يصل الفنانون إلى ما لايستطيع أن يصل إليه الساسة. الفن هو مفتاح نجاح هذه الأمة.
«نيلسون مانديلا»

أدرك«نيسلون مانديلا» أهمية الفنون في رحلة كفاحه الطويلة ضد آفة التمييز العنصري في بلاده؛ لذا سعى منذ اليوم الأول أن تكون الفنون بمختلف أشكالها أحد الأزرع المهمة في حركة المقاومة.

كرة القدم أحد أهم هذه الفنون التي استُخدمت من أجل إعادة توحيد جنوب أفريقيا. كانت أندية كرة القدم ومشجعيها إحدى ومضات النور، التي أضاءت التاريخ الحديث للبلاد بعد عقود من الظلام.

عند الحديث عن أندية كرة القدم في جنوب أفريقيا هذه الأيام، فإن أول ما سيتبادر إلى ذهنك بلا شك هو فريق «ماميلودي صن داونز». الفريق الذي تسبب في إحراج كبرى أندية القارة في العقد ونصف الأخيرين، ووضع نفسه ضمن النخبة بالرغم من حداثة تأسيسه مقارنة بهم.

لكن صن داونز لم يصل إلى هذه النتيجة بين عشيةٍ وضحاها، ولم تقتصر رحلته على كرة القدم فقط، بل امتدت لتتقاطع مع تاريخ جنوب أفريقيا الحديث بأكمله.

بداية متواضعة

كان«روبن هود» -وهو أحد الشخصيات الفلكلورية الإنجليزية- فارسًا شجاعًا، لكنه كان طائشًا وخارجًا عن القانون، وهو ما جعله رمزًا لكل من تجتمع فيه تلك الصفات في مختلف الأزمان.

تبدأ الحكاية من ستينيات القرن الماضي، حيث بلغت الأحداث السياسية أوجها في جنوب أفريقيا، وزادت أنشطة حركات المقاومة المنددة بسياسة التمييز العنصري، وعلى رأسها «حملة التحدي» التي كان يقودها نيلسون مانديلا.

في ذلك الوقت، كان كرة القدم هي الدين الذي يعتنقه الناس في مختلف الأرجاء في البلاد، وهو ما جعلها بارقة أمل لإعادة توحيد كل أطياف المجتمع.

في «بريتوريا» أراد بعض الشباب على رأسهم الدكتور «موتسيري إتسوينج» والدكتور «بوني سيبوتسان»، إطلاق نادٍ يجمع أهالي هذا المنطقة معًا، فكان نادي صن داونز هو ثمرة هذا الجهد، وفي عام 1970 تم إطلاق النادي بشكلٍ رسمي، وشارك في الدوري المحلي عام 1973، وهبط للدرجة الثانية عام 1980.

عانى الفريق من فترات صعود وهبوط شأنه شأن كل الفرق المؤسسة حديثًا، إلى أن ظهر الرجل الذي سيغير مسار صن داونز إلى الأبد.

الفريق الذي أسسه روبن هود

عام 1985 اشترى «زولا ماهوبي» النادي، وهو الرجل الذي اعتبرته جماهير صن داونز المؤسس الحقيقي للنادي، كما نُظر إليه دائمًا وكأنه روبن هود بريتوريا.

لم يكن ماهوبي سوى شخص ينحدر من أسرة فقيرة من إحدى ضواحي بريتوريا، ولم يعمل في كرة القدم حتى بلغ عامه 31. لكنه كأهل جنوب أفريقيا كان مفعمًا بعشق كرة القدم، وحاملاً لنضال أهل بلده في قضايا التمييز العنصري.

وفقًا للكاتب «والتر دون لابورت»، في كتابه « The Legend Of Zola Mohabe And Mamelodi Sundown Story»، الذي يسرد فيه قصة سيطرة ماهوبي على فريق صن داونز، فإن ماهوبي تحصل على أمواله من عملية نصب على أحد البنوك التابعة للدولة، وهي الجريمة التي ستثبت أدلتها في نهاية حياته وسيدخل بسببها السجن وهو في الـ85 من عمره.

وهو ما اعتبره جمهور صن داونز تشابهًا مع ما كان يفعله روبن هود، فالرجل في نظرهم أخذ أموال النظام المتحيز عنصريًا ووضعها في يد الشعب؛ لذلك استحق لقب روبن هود بريتوريا.

عمل ماهوبي على خلق دستور جديد للفريق، تمثلَّ في السياسة التي تبناها في إنفاقه للأموال سواء على شراء اللاعبين أو في التسويق للفريق، وكذا خلق هوية للفريق داخل وخارج الملعب تتوافق مع معتقداته الشخصية، وتدور حول أفكار ملهمه مانديلا، وهو ما لا يزال تأثيره حاضرًا حتى اليوم.

سياسة تلميع الأحذية والبيانو

داخل الملعب أراد ماهوبي تكوين هوية للنادي تميزه عن باقي الأندية داخل جنوب أفريقيا وخارجها، فأرسل «ستانلي تشابالالا» أهم مدرب جنوب أفريقي في تلك الفترة؛ لنيل بعض الدورات التدريبية لأحد أقوى الفرق الإيطالية مثل ميلان ويوفنتوس، ليستلهم منهم الفلسفة التي سيسير عليها النادي إلى الآن.

«Shoeshine and Piano»، سياسة تلميع الأحذية والبيانو، هي السياسة التي جلبها «تشابالالا» من إيطاليا. تتلخص تلك الفلسفة في عدة نقاط، وهي: بناء اللعب من الخلف، والتمرير بأناقة عبر المساحات الضيقة، والتحكم في مجريات المباراة.

كانت هذه هي الطريقة التي اعتمد عليها نادي صن داونز، حيث جلب النادي لاعبين بداية من حراس المرمى يتناسبون مع تلك الفلسفة، الذي كان حجر الأساس لطريقة اللعب التي يتبناها الفريق حتى الآن.

يؤكد ذلك المدرب الحالي للفريق «رولاني موكوينا»، في تصريحاته لموقع «Roads And Kingdom»، الذي أشار إلى أن هذا الأسلوب يمثل الحمض النووي للفريق، ووصفها أنها هوية النادي.

موتسيبي الذي صنع الوحش

كانت شرارة التأسيس الثانية للفريق من خلال الدكتور «باتريس موتسيبي»، الذي جاء ليشتري حصة 51% من شركة نادي صن داونز عام 2003، قبل أن يقوم بشراء النادي بالكامل عام 2004، وهو الرجل ذاته الذي سيترأس الاتحاد الإفريقي لكرة القدم برمته عام 2021.

وخلال فترة ولايته الممتده حتى الآن، تُوج الفريق بلقب الدوري لموسمين متتاليين 2006 و2007، ثم نجح في استعادة اللقب عام 2013، ليسيطر على البطولة لعدة سنوات، ونجح في حصد اللقب الأهم وهو دوري أبطال أفريقيا لأول مرة مع مدربهم التاريخي بيتسو موسيماني عام 2016 على حساب الزمالك، ثم ظفر بلقب كأس السوبر على حساب مازيمبي.

لكن هذه النجاحات لم تكن وليدة الصدفة، بل سعى موتسيبي للاستعانة بكافة الوسائل العلمية الحديثة من أجل ذلك، وكذا الاستعانة بالخبرات البشرية من كبرى أندية العالم.

يوهان كرويف الذي وضع البذرة

استعان موتسيبي بالأسطورة الهولندية «يوهان كرويف»، نجم برشلونة السابق، حيث وقع الثنائي على عقود عام 2011، ليتولى المستشارون العاملون في معهد يوهان كرويف العالمي مسؤولية أكاديمية نادي صن داونز، وفي تلك الفترة أيضًا أقنع كرويف مواطنه يوهان نيسكنز بتدريب الفريق الجنوب أفريقي، لزرع منظومة الكرة الشاملة داخل جدران النادي.

أقنع كرويف موتسيبي بضرورة وجود هيكل إداري منظم للفريق قبل أي شيء، يلعب كل فرد فيه دور محدد بما يتناسب مع سياسات النادي، فكانت النتيجة صناعة منظومة فنية لا مثيل لها في القارة السمراء، إذ يتكون الفريق التقني للنادي من 25 شخصًا، ويشمل الجهاز الفني والطبي والإداري إضافة لمحللي الأداء وعمال غرف الملابس.

على خطى العالمية

الخطوة التالية من مشروع موتسيبي كانت محاولة مواكبة الكرة الحديثة، والسعي لسبق باقي فرق القارة بخطوات عدة.

البداية كانت بتعيين «جالوم فالوديا» رئيس قسم المحللين في صن داونز، الذي يعمل في صفوف الفريق منذ عام 2012، ويعاونه كل من «ماريو ماشا»، حيث يتولى فالوديا وماشا تحليل أداء المنافسين، وتساعدهم مجموعة أخرى على تحليل أداء صن داونز.

لم تقف الأمور عند الحد بل ذهب الفريق للتعاقد مع واحدة من أكبر شركات الداتا في العالم شركة «StatsBomb»، لتزويد الفريق بالبيانات التحليلية الخاصة، لمواصلة السير على طريق النجاح بشكل علمي.

نعلم أنك الآن وعلى الرغم من موقفك من الفريق الذي ربما تسبب لفريقك في خسارة قارية أو أكثر، قد زاد إعجابك بهذا النموذج، لكننا لم ننته بعد؛ لذا دعنا نزيدك من الشعر أبياتًا.

بين الأكاديمية والكشافين

يتولى «تيرا ماليوا»، و«إسروم نياندورو»، مسؤولية الكشف عن اللاعبين لنادي صن داونز، حيث يبحثان عن الصفقات الخاصة بالفريق الأول والشباب، من أفريقيا وأمريكا الجنوبية وقارات العالم المختلفة، وكذلك يعمل تيرا ماليوا كمسؤول عن ملف إعارات اللاعبين من وإلى صن داونز.

كما يضم عمل الكشافين بنادي صن داونز أكثر من 15 شخصًا، سواء للبحث في المقاطعات المختلفة، أو البحث في دوري الدرجة الثانية، وفي دوري الدرجة الثالثة، وكشافين للبحث عن المواهب في الدوريات الأفريقية.

وتعمل أيضًا أكاديمية النادي على قدمٍ وساق في تصعيد لاعبين مميزين، كان آخرهم «كاسيوس ميليولا» صاحب الـ21 عامًا، والذي يعد أحد أبرز نجوم وهدافي الفريق منذ بداية الموسم الحالي، بعد عدة سنوات تحدث فيها موقع الفريق على هذا اللاعب وإمكانية تطوره كإحدى المواهب المنتظرة قبل تصعيده للفريق الأول.

ما زلنا لم ننته بعد، باقي أن نخبرك كيف سيسيطر صن داونز على الكرة الأفريقية لعقود؟

فليمنج برج يُجيبك

لا يخفى على أحد الدور الذي بات يلعبه المدير الرياضي في الأندية وفي كرة القدم الحديثة، وأن وجود مدير رياضي ناجح من شأنه أن ينقل أي فريق إلى مستوى آخر.

وهو ما فعله صن داونز مؤخرًا، إعلان التعاقد مع الدنماركي «فليمنج بيرج» في 4 أبريل عام 2022، لتولي منصب المدير الرياضي الجديد بالنادي الجنوب أفريقي، لخلافة أسطورة برشلونة السابق خوسيه «رامون أليسانكو»، وهو الرجل الذي حظي بمسيرة هائلة مع الكرة الدنماركية ونادي تشيلسي الإنجليزي.

نهايةً، يمكننا القول إن مشروع صن داونز الذي بدأ من رحم المعاناة، وانتهى لما هو عليه الآن، هو نموذج يجب أن تسير على دربه باقي الأندية الأفريقية التي تتفاخر بتاريخها القاري؛ وإلا قد يصبح هذا التاريخ جزءًا من الماضي.