هناك قضيتان شائكتان من مآسي هذه الدنيا؛ الأولى أن هناك انفصالًا كبيرًا بين الأسماء الرنانة الجميلة ومسمياتها الواقعية، نشهده في كل المجالات تقريبًا. والثانية أن الدنيا أعقد بكثير من أن تحسم شئونها بمنطق «1+1=2»، فكثير من قضايا الحياة وأحداثها يختلط فيها الحق بالباطل، ويمتزجان بنِسب، فأقل القليل هو الحق المطلق أو الباطل المطلق، وبينهما درجات من هذا وذاك.

ويحتاج ما نعرضه هنا لاستحضار القاعدتيْن السابقتيْن جيدًا. وهناك نقطة أخرى جوهرية، وهي أننا سنركز على الوقائع المقطوع بحدوثها، مُتجنبين ما اختُلِف كثيرًا في تأويله.


لمن أُنشِئت الجيوش العربية بعد الاستعمار؟

المفترض أنها أُنشئت لتواجه الامبريالية والصهيونية، وللحفاظ على استقلال البلاد العربية ضد مستعمريها السابقين. لكن لم تأتِ الوقائع بما يثبت هذا كثيرًا. بل الواقع الأعم، أنها أصبحت جيوش احتلال بالوكالة لخدمة مصالح قادتها الشخصية، ومراعاة الأسياد الخارجيين من المستعمرين السابقين وسواهم.

ودون الخوض في قصة كل جيش عربي، وهذا ما لا تحتمله المجلدات، سنضرب المثل بالجيش السوري، والذي له فعلا مواجهات ليست بالقليلة ضد العدو الإسرائيلي. فما تلوثت به البندقية العربية السورية من الدماء العربية كان أكثر بكثير وأبشع. ومجزرة حلب الأخيرة وأخواتها في ربوع سوريا في السنوات الست العجاف، منذ اندلاع الثورة السورية 2011، لها سوابق تنافسها سوءًا ووحشية.

اقرأ أيضًا:لماذا سقطت حلب؟ 5 مشاهد تحكي لك القصة كاملة


صفحاتٍ بيضاء في كتابٍ أسودَ مجللٍّ بالعار

http://gty.im/488620647

بدأت المواجهة في نكبة فلسطين 1948، حيث تأسست إسرائيل رغم أنف سبعة جيوش عربية مهترئة، من بينها الجيش السوري. ثم كانت كارثة 1967 التي خسر فيها، في بضعةِ أيام، مرتفعات الجولان الحصينة الكاشفة لظهر إسرائيل، من طبرية إلى ساحل البحر. ثم حرب تشرين – أكتوبر 1973، التي أبلى فيها السوريون بلاءً حسنًا في محاولة استعادة الجولان المحتل، لكن نجح الضغط الإسرائيلي على الجبهة السورية، وأدى، مع الدعم الأمريكي، إلى إيقاف تقدمهم، واستعاد الجيش الإسرائيلي كثيرًا مما فقد.

ثم قام الجيش السوري بشن حرب استنزاف لمدة شهور مع مطلع 1974 لتحسين وضعه التفاوضي. وانتهت القصة إلى وقف إطلاق النار، بعد تحرير جزئي للجولان. ومن حينها، ما زال وقف إطلاق النار ساريًا على جبهة الجولان، على الأقل من الجانب السوري الذي كثيرًا ما «يضبط النفس» ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة.

ثم انتقل الصدام إلى الساحة اللبنانية. في 1980، أسقطت الطائرات الإسرائيلية المروحيات السورية التي كانت تقصف زحلة اللبنانية أحد معاقل حلفائها من اليمين المسيحي اللبناني. ثم الصدام الكبير في صيف 1982 الحارق، أثناء اجتياح شارون للبنان، حيث دارت معركة البقاع الجوية التي أُسقط فيها 70 طائرة سورية في ساعات قليلة من النهار!

كما تم تدمير الدفاعات الجوية السورية في لبنان بشكل شبه كامل. وكانت الخسائر الإسرائيلية تساوي صفر طائرة. ولم يحفظ ماء وجه السوريين نسبيًا إلا تصدي الدبابات السورية على الأرض للتقدم الإسرائيلي في سهول البقاع اللبناني.

ثم تمثَّل الفصل الأبرز في الدعم السوري (مباشر، أو كجسر للدعم الإيراني) للمقاومة الإسلامية الناشئة (حزب الله فيما بعد) التي كبدت إسرائيل وعملاءها من جيش الجنوب اللبناني، خسائر جسيمة بين عامي 1982-2000، ما أدى إلى انسحابها إلى الشريط الحدودي في 1985، ثم الانسحاب من معظم الجنوب باستثناء مزارع شبعا عام 2000. وأيضًا لا ننسى الدعم السوري لحركات المقاومة الفلسطينية خاصة حماس والجهاد، بعد الانتفاضة الثانية التي بدأت عام 2000، و بالأخص إبان حرب غزة الأولى في 2008.


أسد عليّ وفي الحروب نعامة

والآن جولة سريعة موجعة في مذابح الجيش السوري العربي ضد العرب من أطيافِ عديدة. وما يلفت النظر هو التباين ما بين قدرة هذا الجيش وقيادته على ضبط النفس في مواقف عديدة في مواجهة إسرائيل التي انتهكت طائراتها الأجواء السورية مرات عدة، حتى أنها عربدت فوق قصر الرئاسة مرتين، في عام 2003 وعام 2007، دون أن تُطلَق عليها رصاصة يتيمة؛ في مقابل قدر هائل من الاندفاع والعزيمة والحسم، مع قدر كبير من الوحشية الظاهرة تُميِّز تعامل هذا الجيش مع من دخل معه في خصومة من الأطراف العربية المختلفة! وآخرها وأسود صحائفها، ما نراه على الشاشات من فظائع ضد أبناء شعبه الذين قالوا «لا للطاغية».


سوريا: الانقلاب أولا

http://gty.im/51396421

هذا هو ملخص قصة حماة الديار -اسم التدليل المحبب للجيش السوري من مؤيديه- في سوريا نفسها بعد استقلالها من الحكم الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1946. إذ حطم حماة الديار أرقامًا قياسية في عدد وتتابع الانقلابات.

لم يترك الجيش فرصة للحراك الوطني والسياسي الذي ملأ الساحات بعد رحيل الاستعمار، واستغل السخط الشعبي لهزيمة حرب فلسطين 48، فجاء في مارس/آذار 1949 انقلاب حسني الزعيم، الذي كان «فاتحة خير» الانقلابات في العالم العربي، وما لبث أن جاء أغسطس/آب 1949 فانقلب عليه سامي الحناوي وقتله بالرصاص بعد محاكمة صورية، وهو الذي انقلب عليه أديب الشيشكلي -فيما بعد- في ديسمبر/كانون الأول 1949، ثم أكمل انقلابه على النظام الدستوري في نوفمبر/تشرين الثاني 1951، فأطاح به انقلاب 1954 الذي امتاز بخروجه من وحدات الجيش في حلب بقيادة فيصل الأتاسي، وسلّم السلطة للمدنيين ليفتتح ربيع الديموقراطية من 54-58، وهو الذي انتهى بالوحدة مع نظام مصر الديكتاتوري 58-61، وقد انتهت تلك الوحدة بانقلاب 1961!

ثم جاء انقلاب ضباط حزب البعث في 8 مارس/آذار 1963، ثم انقلاب أجنحة البعث ضد بعضها في 1966، الذي انتهى بتصدر الضابط العلوي صلاح جديد، قبل أن يطيح به سيئ الذكر حافظ الأسد، فيما سمي «الحركة التصحيحية» بانقلاب أكتوبر/تشرين الأول 1970.

وقد أفسدت هذه الانقلابات الحياة السياسية السورية، ورسخت حكم الأفراد وسياسة الحديد والنار، والمحاكم الصورية، والإعدامات بالشبهة، وإلقاء الآلاف في غياهب السجون.


سوريا: المذابح ثانيًا «حماة الديار يدكّون الديار»

انفرد حافظ الأسد وحزبه البعث بكامل الكيان السوري، واضطهدوا كل من عارضهم بقبضة دامية حديدية، مما أدى إلى حمْل بعض معارضيهم السلاح، واغتالوا بعض قيادات البعث والأجهزة الأمنية القمعية في عمليات نوعية، وأبرزهم بعض أجنحة الإخوان المسلمين وما يسمى بالطليعة الإسلامية المقاتلة الذين قاموا بتمرد مسلح انطلاقًا من مدينة حماة في مطلع 1982. فأصدر حافظ أوامره للجيش السوري بقيادة رفعت الأسد بتطويق المدينة، وأمر باستخدام القوة القصوى في قصف المدينة بالمدفعية الصواريخ والطيران دون تمييز.

وقعت مجزرة حماة البشعة التي راح ضحيتها ما يتراوح بين 15 ألفًا و 45 ألفًا، جلُّهم من المدنيين. وتعرض الآلاف للتعذيب والتمثيل والاغتصاب. وكانت حماة تمثل صداعًا للنظام البعثي العلماني المتطرف المستند إلى أقلية علوية، إذ كانت معقلًا للتدين السني في سوريا، وانخرط الكثير من شبابها في الجماعات الإسلامية السلمية وتلك التي حملت السلاح. ولذا كان لها نصيب وافر من القمع منذ أولى انتفاضاتها في 1964 بعد عامٍ من بداية حكم البعث. ولذا استغل النظام فرصة التمرد الواسع في 1982 لنكب المدينة وضرب الحاضنة الشعبية الكبيرة للمعارضين الإسلاميين.

اقرأ أيضًا:ما الذي يحدث في حلب؟ 5 أسئلة تشرح لك

وامتلأت سجون الأسد طوال حكمه بعشرات آآلاف المعارضين الذين قاسوا أسوأ صنوف السجن والتعذيب. لكن هذا لم يشبع رغبات الدموية والسادية، فحدثت في يونيو/حزيران 1980 مجزرة سجن تدمر البشعة، عندما صدرت أوامر لوحدات من الجيش السوري بالهجوم على السجن وتصفية مئات السجناء في زنازينهم في وحشية مفرطة، انتقامًا بعد إحدى محاولات اغتيال حافظ الأسد!


سوريا بعد الثورة: تلك الفجيعة أنْسَت ما تقدَّمها

http://gty.im/525377204

ثم جاءت المقتلة السورية الحالية (2011 – …) التي بدأت باستهداف المظاهرات السلمية بالرصاص الحي، إلى اقتحام المدن والأحياء المعارضة بالدبابات، إلى قصف غوطة دمشق بالكيماوي في أغسطس/آب 2013، إلى قصف الطيران الحربي للمناطق المعارضة بالبراميل المتفجرة دون تمييز بين مدني ومسلح، وتسوية مدن وأحياء كاملة بالأرض.

والجريمة البشعة بحصار مناطق معارضة حتى الجوع، كما حدث في مضايا بريف دمشق، ودفع مناطق أخرى بمدنييها ومسلحيها إلى النفي الاختياري إلى مناطق معارضة بعيدة، ولا يخفى ما في هذا من إعادة تفكيك وتركيب ديموغرافي في بلد فرَّ منه أكثر من نصف سكانه، ومعظمهم من الغالبية السنية التي تتحول يومًا بعد يوم إلى أقلية على أرض الداخل السوري التي أصبحت مرتعًا للميليشيات الشيعية الحليفة، الإيرانية والعراقية والأفغانية..إلخ.


لبنان: حيث قاتل الجيش السوري مع الكل، وقتل الكل!

كانت سوريا اللاعب الأبرز في لبنان في الحرب الأهلية اللبنانية 1975-1991. وقد تدخل بشكل مباشر في الأراضي اللبنانية انطلاقًا من عام 1976، وذلك بتأييد دولي تحت مسمى إيقاف الحرب. فكانت النتيجة أن الحرب استمرت 15 عامًا، أكلت فيها أرواح أكثر من مائة ألف لبناني وفلسطيني. وتميز التدخل السوري ببراجماتية شديدة، وكان همّه الرئيسي تشكيل الوضع هناك لصالح النظام السوري ومحاولة منافسة النفوذ الإسرائيلي.

حارب الجيش السوري، مباشرة وبالوكالة، حلفاءه التقليديين في بداية الحرب (قوات منظمة التحرير الفلسطينية، والقوى الوطنية الثورية بزعامة جنبلاط .. إلخ) عندما تخطوا الخطوط الحمراء السورية، بعد أن كادوا يحسمون الحرب ضد اليمين المسيحي المتحالف مع إسرائيل في 1976. وعندما ساءت الأمور بين اليمين المسيحي والجيش السوري، قام الأخير بعمليات قصف ضد المناطق المسيحية لفرض سيطرته.

وبعد هزيمة الاجتياح الإسرائيلي للبنان بسبب المقاومة الشعبية والإسلامية، عاد النفوذ السوري بقوة للساحة. واستولى أنصار سوريا (حركة أمل الشيعية، والحزب التقدمي الدرزي) على بيروت الغربية بعد انتفاضة فبراير/شباط 1984. وبعدها كان الجيش السوري يترك الصدامات تتطور بين الميليشيات في أنحاء عدة. ثم يتدخل لفرض حسمه.

كما فعل عندما تنازعت حركتا أمل وحزب الله الشيعيتين السيطرة على الضاحية الجنوبية 1987، وبعد مقتل المئات تدخل الجيش السوري. ثم قام الجيش السوري بقصف المناطق المسيحية المؤيدة لخصميْه جعجع، ثم ميشيل عون -الرئيس اللبناني الحالي- والذي زاد نفوذه بعد أن عينه أمين الجميل رئيسًا لحكومة عسكرية في 1988. إلا أنه انتهى به الحال بعد عامين لاجئًا للسفارة الفرنسية ومنها إلى المنفى لأكثر من 14 عامًا، بعد أن قصف الجيش السوري قصر بعبدا الرئاسي الذي تحصن به، بعد تفاهمات سورية -أمريكية بترك سوريا تحسم الوضع بلبنان، مقابل دعمها للتحالف الأمريكي لضرب العراق وإخراج قواته من الكويت.


الفلسطينيون: من تل الزعتر المنكوب إلى حرب المخيمات

http://gty.im/543888404

يستند نظام الأسد في شرعيته إلى دعمه للمقاومة الفلسطينية. ولذا سيتفاجأ الكثيرون عندما يعلمون بما تعرض له الفلسطينيون من مذابح على يد الجيش السوري وحلفائه. ولعل أبرز تلك المذابح كانت تدمير مخيم تل الزعتر قرب بيروت عام 1976، وقتل المئات من سكانه على يد ميليشيات اليمين المسيحي مدعومة من الجيش السوري الذي هدف إلى إخضاع منظمة التحرير بزعامة ياسر عرفات، وحلفائها الذين حاولوا تجاوز الإرادة السورية وكادوا يستولون على بيروت بالكامل بما فيها مناطق اليمين المسيحي. وما أشبه هذه المجزرة، بما تلاها بعد ست سنوات في صبرا وشاتيلا 1982، ولكن في تلك المرة كان جيش شارون في الخلفية بدلًا من جيش حافظ.

ومن أبشع فصول الصدام السوري-الفلسطيني، حرب المخيمات 1985 – 1988 التي دعمها الجيش السوري، ونفَّذت فصولها القذرة بالأساس حركة أمل الشيعية، صنيعة دمشق، التي دمرت غالبية المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان، وقتلت الآلاف من سكانها. وكان الهدف هو القضاء على بقايا نفوذ عرفات وأنصاره في المخيمات، إذ كان مغضوبًا عليه سوريًا في تلك الفترة. وأيضًا لتكون السيادة على الأرض اللبنانية للمليشيات الموالية للجيش السوري.


ختامًا لهذا الموجز الموجع من تاريخنا العربي، جديرٌ بالقول أن التاريخ يعيد نفسه بأسوأ ما فيه، وسيظل هكذا حتى نكسر الحلقات المفرغة من الإجرام والطغيان والطائفية المجنونة التي ندور فيها.

المراجع
  1. الصندوق الأسود | مجزرة حماة 1982 – الجزيرة الوثائقية
  2. وثائقي | حافظ الأسد .. كيف حكم؟
  3. وثائقي: الحرب الأهلية اللبنانية