واجهت الخلافة العباسية منذ قيامها عدداً من الحركات الشعوبية الفارسية التي سعت لإحياء دولة فارس بعد زوالها على يد العرب، وكان أبرزها حركة سنباذ، التي استندت إلى أفكار وعقائد دينية سابقة على الإسلام، واتخذت من قتل أبي مسلم الخراساني عام 755 شرارة لانطلاقها.

أبو مسلم الخراساني، كان من دعاة الخلافة العباسية في خراسان، وكان واليها، وبحسب روايات أتباعه هو واحد من أحفاد آخر الأكاسرة يزدجرد الثالث، والذي تنبأ بدوره بعودة الحكم لأحفاده. ومع قيام الدولة العباسية ارتفعت مكانته وكان محبوباً من أتباعه، والتف حوله الفرس والموالي لاعتقادهم أنه من أحفاد آخر ملوك فارس، لذا خشي منه الخليفة أبو جعفر المنصور وقتله.

حركة قومية لزوال سلطان العرب

يذكر عبدالعزيز الدوري في كتابه «العصر العباسي الأول، دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي»، أن ظهور حركة سنباذ وغيرها من الحركات الفارسية آنئذ يرجع إلى دعاية أتباع أبي مسلم الخراساني، حيث اعتقد البعض بإمامته وسُموا بـ«المسلمية»، وربما اعتبره بعض المقدسين له كأحد خلفاء زردشت الذي انتظروا رجعته ليملأ الأرض عدلًا، ويعيد دولة المجوس، ويستولي على الأرض كلها ويزيل مُلك العرب وغيرهم، وفق ما يذكر أبو الريحان البيروني في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية».

لذا يرى «الدوري»، أن حركة سنباذ وغيرها لم تكن إلا مظهراً من مظاهر وعي الأمة الإيرانية متخذة شكلاً دينياً، ويستند في ذلك إلى ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» والذي بين أن الثنوية (يؤمنون بوجود أصلين للوجود وأزلية النور والظلمة) والمجوس أرادوا إرجاع ممالكهم وإبطال الإسلام، ولكنهم رأوا إخفاء مقاصدهم بالتستر بالإسلام.

ولعل تقي الدين المقريزي يوضح هذا أيضًا في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» حين يقول «إن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها، بحيث إنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيداً لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت الفرس أقل الأمم خطراً تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى». وكان من بين من قام بذلك هو سنباذ الذي كانت ثورته روحاً قومية، بعدما بشر أتباعه بنهاية السلطان العربي، وأعلن أنه يريد الذهاب إلى الحجاز وهدم الكعبة.

هكذا أراد الفرس التحرر من سلطان الإسلام فوجدوا في أبي مسلم الرجل المنتظر الذي يعيد دولة المجوس، فلما قُتل أبو مسلم بقي أثر دعايته بعده، ولكن ذلك الأثر اقتصر على بعض نواحي إيران وعلى بعض الطبقات فقط، وهذا عامل مهم في فشل الحركات الفارسية في العصر العباسي الأول، بحسبما ذكر «الدوري».

مقتل أبي مسلم الخراساني وثورة سنباذ

أدى مقتل أبو مسلم الخراساني إلى قيام اضطرابات في شرق إيران وغربها، وبعد شهرين ثار سنباذ سنة 755 في خراسان، حيث طالب بدم أبي مسلم والثأر له، وأخبر أتباعه أن أبا مسلم لم يمت وأنه تلى اسم الله الأعظم قبل أن يُقتل فصار حمامة بيضاء وطار.

وكان سنباذ من أهل قرية «أهن» في نيسابور، واعتبره محمد بن جرير الطبري في كتابه «تاريخ الرسل والملوك» مجوسياً، ورأى نظام الملك الطوسي في كتابه «سير الملوك» أنه كان مزدكياً (من فرق الثنوية)، ولكن أبا الحسن المسعودي كان أدق منهما، إذ اعتبره في كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» خرمياً أي من القائلين بإمامة أبي مسلم وأنه ما زال حياً وسيعود، وفي كل الأحوال كان سنباذ من صنائع أبي مسلم وأحد قواده المقربين.

استغلال أموال أبي مسلم في تجهيز الجيش

بدأ سنباذ حركته في نيسابور ودعا الخرمية والمزدكية، فالتف حوله عدد كبير منهم، كما دعا أهل طبرستان فأجابه كثير منهم بخاصة أنها كانت مجوسية حتى آنئذ. ويذكر الدكتور السيد عبدالعزيز سالم في الجزء الثالث من كتابه «العصر العباسي الأول»، أن سنباذ خرج في عسكر كثيف من أتباعه، ومعظمهم من أهل الجبال والضياع، فغلب على نيسابور وقومس والري وتسمَّى بـ«فيروز إصبهيد» أي «القائد المنتصر»، واستولى وهو بالري على خزائن أبي مسلم التي خلفها بالري حين اتجه إلى الحج ثم مقابلة الخليفة العباسي أبي العباس السفاح.

وبحسب سامي محمد يوسف الجعفري في دراسته «التنافس على السلطة في العصر العباسي الأول»، استفاد سنباذ من هذه الأموال في جلب الأعوان والمؤيدين، وتعبئة قواته في مناطق الجبال والمناطق الأخرى التي تتجمع فيها الخرمية، فأرسل سنباذ من هذه الأموال إلى خورشيد أمير طبرستان لكسب تأييده، وإرسال المقاتلين كي يحاربوا في صفوفه، وانضم إليه بسبب ذلك كثير من سكان طبرستان والديلم والجبال.

ويذكر غلام حسين صديقي في كتابه «الحركات الدينية المعارضة للإسلام في إيران في القرنين الثاني والثالث الهجريين»، وترجمه للعربية مازن إسماعيل النعيمي، أن حركة سنباذ بدأت من مسقط رأسه في مدينة نيسابور والتي تكن مركزاً لحكم ولاية خراسان في ذلك الوقت، لكن موقعها الجغرافي الذي يعتبر ممراً للشرق وقربها من العراق مركز الخلافة أعطاها أهمية بالغة، لذلك جعل منها مركزاً لدعوته.

 لكن ما يثير دهشة «صديقي» في عصيان سنباذ هو سرعة تطور عمله بتمكنه من جمع هذا العدد الكبير خلال سبعين يوماً، وسيطرته على قسم من ولايات خراسان وكومش والري والتوجه إلى العراق على رأس 90 إلى 100 ألف مقاتل، وهذا ليس بالأمر العادي.

ويفسر «صديقي» ذلك بما ذكره نظام الملك في كتابه المذكور آنفاً، من أن سنباذ كان مزدائياً لكنه لم يكن متعصباً لدينه، ونجح مع ممن لم يكونوا على دينه رغم بعدهم عن مبادئه لتساهله حسب اقتضاء الحاجة وسياسته في هذا المجال، لذا كانت أفكاره تتفق مع أفكار كل فرقة من أتباعه، ففي جانب يقول إنه خرج للثأر لأبي مسلم، وفي مكان آخر كان يقول لأهل العراق وخراسان إنهم لم يقتلوا أبى مسلم وإن الخليفة المنصور أراد قتله فتحول إلى حمامة بيضاء وطار إلى السماء، وهو الآن في سور من نحاس يجلس مع المهدي ومزدك، وسيخرج الثلاثة يتقدمهم أبو مسلم ووزيره مزدك بن موبذان مؤسس المزدكية، وأن رسالة قد وصلته– أي سنباذ- بذلك.

ويذكر «صديقي» أن موضوع عدم قتل أبي مسلم وادعاء أن الذي قُتل شخص آخر شبيه بما كان يقوله أتباع الفرقة المغيرية عن محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كما أن قصة الحمامة البيضاء كانت متداولة لدى اتباع الفرقة الكيسانية التي كانت تدعو إلى إمامة محمد بن علي بن أبي طالب أيضًا، في إشارة إلى أن ذلك أسهم في جذب أنصار جدد.

اندحار الحركة ومقتل سنباذ

يروي «سالم» في كتابه المذكور، أن سنباذ عاث بقواته فسادًا في إقليم الجبال وسبى النساء ونهب الأموال، وكان يُظهر أنه يقصد الكعبة لهدمها، فوجه إليه الخليفة المنصور جيشًا عدته عشرة آلاف فارس بقيادة جهور بن مراد العجلي، فاشتبك مع سنباذ في موقعة جرجبنان بين همذان والرى، وقدم سنباذ السبايا النساء المسلمات على الجمال، فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل وصرخن «وامحمداه! ذهب الإسلام»، وهبت رياح شديدة فنفرت الإبل وتراجعت إلى معسكر سنباذ، فاختلف صفوف عسكره فقاتلهم جهور وعسكره قتالًا شديدًا فولوا الأدبار ودارت عليهم الدائرة، وقُتل منهم ستون ألفًا، وسُبى من ذراريهم أعداد كثيرة.

ويذكر «صديقي» في كتابه، أنه لا يُعرف تحديدًا أسباب اندحار سنباذ، لأن تعداد جيش العرب كان أقل بكثير من جيشه.

ويروي أنه عندما كان سنباذ في الري أرسل قسمًا من أمواله إلى خورشيد أمير طبرستان، وأهداه 6 ملايين درهم، وبعد اندحاره توجه مع عدد قليل من أتباعه إلى طبرستان، ولجأ إلى خورشيد الذي أرسل بدوره ابن عمه «طوس» مع نُزل وهدايا وخيول لاستقباله، وعندما وصل قدم شروط الآداب، لكن سنباذ تعامل معه بتكبر بعكس ما تقتضيه الضرورة.

غضب «طوس»، وقال «أنا من بني أعمام الإصبهبذ (أي الأمير) وأرسلني لاستقبالك»، فرد سنباذ عليه بخشونة، فصعد «طوس» على فرسه واستل سيفه وضرب عنق سنباذ، وجلب أمواله ومتعلقاته إلى الإصبهبذ الذي أسف بدوره لهذه الحادثة وزجر «طوس»، ولكنه استولى على خزائن وتركات أبي مسلم وسنباذ.

لكن أبا علي البلعمي في كتابه «ترجمة تاريخ الطبري» يطرح رواية أخرى مفادها، أن سنباذ بعد هزيمته عاد إلى الري، ثم صار إلى جرجان، ولكن قتله أصبهبد جرجان هرمز بن الفرّخان بأمر من الخليفة المنصور.

ويذكر «صديقي»، أنه رغم انتهاء حركة سنباذ بقتله، فإنه كشف عن أمرين مهمين، أولهما كثرة عدد الإيرانيين الذين كانوا يعارضون الدولة العباسية، والدليل على ذلك اجتماعهم حول جهور عندما اختلف مع الدولة فيما بعد، والثاني تعلق الإيرانيين بأبي مسلم إلى الحد الذي صار عندهم إمامًا ونبيًا، وأن شهرته لم تنته بعد مقتل سنباذ، فتمسكوا بآرائهم ورسومهم الوطنية ولم يتغيروا بسرعة عن دينهم القديم.

فبعد مقتل «به أفريد» الذي قاد حركة ثورية ضد الخلافة العباسية، عُدت فرقته من فرق الدين المزدائي رغم عدم نجاحه، وكان ذلك سببًا في النزاعات والصراعات بين الإيرانيين الذين كانوا في ذلك الوقت في أمس الحاجة لوحدة الفكر والعقيدة، لكن سنباذ وحدّ ذلك باسم أبي مسلم، وبقيت مجموعة من أتباع سنباذ وفية له بعد موته، بحسب «صديقي».

ثورة جهور العجلي على الخليفة العباسي

الغريب أن هزيمة سنباذ كانت سببًا في ثورة جهور العجلي على الخلافة العباسية رغم أنه كان داعيًا من دعاتها الأوائل. ويروي محمد عبدالحفيظ درويش في دراسته «الجيش في العصر العباسي الأول 132- 232»، أن جهور هزم سنباذ عام 755 وحوى ما في عسكره من خزائن وخزائن أبي مسلم، لكنه لم يوجهها إلى المنصور، فوجه إليه الأخير القائد محمد بن الأشعث الخزاعي في جيش كبير، فلقيه وحاربه فانهزم جهور وأصحابه وهرب إلى أذربيجان.

أعلن جهور الثورة ضد العباسيين وانضم له الإيرانيون، فتوجهت نحوه ثلاثة جيوش، الأول بقيادة عمر بن حفص المهلبي، والثاني بقيادة محمد بن الأشعث، والثالث قوة عسكرية تحركت من خراسان، وانهزم جهور ولجأ إلى والي أذربيجان يزيد بن حاتم المهلبي للتوسط له عند الخليفة، ولكنه قُتل من قبل أعوانه في الطريق.