الصراعات تَزيد يومًا بعد يومٍ، والأحداث على أوجِها، ورغم ذلك فها هي النفس ممتلئة بالتحديات والآمالِ الجديدة والقديمة. إنهُ عامٌ جديدٌ يُلوح لنا، وقد ننسى فيه من ننسى، ولكننا لا يُمكن أن ننسى -أبدًا- ذلك العجوز الطيب صاحب اللحية البيضاء الذي يُسافر -طائرًا- كُل بلاد العالم مُحملاً بالهدايا، مُعلنًا عامًا جديدًا في أذهان الجميع وخاصةً الأطفال، فيزورهم واحدًا تلو الآخر، إنه العم «سانتا كلوز» أو «بابا نويل» كما يُطلق عليه بعض الأطفال.

تتشابه ألوانهم، وأجناسهم، أو تختلف، فذلك لا يُهم عنده طالما تتفق أمانيهم، فبماذا قد يحلُمون إلا ببعض ألعابٍ جديدة، أو حلوى، أو أشياءٍ من هذا القبيل؟ أو هكذا كُنا نظن حتى توقفت عربة سانتا في بلدةٍ عربية تُسمي «حَـلب»، حيث البنايات العريقة مُهدّمة، إنها مملكة كأعظم الممالك في التاريخ لكنهم أفقدوها سحرها؛ فترى الأشجار مُلقاة على الأرض جُثثًا هامدة حتى تظُن أن تلك بلاد لا تُشرق عليها شمسٌ، تشُم هُنا رائحة الدُخان أينما سرت وبقايا الدماء في كل رُكنٍ، هبط صاحبنا ليُساعد الأطفال ويُسعدهم، فمَن أكثر مِن أطفال هذه المدينة قد يستحق هداياه؟

(1)

دعونا نسمع بابا نويل مُتحدثًا عن تجربته في تِلك البلاد:

يُعرف الأطفالُ بأن عيونَهم مرآةٌ لقلوبهِم، فتلحَظ فيها النقاء والصفاء، وما إن تغوص فيها لا تجد إلا ذلك الأمل المُعمِر للقلوب، لكـن هُنا! فالأمر مُختلف أو قُل مريب لأقصى الحدود، فقلوبهم جريحة بجِراحٍ لا تُداوي أبدًا، فالزمن كاوٍ لا مُعالِج… والألَم تفشى في النفوس وسار بين الضلوع ففاض في داخلهم، ليطفو على عيونهم الغرقى بالدموع وحناجرهم التي لا تتوقف عن الصِراخ. الأمرُ هنا مُفزع أكثر مما يجب… ولعل هذا يتضح في أمانيهم، فها هي طفلة لا يتجاوز عُمرها العاشرة عَزمتُ على إسعادها… فسألتها عن أكثر ما تتمنى:

يا عَماه، إني أُريدُ وطنًا مسلوبًا أسترده بسلاحي، نعم أنا أُريد سلاحًا لأدُافع به عن أمي… فهي الآن حبيسة غُرفتها تخشى من هؤلاء التَتر، وأنا لا أُحب أن أرى دموعها فهلّا جفّفتها لي؟ إني أسمعُ نحيبها كُل ليلةٍ تُناجي الله أن يرحم أبي ويحرُسني، هل تستطيع أن تجعل الله يستجيب لها؟ أُريدُ أبي وأمي على طاولة العَشاء كما كُنا يومًا، أريد أن أنام على صوت أبي يحكي لي تارةً وينصحني تارةً، أريد أن أسمع صوته مرة أُخرى فقط.

(2)

يقول سانتا إنه -للمرةِ الأولى- لا يعرف ردًا يجعل حياة الطفل أجمل، فتلك الأُمنيات أصعب من أن يَقدر عليها صاحبنا. ولم نغادر تلك المدينة البائسة الباسلة حتى وجدنا ذلك المُجاهد الذي يحمل في يده عددًا من الصخورِ أكثر من عددِ السنين التي عاشها… توجّه إليه يسأله -بابتسامته المَعهودة- «ماذا تُريد يا عزيزي في هذا العام الجديد من بابا نويل؟» فأجابه الصبي بثباتٍ غير معهود لمَن هو في مثل سنه: «أنا لا أُريد منك شيئًا… أنا أُريد من الله، هكذا عُلمنا ألاَّ نعتمد على غير الله وعلى غيرنا في أمور حياتنا»، وأخذ صوته يعلو تدريجيًا حتى وقف على تلك الصخرة مُوجهًا خطابه بصوت جَهوري لا يخرُج إلا من قائدٍ في خِضم أقسى المعارك:

يا كُل حُكام العالم… ويا كُل الشعوب الآنَ… فلتكُف ألسنتكُم الحمقاء جميعًا ولتصغوا إلي…
مَنْ أنا؟
أنا الإرثُ وأنا الوارث، أنا المقتولُ وأنا الفائز، أنا القائلُ والسامع، أنا الحاكم وأنا الطائِع… أنا إبراهيم فاحرقوني… وأنا المسيحُ فاصلبوني… وأنا الكليمُ فسيروا معي في الأرض… أنا الشعبُ والشعبُ أنا… أنا حبيبُ اللهِ وكلكم الأعداء…
فلتصغوا جيدًا وتكتبوا ما أُملي عليكُم…
أعدموا كُل من قرّر ونفّذ وأيّد وسكت…
أغلقوا كُل أفواهٍ لا تنطق بالحق…
أعيدوا لنا تلك الكُرة الصفراء التي دمرها القصف يوم الجمعة في تلك الحديقةِ الرمادية…
أعيدوا تلك الحديقة خضراء…
افتحوا لنا مدارسَ الحي…
أعيدوا تلفازًا قديمًا أهربُ فيه من واجباتي فتصرخُ فيّ أُمي…
أو لا تفعلوا كُل ذا وفقط أعيدوها! فقد افتقدت يدًا تحتضن ولسانًا يصرُخ وقلبًا ينبض ومأوى إليه أسكُن…أعيدوها.

(3)

لعل دَهشته الآن برِدة فِعل ذلك الصبي لا يُضاهيها إلا حُزنه العاجِز أمام بسالة ذلك البطل، فلا يملُك سانتا إلّا أن يُكمل جولته غير قادر على أن يحتفظ بدموعه أكثر من ذلك ففلت منه بعضها… وها هو يرى اجتماع أطفالٍ، فعلى ما يبدو هم في أواسط لُعبة ما كالمُعتادِ لمن في هذا العُمر… فاقترب ناحيتهم ليسأل:

– أطفالي الأحباب، ماذا تريدون مني فأنا بابا نويل مُحقق أماني الأطفال المُطيعين مثلكم، فقط تمنوا.

فرد أحدهم دون تردد: نُريد أن نصنـعَ سفينة لا تغرق في الماء أبدًا… مُشيرًا إلى بعض ألواح خشب رصّوهم بالجوار، وقد سميناها «سفينة نوح»… نحن نريد أن نركب البحر بعيدًا عن هنا حتى لا نُقتل من الجنود، ولكني لا أُريد أن أغرق كعمي مُصطفى وولده إياد…

– وأين تودون من سفينة نوح أن تُنقلكم يا أولاد؟

فأجاب كل منهم على حِدة:

  • أُريد أن أذهب لبلدٍ عربي أعيش فيها كالوطن، أرتاد مدارسه، وأصادق أطفاله… بلدٍ لا يروننا فيه مُشردين أو أقل أحقية في الحياة، أُريد عائلةً كعائلتي ووطنًا كبلادي المسروقة منا.
  • أما أنا فأريدُ أن أذهب لبلدٍ أوروبي… فقد سمعت أن الحريةَ هُناك ليست بجريمة وأن العَمل -حتى للأطفال- جائز، وأن جني المال ليس صعبًا، أريد مالاً وحرية.
  • لا لا يا عمو… فأنا لا أريد تلك ولا ذاك… فلا العرب وطنٌ ولا الحرية في بلاد أوروبا حقيقية… أنا أُريد لتلك السفينة أن تذهب بي أبعد من ذِلك قليلاً، أُريدها أن توصلني إلى حيث يكون أحبابي وعائلتي… أُريدها أن تصعد بي إلى السماء، إلى الرحيم، إلى الله.

وللمرة الأولى، يحكي التاريخ أن جالب سعادة الأطفال وصانعها سالت دموعه منه أنهارًا… مُقررًا أن عمله قد انتهى لأن الزمَن هُنا توقف… فلا عام جديد ولا عام سعيد.

(4)

وأنك إذا أردت أن تعلم مُستقبل أمة فانظر إلى حالِ أطفالها، ونحن لا نستطيع أن ننظر إلى أطفال سوريتنا دون عينٍ دامعة، لكنّا تعلمنا أن الأُمم لا تفنى بالقتل، وأن الشدائدَ مصانع الرجال، وأن الهموم والأحزان تترك أثرها في النفوس لكنها تصنع الأبطال، وأي همومٍ قد تكون أكثر من تلك التي على أكتاف أطفال ترعرعوا يسمعون صوت القنابل تخطف منهم عزيزًا كل يوم! وأي أحزانٍ قد تكون أعمق من أحزان فَقْد الأهل والأحباب!

فانتظرِوا أجيالاً ليست كالأجيال، فهم يُصنعون الآن على أيدي القوي الجبار، وأما أنت يا عزيزي فلك فيما يحدث نصيبٌ ويدٌ، ولعل مُصاب أمتنا ابتلاءٌ لتقصيرنا، والمسلم لا يفقد الحيلة ولا يُصاب -أبدًا- بالعجز، فجاهِد ما استطعت لترفع الظُلم الواقع واسع فيما تقدر، وابكِ -لا ضرر- ولكن اصنع من دموعك بحرًا للخلاص، واخلق من آمالك سفينة تنجو فيها وأمتك، وأعلم أن توبتَك جهاد ودُعاءك جهاد وإتقان عَملك جهاد، فلا تركن وقُم، فإذا قُمت نهضت أمتنا فوعد الله بالنصر نافذٌ لا محالة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.