قررت جامعة الدول العربية في السابع من مايو/أيار إعادة سوريا إلى مقعدها بالجامعة ومشاركتها في اجتماعات مجلس الجامعة واللجان والمنظمات والأجهزة التابعة لها، مع الدعوة لحل المشاكل الناتجة عن الحرب بما يشمل اللاجئين في دول الجوار وتهريب المخدرات.

 ولم يصدر بيان يوضح شروط هذه العودة أو تفاصيل خريطة الطريق التي بنيت على أساسها، ولم يتم إجراء تصويت بين الدول الأعضاء بل اتخذ القرار بالتوافق، إذ دفع بعض الأعضاء كالإمارات في اتجاه تطبيع العلاقات مع دمشق، وعارض آخرون مثل قطر أن يتم التطبيع الكامل من دون وجود حل سياسي للصراع.

يأتي هذا في ظل تحركات عربية متتابعة ومنسقة لتطبيع العلاقات مع دمشق أفضت إلى إنهاء تعليق عضويتها الذي امتد لأكثر من 11 عامًا منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، وأعلن الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، إمكانية مشاركة الأسد، في القمة العربية المقبلة التي تستضيفها المملكة العربية السعودية في 18 مايو/ أيار الجاري.

ويعد ذلك انتصارًا دبلوماسيًا للأسد، فالأسباب التي أدت تعليق العضوية ما زالت موجودة بل تفاقمت؛ فبينما اتُخذ القرار بسبب عدم استجابة الأسد للمبادرة العربية التي طالبته بإجراءات مثل سحب الجيش من المدن والإفراج عن المعتقلين، فقررت الجامعة تعليق عضوية سوريا إلى حين الاستجابة للمبادرة وهو ما لم يحدث أبدًا، بل العكس هو ما حصل فوصلت أعداد القتلى إلى مئات الآلاف، وتم تهجير أكثر من 14 مليون سوري، وتوسع النظام في الاعتقالات والتعذيب الوحشي وفتح أبواب البلاد للميليشيات الشيعية لتشاركه في القمع والقتل.

وجاء قرار الجامعة العربية الأخير بعد إجراءات تمهيدية ولقاءات متعددة؛ فعقب الزلزال الذي ضرب سوريا في شباط/ فبراير 2023، أجرت بعض الدول العربية اتصالات مع النظام، ثم تقدمت حكومة الأردن في 21 آذار/ مارس 2023 بمبادرة عربية تتضمن حلًا سياسيًا للأزمة السورية، وفي 14 أبريل/ نيسان، استضافت المملكة العربية السعودية في مدينة جدة اجتماعًا تشاوريًا ضم دول الخليج والأردن والعراق ومصر، وتم الاتفاق على أداء دور قيادي عربي لإنهاء الأزمة السورية.

وزار وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، الرياض، وأصدر الجانبان بيانًا مشتركًا اتفقا فيه على أهمية حل الأزمة الإنسانية، ودعم وصول المساعدات لجميع مناطق سوريا، وتهيئة الظروف للعودة الآمنة للاجئين والنازحين إلى مناطقهم، والمساهمة في استقرار الأوضاع في كل الأراضي السورية، ومكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، ودعم مؤسسات الدولة السورية، لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء وجود الميليشيات والتدخلات الخارجية.

وفي 1 أيار/ مايو 2023 استضافت المملكة الأردنية اجتماع عمّان الذي ضم وزراء خارجية الأردن والعراق والسعودية ومصر ووزير خارجية النظام السوري، ولخص وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، الرؤية العربية للحل في سوريا بأنها تتم وفق منهجية «خطوة مقابل خطوة» – أي خطوات تدريجية متبادلة – بما ينسجم مع القرار 2254.

وينص قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة رقم 2254  الصادر بالإجماع في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015 على المطالبة بوقف إطلاق النار باستثناء عمليات مكافحة الإرهاب، وإجراء تسوية سياسية وانتخابات حرة.

دبلوماسية الكبتاجون

من المقرر أن تبين الأيام المقبلة مدى التغيير الذي سيطرأ على سلوك النظام السوري ودرجة تجاوبه مع المطالب العربية؛ فبالنظر إلى الخبرات السابقة، فإن النظام لم يبدِ أي تجاوب مع مبادرات الحل السياسي بل كان نهجه هو القبول الشكلي بها والدخول بالتفاصيل دون تحقيق أي إنجاز ملموس، وعليه فإن المتوقع أن يحاول النظام الأسدي تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية وتقوية مركزه مستندًا إلى استراتيجية الصبر الاستراتيجي وكسب الوقت قدر الإمكان مع تزايد حاجته إلى الدعم المالي والاستثمارات الخارجية في ظل الانهيار الاقتصادي الحالي.

ويدرك النظام أن ما دفع الجامعة لإعادته إلى مقعده السابق ليس تجاوبه مع مبادرات الحل، بل قدرته على صنع وتصدير الأزمات، فتورطه في تجارة المخدرات مثلًا منحته ورقة مساومة تعد جزءًا رئيسيًا في سياسة الشرعنة والتطبيع. فالمخدرات القادمة من مناطقه وبخاصة مخدر «الكبتاجون» غمرت الأردن ودول الخليج العربي، لذا ينطلق تعاطي تلك الدول مع هذا الأمر باعتباره مهددًا أمنيًا يجب معالجته ولا يحتمل انتظار إنجاز قضايا حل سياسي لا يبدو له أفق واضح.

وكان البيان الختامي لاجتماع عمان، تضمن موافقة النظام السوري على «اتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء عمليات التهريب» على الحدود مع الأردن والعراق والعمل خلال الشهر المقبل على تحديد مصادر إنتاج وتهريب المخدرات.

وعانى الأردن الأمرّين في الفترة الأخيرة بسبب تهريب المخدرات؛ إذ كانت أراضيه أولى وأهم محطات التهريب، في ظل غياب قواعد اشتباك محددة مع الجهات التي لا تتوقف عن محاولات اقتحام حدوده بشكل مستمر لهذا الغرض، وحدثت اشتباكات مسلحة عديدة وقع فيها قتلى من الطرفين، وطور المهربون أساليبهم بشكل مزعج واستعانوا بالطائرات المسيرة.

واتفق الأردن في اجتماع عمّان مع الحكومة السورية على تشكيل فريق سياسي أمني مشترك للتصدي لتهريب المخدرات، وفي اليوم التالي لإعلان عودة سوريا للجامعة العربية شن الطيران الأردني غارة جوية على الجنوب السوري، وأكد وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أن بلاده لن تتوانى عن حماية أمنها، وأن تهريب المخدرات يمثل تهديدًا كبيرًا لبلاده والعالم، كاشفًا عن أن قنوات الاتصال مفتوحة مع النظام السوري بخصوص هذه المسألة، دون أن يُصرح بالمسئولية عن هذه الهجمات بشكل واضح.

وفي ظل غياب أي تصريحات رسمية من دمشق وعمّان عن الغارة، نقلت «رويترز» عن مصادر محلية واستخبارية أن غارة أردنية استهدفت مصنع مخدرات مرتبط بإيران، بينما استهدفت غارة أخرى أبرز تاجر للمخدرات هناك. وأفادت التقارير بمقتل مرعي رويشد الرمثان في قرية الشعاب شرق السويداء مع زوجته وأطفاله الستة، وهو مواطن سوري مطلوب من محكمة أمن الدولة الأردنية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2022 بتهمة تهريب المخدرات. وسبق أن هدد الصفدي بشن عملية عسكرية داخل الأراضي السورية إن لم يتوقف التهريب على الحدود.

الموقف الشعبي السوري

شهدت ما تُعرف بـ«المناطق المحررة» في الشمال السوري مظاهرات شعبية رفضًا لمسار التطبيع، وكذلك نظم اللاجئون في الخارج فعاليات رافضة لهذا الأمر، باعتبار أن ذلك يعني مكافأة القاتل والتخلي عن الشعب الضحية، لذلك يرى الكثير من السوريين أن شعبهم هو الخاسر الأكبر من التطبيع مع النظام.

ولم يفلح الكلام الدبلوماسي عن إطلاق سراح جميع المعتقلين والعودة الطوعية الآمنة للاجئين ..إلخ في تطمين العائلات السورية المقيمة في الدول العربية، وباتت هذه العائلات -التي أحيانًا ما يكون أفرادها مشتتين بين عدة دول- تتحسب لخطر ترحيلهم واعتقال أبنائهم على يد النظام السوري.

فهناك من يتهددهم خطر القتل الفوري أو تحت التعذيب في المعتقلات، وهناك من يتهددهم خطر التجنيد الإجباري والزج بهم إلى الجبهات للقتال في الصفوف الأولى في المعارك مع المعارضة، بخاصة وأن عمليات ترحيل اللاجئين مؤخرًا شهدت فظائع إنسانية آخرها تلك الاعتقالات التي طالت سوريين تم تسليمهم بشكل قسري من قبل السلطات اللبنانية للنظام السوري على الحدود.

ففي أبريل/نيسان الماضي، داهم الجيش اللبناني المنازل التي تسكنها عائلات سورية في مواقع مختلفة في جميع أنحاء البلاد بشكل مفاجئ وسلّمهم إلى الجيش السوري على الحدود متجاهلًا أن العديد منهم مُسجلون لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ووثَّقت منظمة العفو الدولية وغيرها من جماعات حقوق الإنسان كيف واجه اللاجئون الذين عادوا إلى سوريا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك التعذيب والاختفاء القسري، على أيدي الحكومة السورية.

وقبل ذلك وثقت المنظمة تعرض المُرحلين للاغتصاب والعنف الجنسي، والانتهاكات نتيجة لانتمائهم المتصور إلى المعارضة السياسية السورية بسبب وضعهم كلاجئين.

الحسابات الإقلیمية والدولية

أعلنت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية معارضتها لقرار الجامعة العربية، وقالت وزارة الخارجية الأمريكية، إن نظام الأسد لا يستحق هذه الخطوة، لكنها تعتقد أن شركاءها العرب يعتزمون استخدام التواصل المباشر معه للضغط من أجل حل الأزمة، وأن واشنطن تتفق مع حلفائها على «الأهداف النهائية» لهذا القرار.

ودأبت الولايات المتحدة لسنوات على وصف الأسد بالمجرم والقاتل، لكنها لم تتخذ خطوات عملية للإطاحة بحكمه بل لإضعافه فقط، ومؤخرًا طالبت واشنطن الدول العربية بأخذ ثمن هذا التقارب من النظام كتخفيض النفوذ الإيراني مثلًا أو عودة اللاجئين أو وقف تهريب المخدرات.

واستبقت طهران الخطوة العربية بزيارة رئيسها، إبراهيم رئيسي، لدمشق للحفاظ على الامتيازات الإيرانية في سوريا وتم توقيع 15 وثيقة تعاون بين البلدين في مجالات مختلفة.

وهناك رؤية مفادها أنه بعد غرق موسكو في المستنقع الأوكراني لم يعد من الممكن الرهان عليها في إخراج القوات الإيرانية من سوريا أو حتى موازنة وجودهم العسكري، بل إن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا؛ فالوجود الروسي تراجع لصالح إيران التي انتشرت قواتها وحلت محل الأماكن التي تركها الروس للتركيز على حشد قواهم في الحرب الأوكرانية، لذا شجع الروس إقامة توازن قوى في سوريا بين إيران وتركيا والدول العربية بشكل يحافظ على دورهم الإقليمي.

كما يعد التقارب العربي مع دمشق إحدى ثمار اتفاق عودة العلاقات بين إيران والسعودية بشكل أو بآخر، فالاتفاق أتى كنقطة انطلاق لحلحلة الملفات الخلافية بين القوتين الإقليميتين في الدول العربية التي تشهد تدخلات إيرانية مثل سوريا بعد أن سادت قناعة لدى العرب بضرورة التحاور مع طهران التي أصبحت قوة أمر واقع في العديد من الدول والتوصل إلى تفاهمات معها حول الحلول السياسية بدلًا من الاستمرار في محاربتها فقط، بل العمل على دعم مؤسسات الدولة السورية لتقوية موقفها أمام الميليشيات والقوات المنتشرة في أراضي البلاد.

وعقب الاتفاق أقدمت الميليشيات التابعة لطهران على إنزال العلم الإيراني وأعلام الجماعات الأخرى كفاطميون وزينبيون بطلب من نظام الأسد، وبدلًا من ذلك تم رفع العلم السوري المعترف به دوليًا ذي النجمتين الخضراوين

وجاءت هذه الخطوة في إطار التنفيذ الشكلي لالتزام النظام السوري أمام الدول العربية بإخراج الميليشيات التابعة لإيران من أراضيه، مع العلم أن هذه الميليشيات الشيعية لطالما فعلت مثل تلك الخطوات التمويهية وارتدى مسلحوها ملابس جنود النظام ورفعوا أعلامه بهدف تجنب الضربات الجوية الإسرائيلية.

وبصفة عامة تشهد المنطقة موجة تتضمن تقارب الكل مع الكل ومحاولة الأطراف المختلفة تخفيف التوترات فيما بينها بالتزامن مع تراجع نفوذ واشنطن في المنطقة في مقابل تزايد النفوذ الصيني.