انقضت عشر سنوات على حكم انقلاب الإنقاذ، أحكمت فيها «الحركة الإسلامية» سيطرتها على كل مفاصل الدولة في السودان وقضت على كل صوت معارض لها. دب الخلاف بين نخبتها السياسية ونخبتها العسكرية حول مَن سيفوز بثمار الانتصار على المعارضة، النخب العسكرية قالت، إنها من جاءت بالحركة الإسلامية للسلطة وانتصرت لها، ونخب السياسية قالت، إنها من خططت ودبرت ومكنت للعسكريين، وأنه آن الأوان لتنحي العسكر عن السلطة للسياسيين ليحكم «نظام التوالي السياسي».

التفّ سياسيو الحركة الإسلامية السودانية حول زعيمهم «حسن الترابي» والتف العسكريون والأمنيون في الحركة حول قائد انقلاب الإنقاذ «عمر البشير»، وانتصر في النهاية صاحب الدبابة، وصارت الحركة الإسلامية بحكم المنحلة.

فقدت الإنقاذ بخسارتها للنخبة السياسية التي كانت معها السند الجماهيري الذي كان لها، فلم يعد لها ذلك الزخم المدوّي، ولم تعد ترعب العالم، وتحولت الإنقاذ من أسد كاسر أمام الولايات المتحدة وما كانت تسميه الإمبريالية إلى مجرد قط أليف يطلب ويتمنى الرضا الأمريكي، خصوصًا بعد خطابات «جورج بوش»، الرئيس الأمريكي، عقب هجمات 11 سبتمبر/يلول، والتي قسّم فيها العالم إلى قسمين؛ أخيار يقفون معه وأشرار يقفون ضده.

نتيجة لكل هذا، انهارت قوات المتطوعين الداعمين للجيش السوداني (الدفاع الشعبي)، والذين كان لهم دور كبير في شن حرب عصابات على قوات قرنق، وعطلت كثيرًا من تقدمه في جنوب السودان وحققت عليه انتصاراتٍ دفعته في بعض الأوقات إلى الهرب والانسحاب نحو الحدود الأوغندية والكينية.


الدعم السريع بديلًا عن الدفاع الشعبي

بتفكك الدفاع الشعبي أصبح الجيش السوداني أعزل يقاتل ميليشيا قرنق في حرب عصابات معقدة في جنوب السودان، تعجز عن خوضها الجيوش النظامية، خصوصًا في جنوب السودان حيث تخاض المعارك في الغابات، وفي النهاية بعد شد وجذب وضغوط أمريكية وقع اتفاق سلام بين الحكومة وقرنق تضمن حق تقرير المصير لجنوب السودان، وانتهت الحرب التي استمرت من 1955 م وحتى 2005 م كأطول حرب أهلية في أفريقيا.

انفجرت أزمة دارفور بعد انتهاء حرب جنوب السودان ولأن الحرب كانت في ذلك الإقليم حرب عصابات أو ما يطلق عليها حرب الغوريلا، احتاجت القوات المسلحة إلى قوات مساندة لمكافحة التمرد فأنشأت قوات شعبية من قبل بعض القبائل الموالية للدولة لمكافحة التمرد في عملية تكرار بالمسطرة لتجربة الصحوات في العراق، التي استطاعت تدمير القاعدة واشتهرت هذه القوات عالميًا باسم قوات الجنجويد.

استطاعت القوات (الأهلية) تدمير الحركات المتمردة واستعادة كل الأراضي التي سيطروا عليها، لكن كانت التكلفة الوطنية باهظة، فقد تورطت هذه الميليشيات التي تعمل بإشراف الدولة في انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، مما أدى لاحقًا إلى إحالة ملف دارفور إلى محكمة الجنايات الدولية ومنها تم استصدار أمر توقيف بحق الرئيس السوداني كسابقة دولية لم تحصل من قبل، وهي اتهام رئيس من قبل محكمة دولية وهو على رأس عمله ويتمتع بالحصانة الدبلوماسية.

اختارت الدولة في السنوات الأخيرة هيكلة هذه القوات الشعبية وتحويلها إلى قوات قومية، فهيكلتها تحت اسم قوات الدعم السريع، بإشراف جهاز الأمن السوداني، وتم إلغاء الطابع القبلي لهذه القوات بإدخال أبناء مختلف القبائل السودانية شرقًا وغربًا بقيادة الفريق محمد حمدان حميدتي.

لقد كان المجتمع الدولي رافضًا لهذه القوات منذ نشأتها الأولى، ولذلك ذخرت محاضر مجلس الأمن ومجالس حقوق الإنسان بعشرات التوصيات التي تدعو لحل هذه القوات واصفةً إياها بالميليشيا (القبلية)، ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلًا فقد انفجرت أزمة اللاجئين غير الشرعيين في 2015م، ومعها ظهر التهديد الإرهابي لتنظيم داعش في ليبيا مما جعل الغرب يغيّر رأيه وموقفه من القوات ومن النظام الذي يستند عليها.

كما جاءت حرب اليمن كخبر سار للنظام الذي أبدى حماسًا كبيرًا للمشاركة، خصوصًا وأنه يمتلك (الدعم السريع) القوات الجاهزة للدخول في أي حرب، والانتصار فيها مهما كانت الخسائر. وكما كان دور قوات الدعم السريع في منع الهجرة غير الشرعية السبب الرئيسي في حصولها على دعم الاتحاد الأوروبي، فإن مشاركة هذه القوات في حرب اليمن ومقاتلتها الحوثي والقاعدة سيكون سببًا في حصولها على رضا الأمريكيين، الذين يعتبرون مكافحة الإرهاب هدفًا رئيسيًا لهم.


دلالات المشاركة في اليمن والقدرة على تغيير مستقبل الحرب

اضطرت الدولة لإعادة هيكلة قوات الدعم السريع ونزع صفة القبلية عنها بعدما زخرت أدراج مجلس الأمن والجنائية الدولية بما ارتكبته هذه القوات من فظائع

في يناير/كانون الثاني من هذا العام اتخذ البرلمان السوداني قرارًا تاريخيًا، وهو إجازة قانون الدعم السريع. وطبقًا لهذا القانون أُلحقت قوات الدعم السريع بالجيش السوداني بعد أن كانت تابعة لجهاز الأمن.

لم تكن قوات الدعم السريع قبل إجازة هذا القرار قادرة على حصول تكييف قانوني لمشاركتها في حرب اليمن، فقانون جهاز الأمن يحدد عمل جهاز الأمن وقواته بحدود السودان وتم التغلب على هذا الأمر بإجازة هذا القانون، ولذلك حصلت قوات الدعم السريع (الجنجويد) على إذن بالمشاركة في عمليات خارج البلاد.

ما لا يتحمله الجيش السوداني من إخلاء الداخل المضطرب والثمن الباهظ لحرب اليمن، يمكن أن تتحمله قوات الدعم السريع

كانت المعضلة التي تواجه الجيش السوداني في اليمن هو أنه لا يستطيع سوى تقديم عدد محدد من الجنود وهو 6 آلاف مقاتل على الأكثر، فالجيش في النهاية يحتاج لقواته البرية داخل السودان، خصوصًا وأنه أنفق في تدريبها وتسليحها سنين طوال.

وفي ظل دولة جوارها مضطرب وتخوض حربًا عنيفة مع تمرد مسلح واسع فإن زيادة عدد قوات الجيش السوداني في اليمن كانت مخاطرة كبيرة، لاسيما وأن الحرب في اليمن لم تكن حربًا نظامية على الإطلاق رغم وجود صالح وقوات جيشه، حيث الفاعل الرئيسي على الأرض ميليشيا الحوثي، بكمائنها القائمة بالأساس على حقول الألغام وقذائف الهاون والصواريخ الموجهة واليخوت المفخخة.

يوم بعد الآخر كان الجيش السوداني مدركًا أن معركة اليمن لم تعد معركة جيوش نظامية، خصوصًا مع ظهور الخطر الإرهابي في حضرموت وشبوة من قبل تنظيم القاعدة، باتت إذن حرب عصابات تتطلب نوعا جديدا من القتال، وهو القتال عبر حرب الغوريلا أو العصابات، وهو ما تتقنه قوات الدعم السريع التي تتمتع بأمرين يجعلانها ممتازة في القتال في المسرح اليمني؛ وهما أنها تقاتل عبر سيارات دفع رباعي سريعة لا عبر آليات مدرعة يسهل اصطيادها من قبل ألغام الحوثي، وكذلك أنها تستطيع تحمل الخسائر البشرية بشكل أكبر من قوات الجيش.

المعركة في اليمن تتطور نحو اقتحام صنعاء وميناء الحديدة، وقوات التحالف العربي تدرك أن ميليشيا الحوثي سوف تقاتل باستماتة كبيرة في هذه الجبهات، لأن صنعاء وميناء الحديدة هما ما يمنحان الحوثي الوضع المميز في أي مفاوضات مستقبلية، وسقوط هاتين المدينتين المهمتين يعني إسقاط الانقلاب الحوثي عسكريًا، وجعل لجنته العامة وكل مقرارتها بلا قيمة وإنهاء حلم إيران بالسيطرة على مضيق باب المندب.