منذ ثلاثة أيام تقريبا وأنا مصاب بأعراض الأنفلونزا الموسمية من ارتفاع في الحرارة، واحتقان اللوزتين وباقي الأعراض المُملة جدا لهذا الفيروس، ورغم هذا الملل والثبات الظاهر في تكرار أعراضه مِن عام إلى آخر، فإن هذا الفيروس ليس ثابتا في باطنه.

تَطرُق رأسي الآن معلومة بالإضافة للطرقِ المستمر للصداع الذي يلازمني بسبب الأنفلونزا، المعلومة هي عن «الثابت الكوني»، وهو ذلك الثابت الفيزيائي الذي وضعه العالم ألبرت أينشتاين حتى تتفق معادلاته مع مفهوم أن الكون ثابت وساكن غير متمدد، وهو ما ثبت خطؤه وقد تم إلغاء هذا الثابت فيما بعد، واعتبر أينشتاين أن أكبر خطأ ارتكبه في حياته كان اعتباره بأن الكون ثابت.

نعم .. فالكون يتسع ويتغير ويتطور باستمرار، وكل شيء ثابت لا يتطور ولا يتغير ولا يتأقلم مصيره إلى الاضمحلال والزوال والانقراض، وهنا يتضح كُنْه هذا الفيروس المُخادع بأعراضه الثابتة الظاهرة، فهو يتغير ويتطور باستمرار في تراكيبه الداخلية حتى أن له لقاحا ينبغي أن نتحصن به في كل عام ضد الأنفلونزا، هكذا هي الحياة كالقطار السريع مَن لا يركض معها سيتخلف عن الركاب، وستتركه الحياة وترحل، فهي لا تنتظر أحدا، ولا تبقى على ثابت لا يتغير.. نعم فالقانون الأبدي للحياة في اعتقادي هو «التغيير».

يمكننا أن نقيس على ذلك وضع الشعوب والمجتمعات أو الحضارات التي تتوقف عن الركض مع قطار الحياة، بل ربما لا تكتفي بالتوقف فحسب، بل تسير وتركض في الاتجاه المعاكس للمستقبل، نعم.. تركض إلى الماضي، وتريد أن تواجه حياة الغد بنفس تراكيب الماضي السحيق أو القريب، فلا فرق عندي هنا إلا في مقدار الحماقة التي تتمتع بها هذه العقول الجمعية المقولبة والمحدودة، يذكرني ذلك برجل أحمق قرر أن يواجه فيروس الأنفلونزا في العام القادم بلقاح العام الحالي، حتما النتيجة محسومة فلن يجدي معه اللقاح أي نفع، فالفيروس المُمل في أعراضه الثابتة والظاهرة تكمن قوته وبقاؤه حيا في تغيير تراكيبه الداخلية كل عام ليتفق مع قانون الحياة الأبدي «التغيير».

ربما أستطيع أن أضرب مثالا ومقارنة في هذا الموضوع، فمثلا أستطيع أن أُشبه الدول المتخلفة عن ركاب الحياة والحضارة بالمياه الراكدة في البرك والمستنقعات العفنة، والدول السائرة في كنفِ وركاب الحياة بمياه الأنهار العذبة والبحار والمحيطات الممتلئة بالحياة.

نعم، فالمياه الراكدة العفنة تشبه تماما الدول المتخلفة!

سأبرهن على تشبيهي هذا بالطبع، انظر معي إلى المياه الراكدة، أليست مياها غير متغيرة ومحدودة المصادر ولا يأتيها الماء ولا الحركة إلا قليلا، هذا تماما مثل الدول المتخلفة المنغلقة العقل ومحدودة الفكر.

دول لا تنبت فيها فكرة لتحرك المياه الراكدة، للأسف هي دول تتبنى الرجعية والأصولية وتزينها برداء الفضيلة والتمسك بالتراث

لا يتجدد ماؤهم، ماؤهم عفى عليه الزمان وفاته قطار الحياة، دول لا تنبت فيها فكرة لتحرك المياه الراكدة، للأسف مثل هذه الدول تتبنى الرجعية والأصولية وتزينها برداء الفضيلة والتمسك بالتراث. ربما يكون لدول كهذه ماضٍ من تراث وحضارة رائعة حقا، لكن للأسف وهذا ما لا يدركونه أنها كانت تناسب الحياة في الماضي ذات التراكيب المختلفة تماما عن تراكيب الحياة التي نعيشها الآن.

ومثلما المياه الراكدة تكون بيئة مناسبة لتوالد وتكاثر مسببات الأمراض والأوبئة من حشرات وحيوانات ضارة ومؤذية للإنسان والبيئة، وربما يهدد ذلك الصحة العامة ككل، فالدول المتخلفة هي أيضا نتوء أو عبء ثقيل في ظهر الحضارة كما قال أحد الفلاسفة، هذا النتوء يعوق تقدم وتطور البشرية.. فكما قلنا بانتشار مسببات الأمراض والأوبئة في المياه الراكدة، فينتشر أيضا الكثير من مسببات الدمار في الدول المتخلفة، كانغلاق الفكر والقولبة والتحزب والتشرذم والكراهية للآخر المُختلف، وانتشار الصراعات والحروب الطائفية والمذهبية، وتصير هذه البلاد مفرخة لتوالد الإرهاب الذي يهدد البشرية ككل، مثلما هي المياه الراكدة مفرخة للأوبئة!

إذن ما هو الحل في هذه الإشكالية؟ كيف تتخلص البشرية من هذا النتوء المسمى الدول المتخلفة الذي يرهق كاهلها ويهدد مسيرتها نحو الغد؟ كيف نتخلص من هذه البرك ونقضي على أماكن توالد الحشرات والأوبئة والإرهاب؟!

وأنا أكتب هذه الكلمات الآن درجة حرارتي تقارب الـ 39 درجة مئوية، بسبب هذه الأنفلونزا المُملة، تَطرُق في عقلي (ربما يكون ذلك من فوائد الهذيان ) هذه الأبيات للشاعر نزار قباني من قصيدة (هوامش على دفتر النكسة):

نريدُ جيلاً غاضباً.. نريدُ جيلاً يفلحُ الآفاقْ وينكشُ التاريخَ من جذورهِ.. وينكشُ الفكرَ من الأعماقْ نريدُ جيلاً قادماً.. مختلفَ الملامحْ.. لا يغفرُ الأخطاءَ.. لا يسامحْ.. لا ينحني.. لا يعرفُ النفاقْ.. نريدُ جيلاً.. رائداً.. عملاقْ..
ويقول في نفس القصيدة أيضاً مخاطباً هذا الجيل:
لا تقبلوا أفكارنا

نعم، نحن نحتاج إلى فكر جديد ينبت في أراضينا، نحتاج إلى ضخ أفكار جديدة في هذه البرك الراكدة، كي تتحرك من ركودها.

وهنا.. أعتقد أن الفكرة تنشأ من طرح الأسئلة، وطرح السؤال لا يتأتى إلا عن تأمل وتدبر لإدراك المشكلة وأبعادها، والإدراك والوعي لن نصل إليهما إلا عن طريق المعرفة، والمعرفة لن نتحصل عليها إلا بالاطلاع على الآخرين، ومن أفضل طرق الاطلاع هي القراءة!

أتذكر الآية العظيمة من الكتاب المقدس ( رو 12 : 2 ) التي تقول: «بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ» نعم، فتجديد الذهن لن يكون إلا بضخ مياه جديدة من مياه / أفكار الآخرين، من حضارات وشعوب وقبائل وأفراد، فالباحث عن الحقيقة لا يتوقف عند حد معين من البحث، فكما قال نزار قباني: «نريد جيلاً يفلح الآفاق» و«ينكش الفكر من الأعماق»، ولا يغيب عن وعيي أن أذكر ما قاله المُبجل العظيم «بوذا» في هذا الشأن فيقول: «كل ما نحن عليه هو من نتاج أفكارنا، العقل هو كل شيء، ما نفكر به هو ما سنصبح».

وقد ذكر القرآن العظيم بخصوص هذا الشأن الكثير، بل الأكثر من الكثير، ولكني لن أتحدث هنا إلا عن الحروف الأولى التي نزلت من القرآن، الحروف الأولى التي تشكل أول كلمة من القرآن نزلت من الخالق إلى بني الإنسان، قال المُصور والخالق لهذا الكون، العَالِم بأسراره وقوانينه، العارف المُطلَّق المعرفة والأزلّي والأبدي.. قال: «اقرأ».

نعم، قال: «اقرأ» برغم هذه الأحرف البسيطة التي تُكَوِّن كلمة في غاية السهولة واليسر بأن يدركها العقل البشري، ويفهم ما ترمي إليه.. برغم كل ذلك، فإن الغفلة التي تولَّدت من ركود العقل وأفكاره ضَلّلت وصوله إلى الحقيقة المجردة، والتي لا تحتمل التأويل بأي ضد وهي «اقرأ».

«اقرأ» هكذا يخاطب الخالق مخلوقاته العاقلة بصيغة الأمر، نعم .. ليس ترغيبا ولا حثا، بل أمرا واجب النفاذ، وإن كنت فقيها دينيا لأصدرت فتوى واحدة وكفى بها تماما، وهو بأن الذي لا يقرأ، أو يتوقف عن القراءة إنما هو «عبد آثم» مَاِرق خارج على تعاليم الخالق.

ولكن أي قراءة يقصدها الخالق؟! ماذا يريدنا الخالق أن نقرأ؟!

هل تعتقد أن الخالق لم يبين للبشرية نوعية القراءة؟!

تقول الآيات من سورة العلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ».. إلى آخر الآيات.

البشرية ستعيش في يوم ما على دولة الأرض بإنسانية في كون يملؤه السلام حين لا يتوقف العالم عن القراءة

بدأت الآيات بالكلمة الأولى من القرآن «اقرأ» هذا الفعل الآمِر، هذا الفعل المُتعدي، وكما هو معروف أن الفعل المُتعدي هو ما يتعدى أثره فاعله، ويتجاوزه إلى المفعول به.. لذا بكل بساطة وبعيداً عن التعقيد، ينبغي للفعل المتعدي وجود مفعول به، و«اقرأ» هذا الفعل المتعدي إذا أردت الإجابة عن السؤال السابق «ماذا يريدنا الخالق أن نقرأ؟!» ابحث في الآيات عن «المفعول به» الخاص بالفعل المتعدي «اقرأ» والدال على نوعية المقروء!

لن تجد المفعول به!

لقد حذف الخالق «المفعول به» من الآيات.

لا أعتقد أن خالق هذا الكون المبني على بحار من المعادلات والمتواليات الرياضية الهندسية المعقدة والمُحكمة، جل شأنه وعظم، أن يسهو في ذكر «مفعول به» لذا تكمن الإجابة في البحث عن حكمته في ذلك.

نعم، لقد حذف الخالق «المفعول به» في الآيات التالية لـ «اقرأ» كي نقرأ كل شيء، كي لا نتقولب في لون واحد من القراءة، أو نتقولب في قراءة طائفة أو مذهب أو دين بعينه وحسب، بل جعلها مطلقة على مصراعيها.. نعم هي القراءة بكل ما تحتويه الكلمة من معاني التَفكُر والتدبُر والبحث.. نعم بكل هذه السهولة يكمن حل هذه الإشكالية الكبرى.

هي كذلك الأمور دون تعقيد، فالمعادلة بسيطة إلى هذا الحد، وأخيرا لدي اعتقاد هنا بأن البشرية ستعيش في يوم قادم على دولة الأرض في سلام، نعم دولة الأرض دون حزبية دول أو طائفية شعوب أو أديان، سنعيش يوما ما بإنسانية على كوكب الأرض في كون يملؤه السلام..حين لا تتوقف العقول عن ضخ ماء الفكر باستمرار .. نعم، حين لا يتوقف العالم عن القراءة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.