لمدة 40 عامًا أحكم سالازار قبضته على السلطة في البرتغال، كان نموذجًا فريدًا في الديكتاتورية، هادئًا لا يميل للمباهاة، محترفًا فيما يفعل لا هاويًا، لم يثر ضوضاء كالذي أثارها أدولف هتلر أو موسوليني ولا حتى جاره الديكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو، لكن رغم ذلك احتفظ سالازار بدولة قويّة لسنوات أطول من أي واحد منهم.

لقد صاغ سالازار معايير خلطته السحرية للسيطرة الأمور هذه المدة عبر الحفاظ على توازن دقيق بين مكوّنات البلد، الأغنياء والمحافظون وأصحاب الأراضي منحهم امتيازات مالية كبيرة جعلتهم يوافقون على وجوده، أما الجيش، فقد منحه منفردًا قرابة الـ40% من ميزانية البلاد، بتلك الـ40% جعل سالازار الجيش أداةً لقمع أي صوت مخالف من الصحافيين والنقابيين، لكن قمع سالازار كان هادئًا وسريًا، لا دماء فيه، وإن وُجدت ففي الأزقة المهجورة لا بشكل علني ولا ضد الجماهير بصفة عامة.

أما الجماهير أو العوام أو الشعب بمعنى أدق، فقد حافظ سالازار على صمته، بل حصل على مباركته في لحظات كثيرة، بجعلهم شبعى طوال الوقت، 9 ملايين مواطن حرص سالازار دائمًا أن يظلوا جاهليين أُميين وفقراء، فقد كان دخل الفرد في البرتغال عام 1967 قرابة 420 دولارًا سنويًا، في دخلٍ هو الأدني في أوروبا بالكامل، وكانت نسبة الأمية في البرتغال هي الأعلى في العالم، لكن استقرار حياتهم عند مستوى معين، دون زيادة لكن دون تدهور أيضًا، جعلهم يقتنعون أن سالازار يفعل كثيرًا من أجلهم.

ضد الخُطب والأغلبية والوعود الحالمة

حتى قبضته الصارمة امتدت لأقاليم ما وراء البحار حيث المستعمرات البرتغالية التي ضمت قرابة 13 مليون نسمة، فقد وضع فيها ما إجماله 100 ألف جندي لقمع أي همس بالانتفاض أو الثورة ضد الاحتلال البرتغالي. لكنه أيضًا لم يكن يتباهى بذلك أمام شعبه، فقد كان مؤمنًا بأن أي معلومة للبرتغاليين سوف تملأ شعورهم القومي ما يعني أنهم قد ينتفضوا ضدّه يومًا، فقد قال مرة أومن أنّه يجب معاملة البرتغاليين كالأطفال، الكثير من أي شيء سيفسدهم بالتأكيد.

وفي خطاب لاحق أضاف مؤكدًا أنه يرى كلمات الصالح العام والشأن القومي وهمًا يخدع به السياسيون الناس، فقال إنه ضد البرلمانية تمامًا، وأنه يكره الخطب والأغلبية والوعود الحالمة، فكلها أشياء في نظره بلا معنى وتُضيع المجهود في العبث تحت وهم الصالح العام أو التوافق للوصول لمصلحة الوطن.

لم يكن سالازار جاهلًا بحقيقة أنه ديكتاتور فاشي في نهاية المطاف، لكنّه كان يمتلك فلسفته الخاصة في تلك النقطة أيضًا، فقال إنه يعلم أن ديكتاتوريته، سماها ديكتاتورية بشكل صريح، تشبه الديكتاتورية الفاشية في بعض الأمور، وذكر على سبيل المثال، الحرب التي يُعلنها على مبادئ ديموقراطية معيّنة، أو الطابع الاجتماعي الذي يفرضه سالازار على شعبه، لكنّه قال في النهاية إن الديكتاتورية الفاشية تجعل من الحكام آلهةً كأنهم قياصرة وثنيون، لكنه وديكتاتوريته الفريدة لا يفعلان ذلك، ولا يطلبان من أحد أن ينصبه إلهًا.

بل على العكس، فقد حافظ سالازار على علاقة طيبة مع مؤسسات دولته الدينيّة، فعمل مع الكنيسة الكاثوليكية وأعاد الاعتبار للمتدينين بعد أن أهانهم الحراك الوطني عام 1910 حين بدأت موجة التحرر من الملكية في غزو أوروبا، لكن انقلاب الجنرال أنطونيو كرمونا الذي استعان بسالازار، جعلهم في مأمن من الهجمات المتطرفة، ومنحهم الأمان لممارسة طقوسهم. وقد كان سالازار بصلواته اليوميه ومواظبته على حضور القُدّاس مثالًا يرغب الناس في اتباعه، خصوصًا إذا أضفنا لها حياته البسيطة والمنضبطة.

الدولة لا تُعلّم أحدًا… التعليم في المنزل

لقد أعلنها أكثر من مرة أن قوائم ملكه ودولته هي 5 أشياء، الله والوطن والسلطة والأسرة والعمل. ولم يسمح للمرأة بالعمل، فعملها المثمر في المنزل، لأنه لم يعترف أن التعليم مسئولية الدولة بل أكدّ أن التعليم مسئولية الأسرة فحسب، كما سخط على الرجال العاطلين، ولم يمنحهم أي تأمينات أو تعويضات، بل دائمًا ما كان يُجنّدهم للعمل في المشاريع القومية ذات الأشغال الشاقة.

لم يكن مباليًا بإعجاب الناس بشخصه، فقد قال ذات مرة أنه لا يمكن للحاكم أن يسحر الناس بشخصيته ويحكمهم في نفس الوقت، لكنه كان دائمًا ما يحصل عليه، كلما زاد قمعه زاد إعجاب الناس به، لأن زيادة القمع كان يرافقها زيادةً في الوضع الاقتصادي، لم تكن الزيادتان متوافقتان في الحجم لكنّها كانت مرضية للناس، لأنها كانت عبارة عن جلب المزيد من الخيرات من المستعمرات البرتغالية في إفريقيا ومنحها للناس، لأنه أخبرهم ذات مرة أنه لا توجد حلول سريعة في يده بخصوص فقرهم، وكل ما يمكنه فعله هو زيادة مستواهم الاجتماعي بين الحين والآخر.

خلطة سالازار لم تكسب انبهار الجماهير الجاهلة، ولا انبهار زملائه الفاشيين فحسب، بل نال مديحًا من ليبراليين كثر، على رأسهم دين أتشيسون، وزير الخارجية البريطاني، إذ وصفه بأنه رجل رائع وأقرب ما يكون لأفلاطون، ووصفه لاحقًا بالملك أفلاطون. إلا أنه كان أفلاطونيًا لا يؤمن بالشعب ولا بالجماهير، ويردد دائمًا أن التجارة عمل مهم لدرجة أن الحكومة لا يجب أن تتركه أبدًا للمحكومين، ويُردد أيضًا أن حل مشاكل الشعب لن يأتي من الشعب، بل من النخبة التي تحكم هذا الشعب.

النخبة التي يجب أن ترتدي قبعات لأن سالازار يكره أن يقابله أحد بلا قبعة، والواقع أنه كان يكره أن يقابله أحد في العموم، فالمقابلات لن تغير شيئًا من رأيه ولن تضيف له جديدًا، فهو يعلم كل شيء، كما أنه لا يحب أن يقطع خلوته التي تستمر 12 ساعة يوميًا، في بيته المطلي بالأبيض والخالي من الزوجة أو العشيقات أو الخدم، فلا أحد معه سوى بنتين تبنّاهما طفلتين.

قد تنسى الشعوب أن الحرية حق

لقد خلق سالازار دولة خاضعة ومهزومة، أصوات معارضة ضعيفة ومقسّمة ثم تختفي في ظروف غامضة، وخلقت تقنياته القمعية وضرباته القاصمة المتتابعة شعبًا غير مبالٍ بأي شيء سوى أن يجد طعامًا ومسكنًا آخر اليوم. خنق سالازار طموح الجميع، رغم أنه كان شغوفًا بالتعليم وأرسله والده مع أخواته الأربع للتعليم في مدرسة يسوعية، والتحق بجامعة كويمبرا بعد ذلك.

لكن قامت الانتفاضة الشعبية وعُزل الملك مانويل الحادي عشر تمهيدًا لإدخال النظام الديموقراطي البرلماني، فتاثرت حياة سالازار، فأضحى من لحظتها ناقمًا على الديموقراطية مؤمنًا بأنها مصدر للإزعاج والاضطرابات. حوّل انزعاجه للدراسة فحصدت 3 درجات دكتوراه، واحدة في الآداب وواحدة في البيئة وواحدة في الزراعة.

دخل السياسية عبر الحزب الكاثوليكي ثم بات ثالث ثلاثة من الحزب الفائزين بعضوية البرلمان البرتغالي، لكنّه استقال سريعًا وعاد للتدريس لأنه رأى محاورات ونقاشات البرلمان فارغةً بلا معنى ومضيعة للوقت. وعاد للسياسة بعد انقلاب عام 1926 بناءً على طلب الجنرالات، لكنه طلب صلاحيات كاملة فرفضوا طلبه فاستقال وعاد للتدريس، ثم بعد عامين جاء انقلاب كرمونا فاستدعى سالازار ومنحه الصلاحيات التي يريد، وزارة الاقتصاد ووزارة المستعمرات، ولاحقًا وزارة الدفاع، ثم رئاسة الوزراء.

فصاغ نظرياته القمعة في دستور جديد بعنوان الاستادا نوفا، الدولة الجديدة، حين البرتغال دولة موحدة وشاملة، فيها حزب واحد فقط، حزب سالازار، وتُعتبر الإضرابات جريمة يُعاقب فاعلها بقسوة بالغة، كل ذلك والشعب البرتغالي يبدو مستسلمًا، لأنه لا يجد أي تغيير يطاله كأفراد تريد الطعام والمسكن فحسب، لا يدركون أن لهم حقوق أخرى كالتعليم والصحة والحرية.

شحّ الطعام فطالب الشعب بالديموقراطية

زادت قوته حين توفي الجنرال كرمونا لكن رفض سالازار الرئاسة وقرر أن يبقى مكانه حيث تتشابك جميع الخيوط، ربح سالازار عدة سنوات في الحكم بدعم الديكتاتور الإسباني فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية. ارتفعت نبرات التمرد في المستعمرات البرتغالية في أفريقيا، نجح سالازار في قمعها ظاهريًا لكنها كانت قد أنهكت خزينة الدولة وأزهقت أرواح قرابة 1500 جندي برتغالي.

ومع تتابع الانتفاضات وتحول قمعها إلى خسارة أكبر من السماح لها بالفوز اضطر سالازار للقبول بالحكم المستقل لبعض المستعمرات، شعرت النخبة في الداخل أن قبضة سالازار بدأت في التراخي فنظموا اضطرابات وانقلابات ضده، لكن نجح سالازار في قمعها، فقد كان الشعب في صفه لأن عجز الخزينة لم يظهر جليًا بعد.

لكن بعد شهور قليلة، عام 1968، بدأت المستعمرات المستقلة في منع نهب وسلب خيراتها من قبل البرتغاليين، فتوقفت الأموال السهلة التي كانت تتدفق على الشعب البرتغالي ويستخدمها سالازار في تضليل الناس عن حقيقة قمعه ودولته الحديدية، أصوات المعارضة ظلت كما هى، فالتجريف الذي مارسه سالازار لم يكن يسمح بظهور معارضة قوية بين ليلة وضحاها، لكن ما تغيّر أن أصوات الشعب المؤيد لسالازار بدأت في الخفوت، أخذ الشعب في التململ لأن الطعام لم يعد متوافرًا، والظروف الاقتصادية ثابتة السوء بدأت في التراجع نحو الأسوأ.

رافق ذلك اختفاء سالازار عن المشهد إذ عانى من شلل ناتج عن سكته دماغية، فأبعده مارسيلو كايتانو، وزير خارجية البرتغال في ألمانيا، عن السلطة وانتزع منه رئاسة الوزراء ليُعيد الشعب البرتغالي إلى حالته الأولى من الخضوع والقهر، وتُرك سالازار وحيدًا ليموت بعد عامين من إبعاده عن الحكم.