كالعادة، ساورني فضول تجاه الرواية منذ الإعلان عن صدور ترجمتها العربية قبل ما يقارب خمسة أشهر، كونها عملاً يابانيًا هو سبب أكثر من كافٍ، لكني قررت تأجيل اقتنائها لوقت أنسب، ربما إلزامًا لي بقراءة ما تراكم علي وتأخرت قراءته -كالعادة-، أو حتى كنوع من تأديب النفس عن شراهتها المتزايدة.

مرت هذه الأشهر وإذ بصديقة لي تفاجئني بأنها اقتنتها وبدأت قراءتها، فقررت أنني لن أستطيع مقاومة فضولي أكثر مما فعلت، لكن يبدو أنه وبشكل ما لم يكن الوقت المناسب بعد، لأني كنت بانتظار إنهاء ما كنت أقرؤه حينئذ. وقبل الانتهاء منه، فاجأتني ذات الصديقة باقتراح إرسال نسختها من الرواية لي، كان ذلك في غاية الغرابة، بالطبع كنا اعتدنا تبادل الكتب من وقت لآخر لكن ذلك كان بحكم لقاءاتنا المتكررة ومواعيدنا الكثيرة. بدى الأمر لوهلة غريبًا، أن نتبادل الكتب بهذا الشكل عبر المحافظات والمدن، لكنه بذات القدر أو أكثر مثير.

ربما كانت تلك طريقتنا في الحفاظ على القرب ومقاومة فعل المسافات.

بعد يومين وصلني الطرد وفيه روايتان هذه إحداهما، لم أكد أشرع قراءتها حتى تفاجأت بإنهاء ما يقارب ثلثها في جلسة واحدة، وهذه ألطف بداية ممكنة لعمل.

مباغتة القارئ

بدأت الحكاية بما يشبه بداية جريمة دوستويفسكي، نفس الوتيرة الهادئة في المقدمة ثم الجريمة المرتكبة بشكل معلوم تمامًا وعلى مشاهد القراء، وما يتلو ذلك ليس إلا تفانٍ للمشتبه بهم، في محاولة النأي بأنفسهم عن دائرة الاشتباه، أو هكذا نظن على أي حال.

مع التقدم في القراءة يغدو النص عبارة عن دائرة مغلقة من السرد، وإعادة السرد لتفاصيل التحقيق في الجريمة، السيناريوهات المحتملة للحادث، والنبش في خلفيات المشتبه بهم وحججهم، في عودة لا نهائية لبداية مسار يبدو لنا شديد التشعب، بينما هو في الحقيقة مجرد طريق ينتهي بحارة سد، لكن الكاتب وحده العارف بها -كما يتضح آخر الأمر، لذلك وجدتني منهمكة في متابعة التفاصيل ومتشوقة لمعرفة سير التحقيق.

الحكاية شديدة السلاسة، وبرغم الكم الهائل من التفاصيل الفسيفسائية التي هي متنها الأساسي، إلا أنها بقيت قادرة على جذب انتباهي والحفاظ على فضولي في حالة من التأهب لتلقف كل جواب محتمل لسؤال يطرحه أي سيناريو يطرأ في الصورة. والحق أن الكاتب استطاع إشغالي وإبقائي منهمكة في متابعة هذا التسلسل الدقيق للتفاصيل، حتى أني نادرًا ما وجدت الفرصة لالتقاط أنفاسي ومحاولة التفكير في الأمر بعيدًا عن سير التحقيق وشكوك المحققين والآراء المتبادلة بين الشخصيات، كل ذلك كان أشبه ببركة موحلة تمتص فضولك الطفولي ورغبتك في اللعب ساهيًا عن العقاب المنتظر.

وقد كان الكاتب أسوأ من أم حانقة في مباغتته لي في النهاية، كان يكشف كيف استطاع البطل تحدي المحققين بشبكة منسوجة بدقة وعبقرية، لكن المفاجأة كانت في سقوط القراء مع المحققين في براثنها بلا أدنى فكرة عن حقيقة ما يحدث، لتفاجأ أنك فشلت في تحدٍ لم تعرف سوى اللحظة أنك كنت جزءًا منه، ووجودك كان ضروريًا للبطل ليستطيع إثبات عبقريته بل وتفانيه.

ربما هذا أكثر ما أحببت في العمل، عوضًا عن سلاسته، قدرته على مباغتتي لأرفع الرواية عن وجهي وأستقيم في جلستي في محاولة لتفهم الصدمة التي أيقظتني للتو من غفوي. وما استطعت تركها قبل إنهاء آخر كلمة فيها، لأكون أنهيت ثلثيها في جلسة لم أكد أستطيع قطعها.

غموض الشخصية الرئيسية

ولو تغاضيت عن المفاجأة في سير الأحداث، فلن أستطيع بأي حال تجاهل الشخصية الرئيسية في الحكاية؛ «إيشيغامي». وهو من ذكرني في البداية بـ «يوشيكاوا» (أحد الشخوص الثانوية في ثلاثية هاروكي موراكامي 1Q84)، الصفات الجسدية كانت متقاربة فحضرت صورة الأخير في ذهني مباشرة، ومع تعقد الحوارات والأحداث وجدت في إيشيغامي التصميم والعزم ذاته، بيد أنه كان أكثر دهاءً بما لا يقارن، بالإضافة، وذلك الأهم، للجانب العاطفي فيه الذي لم ينكشف سوى بدراماتيكية شديدة في النهاية.

كان الكاتب قد موهه في هيئة الشخص البارد والعملي والمريب الذكاء، حتى أن إعجابه بجارته الجميلة لم يعدُ نوعًا من الشعور السطحي الناتج عن فراغ من نوع ما في نظري، لكن مع تكشف حقائق، اتضح أن إيشيغامي هذا نفسه مكمن الغموض الرئيس، الأعظم من الجريمة نفسها، شخصية شديدة التعقيد والغرابة والتناقض، تخفي تحت الوجه الخالي من التعبيرات بشكل غريب طبقات عميقة من المشاعر والأفكار.

هل يمكن للمجرم أن يكون حياديًا؟

هل يمكن للجريمة أن تُرتكب بموضوعية، بمعزل عن الحقد والضغائن والمشاعر، ولمجرد كون ارتكابها أمرًا يبدو «عقلانيًا»؟

لم أفهم حقًا كيف يمكن لشخص أن يحب بهذا القدر من الإخلاص والبراءة، وأن يكون هذا الحب نفسه الدافع الأساسي لارتكاب جريمة بذلك القدر من «اللا شر» الذي لا أجد له وصفًا آخر!

هذا الجانب العاطفي منه كان صادمًا بما لم أستطع تخطيه بعد، ولا أعتقد أن من المبالغة في شيء اعتباره ضربة كبرى لغرور أي قارئ يجد في نفسه عادة قدرة على التنبؤ بمآلات الحكايا. وكون الكاتب قد بنى العمل بأكمله على تفصيلة تبدو شديدة الصغر مُخبأة في النهاية، هو شيء في غاية اللطف والجمال.

هكذا بكل تلقائية، استطاعت جملة واحدة تبرير كل الغرابة وأسباب الاندهاش فيما سلف وفاجأنا، وببساطة تكاد تكون مستفزة. حقًا، لا أجد ما هو أكثر مدعاة لحب الكاتب من تأكيده على أن «الشيطان يكمن في التفاصيل» الأصغر منها، وأن الجرائم يمكن أن تكمن في المشاعر وحتى الأكثر رهفًا منها وبراءة.

كنت قد قرأت مرة لشاعر تركي ما يشبه في معناه أن الحب ليس بكثرة قدره وإنما بجماله، لا يهم كم نحب الآخر، وإنما كيف نحبه. حضرني هذا القول بوضوح وأنا أقف على نهاية الرواية غير مصدقة للطريقة التي أحب بها إيشيغامي (الشخص البارد والعملي والمريب الذكاء) جارته. لست أناقش أخلاقية الجريمة من عدمها أو إمكانية تبريرها، بالطبع لا، لكني ببساطة لا أستطيع تجاهل حقيقة أنه وضع حياته رهنًا لحياتها وسعادتها بدون تكليفها عناء معرفة هذه الحقيقة، وبهذا أفصح اسم الحكاية عن مغزاه الحقيقي، فهو لم يكن من البداية هربًا من الشبهة، وإنما تفانيًا في الحب.

وبهذا يكون رصيد اليابان في قائمة قراءاتي ازداد عملاً آخر في غاية الجمال، وكاتبًا أكتشفه للمرة الأولى بالكثير من المتعة والحيرة، وهو أمر آخر أمتن للطفه بعد وجود الأصدقاء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.