمام أبي الحسن الشاذلي (571-656هـ/ 1196-1256م)، والذي شدّ الرحال وعسكر مع جموع الجنود والمتطوعين، يدفع الحملة الصليبية السابعة، وكذلك الشيخ الصوفي الكبير نجم الدين كبرى (540-618هـ/ 1145-1221م)، المُلقَّب بـ «صانع الأولياء»، والذي تصدى للتتار في اقتحامهم لمدينة «جرجانية» حاضرة دولة خوارزم شاه، لا يمنعه الشيب الذي اشتعل في رأسه من الجهاد، فجمع تلاميذه، وارتدى خرقته، وشد على وسطه حزامًا وملأ جعبته بالحجارة، ثم خرج للقاء التتار، فرماهم بالحجارة ورموه بالسهام، حتى أصابه سهم في صدره، فاستشهد رحمه الله، بعد أن مات موتة مجيدة. [7]

توارت هذه النماذج الصوفية اللامعة أمام جحافل «متصوفة البطن». وبدأ التصوّف الشكلي يشق مجراه في مصر منذ زمن صلاح الدين الأيوبي (532-589هـ/ 1138-1193م)، والذي قضى على الدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية، ورأى مواجهة التشيع بابتكار ما يسمى بالتصوف الجمعي أو الجماعي، بإنشاء تكايا الصوفية. كان ذلك عام 569 هجريًا كما يقول شيخ المؤرخين «تقي الدين المقريزي». [8]

مع إنشاء «التكية الصلاحية» انتقلت الصوفية من الطور الفردي إلى الجماعي، يأكل الدراويش ويلبسون على نفقة المحسنين من السلاطين والأمراء والأثرياء، منقطعين عن الدنيا لذكر الله، زاهدين في الدنيا، مهملين في طلب القوت، محتقرين العمل على اكتساب العلم والدين [9]. كان لهذا التحول أثره على موقف الصوفية من السلاطين.

أيّد بعض أئمة الصوفية السلاطين على طول الخط، ولو كانوا جائرين. بل وابتدعوا مُبررات عجيبة لتخدير الجماهير عن المطالبة بالعدل وإقامة الشريعة. فهذا عبد الوهاب الشعراني (898-973هـ/ 1493-1565م) [10]، وهو من كبار أئمة الصوفية، يرى أن مقاومة الحاكم الجائر مجلبة للمتاعب والقلاقل، بدعوى أن مثل هذا الحاكم لا يغفر لأحد عصيانه، ولا يتسامح مع من يندد بأعماله [11]، لهذا «لا يجوز الخروج على السلطان»، ولو كان جائرًا [12]، بل وينصح الشيخ الصوفي دراويشه بتجنب تغيير المنكر ولو باللسان. [13]

وأسرف الشعراني في تبرير طاعة الولاة المخالفين لأبسط قواعد العدالة الإسلامية والتماس الأعذار لهم بدعوى «أن الولاة أتم نظرًا منا، ولذلك ملكهم الله تعالى رقابنا في الحكم فينا» [14]، فكل ما يفعلونه يمكن حمله على الظن الحسن، وترجيح نفعه وإن خفي وجه النفع فيه على الأهالي.

ويصل الأمر بالشعراني في تملق السلطان إلى الإفطار عشرة أيام من شهر رمضان، بدعوى الابتهاج بشفاء السلطان العثماني من ألم أصاب رجله. [15]

ويدعو الشعراني إلى احترام قضاة عصره، ولو كانت أحكامهم باطلة ومخالفة للشريعة الإسلامية، وذلك:

أدبًا مع السلطان الذي ولى أولئك الحكام، ولعلمي بأنه أتم نظرًا مني ومن أمثالي، بل وربما كان أتم نظرًا من جميع رعيته. [16]

ما أبعد الشقة بين شجاعة الرجل المغمور الذي حاسب عمر بن الخطاب على قطعة قماش، وبين فقهاء السلاطين، وعلماء السوء ممن يحللون دماء الشعب، ويسوغون نهب أموال الشعب.

شتان بين الإسلام الحركي، الإسلام المنغمس وسط الدنيا، يكافح ويجاهد لتعمير الأرض، والإسلام الرسمي القابع في حجر الملوك، إسلام تكايا صوفية البطن.

وإلى يومنا، ما زال الصراع دائرًا بين إسلام المسلم المجهول الذي عارض الفاروق عمر وإسلام السلطان وتكايا السلطان.

المراجع
  1. هو الإمام المقرئ المفسر الشهيد سعيد بن جبير، درس العلم عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر والسيدة عائشة أم المؤمنين في المدينة، سكن الكوفة فأصبح إمامًا لأهلها، قتله الحجاج لاشتراكه في الثورة على بني أمية.
  2. مصطفي الشكعة، إسلام بلا مذاهب، مكتبة الأسرة، 2005، ص 422.
  3. محمد أبو زهرة، أبو حنيفة: حياته وعصره.. آراؤه الفقهية، دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة، 1960، ص 39. وانظر: حسين مؤنس، صور من البطولات العربية والغربية، مكتبة الأسرة، 2000، ص 128-129.
  4. مؤنس، صور من البطولات العربية والأجنبية، ص 130-131. وانظر: أبو زهرة، أبو حنيفة، م س ذ، ص 50.
  5. مؤنس، صور من البطولات العربية…، ص 145. مصطفي الشكعة، إسلام بلا مذاهب، مكتبة الأسرة، ط 2، 2005، ص 474.
  6. مؤنس، صور من البطولات العربية…، ص 145.
  7. ابن العماد، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، المجلد السابع، دار ابن كثير، بيروت، الطبعة الأولي 1991، ص 142، أحداث سنة 618 هجريًا.
  8. خطط المقريزي، كتاب التحرير، الجزء 43، صفحة 401. توفيق الطويل، التصوف في مصر أبان العصر العثماني، مكتبة الآداب، بدون تاريخ، ص 44.
  9. توفيق الطويل، التصوف في مصر…، 37.
  10. أي أنه عاش نهاية عصر الدولة المملوكية وبدايات الدولة العثمانية في مصر.
  11. توفيق الطويل، الشعراني إمام التصوف في عصره، دار إحياء الكتب العربية، 1945، ص 116.
  12. الشعراني، اليواقيت والجواهر، ج 2، ص 114، 115 نقلا عن محمد صبري الدالي، الخطاب السياسي الصوفي في مصر، قراءة في خطاب عبد الوهاب الشعراني للسلطة والمجتمع، دار الكتب والوثائق القومية، العدد 55، 2011، ص 179.
  13. الدالي، الخطاب الصوفي…، ص 182. ويفسر الدالي هذا الخضوع من جانب الشعراني بسبب قوانين الدولة العثمانية التي تبيح قتل كل من تظاهر بصفات الملوك من الفقراء وكثر أتباعه لأنه ربما نازع السلطان في ملكه.
  14. عبد الوهاب الشعراني، لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، تحقيق أحمد عزو، دار التقوى، دمشق، 2004، ص 646.
  15. توفيق الطويل، الشعراني إمام التصوف…، ص 140.
  16. الدالي، الخطاب السياسي الصوفي، ص 189، نقلا عن لطائف المنن.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.