في بدايات استقبال تركيا لسوريين فارين من تعامل النظام السوري الأمني معهم في 2012، قال وزير الخارجية التركي – آنذاك – أحمد داوود أوغلو ما معناه إن تركيا قد تضطر لاستضافة 100 ألف سوري على أراضيها، في صيغة مبالغة وقتها. اليوم، يتواجد على الأراضي التركية أكثر من 3 ملايين سوري في مختلف المدن، ويتركز منهم أكثر من 500 ألف في إسطنبول وحدها باتوا حديث المدينة الشاغل بعد إجراءات وزارة الداخلية الأخيرة التي يمكن اعتبارها المحطة الأخيرة في قصة طويلة نسبيًا.

خلاف سياسي

اعتمدت تركيا منذ الشهور الأولى للثورة السورية ما أسمته «سياسة الباب المفتوح»؛ أي استقبال كل من يأتيها من السوريين وتسكينهم في مخيمات لجوء قريبة من الحدود. وكان ذلك متناغمًا مع موقفها الرافض للنظام وكذلك مع مسؤوليتها في القضية السورية وكونها دولة حدودية مع سوريا، فضلاً عن تاريخها الطويل في استقبال اللاجئين والذي بدأ خلال عهد الدولة العثمانية، إضافة إلى أنه كان واضحًا أن التوقعات التركية بخصوص عدد القادمين المتوقع لم تكن دقيقة بالمرة.

في ذلك الوقت، وربما حتى 2015، لم يكن هناك معارضة شديدة للوجود السوري في تركيا. كانت أحزاب المعارضة، وخصوصًا حزب الشعب الجمهوري، تنتقد ذلك في إطار رفضها للسياسة الحكومية تجاه سوريا والنظام تحديدًا، باعتبارها تؤيد رؤية الأسد لا المعارضة. وبالتالي، كان الأمر عبارة عن خلاف سياسي، المقيمون السوريون مجرد تفصيل فيه، ولم يكن هناك ما نشاهده اليوم من احتقان شعبي وخطاب سياسي يتناول – بل ويهاجم – السوريين المقيمين على الأراضي التركية بشكل مباشر.

السوريون في تركيا

تركيا إحدى الدول الموقعة على الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين أو اتفاقية 1951 بخصوص اللاجئين، لكنها من ضمن الدول التي لم تلغِ التحديد الجغرافي (الأوروبي) وفق بروتوكول نيويورك عام 1967. ولذلك، قانونيًا، لا تعتبر تركيا القادمين إليها من دول غير أوروبية «لاجئين» وإنما تستضيفهم تحت بند «اللجوء المشروط» أو «الحماية المؤقتة» لحين تسكينهم في بلد ثالث، وهو الوضع القانوني للسوريين على أراضيها.

يعني نظام الحماية المؤقتة في تركيا، والذي يشمل السوريين، الحماية المقدمة للأجانب الذين تركوا بلادهم اضطرارًا ولا يستطيعون العودة إليها، وتخطوا الحدود بشكل جماعي أو في فترة انتقال جماعي، بهدف الحصول على حماية عاجلة ومؤقتة، ولم يدخلوا كأفراد ضمن عملية تقييم للحصول على الحماية الدولية. وتشمل هذه الحماية «فتح الحدود لهم، عدم إعادتهم، وتوفير الاحتياجات الأساسية والطارئة لهم».

وفق المديرية العامة لإدارة اللجوء التابعة لوزارة الداخلية التركية، يقيم حاليًا في تركيا 3 ملايين و630 ألفًا و575 سوريًا، وفق بيان أخير صدر في 11 تموز/يوليو الحالي، وهو ما يعادل نسبة %4.4 من عدد سكانها. 103 آلاف و579 من هؤلاء يقيمون في مراكز الإسكان المؤقت أو في مخيمات اللاجئين، بينما الباقون أي ما نسبته %97 من السوريين في تركيا يقيمون في المدن التركية المختلفة بأعداد ونسب متفاوتة.

العدد الأكبر للسوريين يقطن في مدينة إسطنبول بواقع 547 ألفًا و479 شخصًا، تتبعها غازي عنتاب بعدد 443 ألفًا و290 شخصًا، ثم شانلي أورفة بعدد 430 ألفًا و537 شخصًا. لكن نسبة هؤلاء لسكان هذه المدن تختلف، فهي %3.6 و%21.8 و%21.1 على التوالي، بينما يشكل السوريون مثلاً نسبة %81.4 من سكان مدينة كلس الحدودية رغم أن عددهم فيها 116 ألفًا و37 سوريًا فقط.

في بيان لوزارة الداخلية التركية في 8 آذار/مارس الفائت، بلغ عدد السوريين الحاصلين على الجنسية التركية 79 ألفًا و894 شخصًا معظمهم حصل عليها بشكل استثنائي. ووفق أرقام تشرين الثاني/نوفمبر 2018 لوزارة الداخلية، بلغ عدد المواليد السوريين على الأراضي التركية 405 آلاف و521 مولودًا. ووفق أرقامها في 21 تموز/يوليو الفائت، بلغ عدد السوريين العائدين إلى سوريا 337 ألفًا و729 شخصًا. كما أعطيت أذون العمل بشكل رسمي لـ 31 ألفًا و185 سوريًا، وفق بيان لوزارة العائلة والعمل والخدمات الاجتماعية صدر في 31 آذار/مارس 2019.

ما الذي تغير؟

كما سبق ذكره، كانت الخلافات بين الحكومة والمعارضة في تركيا بخصوص السوريين سياسية في معظمها، لكن تقادم الزمن ومرور السنوات غيّرا من طبيعتها كثيرًا.

شيئًا فشيئًا، بدأت الحكومة تتنبه إلى أن الأزمة السورية ستدوم طويلاً وأن السوريين المقيمين على أراضيها باتوا حقيقة قائمة بالنسبة لها تحتاج للضبط تجنبًا للارتدادات والتفاعلات السلبية. وفق بعض التقييمات، كانت نسبة الثلث فقط من الأطفال السوريين منتظمة في مدارس تركية وسورية/عربية، ولذلك فقد عمدت وزارة التعليم التركية خلال السنوات الأخيرة إلى تنظيم الأمر وتنسيقه بشكل حازم، ذلك أن الطفل الذي قدم قبل سنوات أصبح الآن شابًا يافعًا، ويحتاج للتعليم وأدوات الاندماج في المجتمع ثم إمكانات العمل… إلخ.

مع العام 2016 وما بعده، انتقل رفض الوجود السوري في تركيا من الأحزاب السياسية إلى بعض الفئات المجتمعية، بعد أن انتشر السوريون بشكل لافت في المدن المختلفة وخاصة الكبرى وفي مقدمتها إسطنبول، وكذلك – الأهم – تأثرًا بمتغيرين مهمين:

الأول، عمليتا درع الفرات وغصن الزيتون اللتان ساهمتا في انتشار انطباع بين القوميين خصوصًا مفاده أن الجنود الأتراك يستشهدون في سوريا «لأجل السوريين»، بينما الأخيرون «يتنزهون» في تركيا، رغم أن فصائل من الجيش السوري الحر شاركت مع القوات التركية، ورغم تأكيد المسؤولين الأتراك بأن قوات بلادهم تتواجد في سوريا لحماية أمنها القومي وليس لأجل السوريين.

الثاني، الأزمة الاقتصادية التي بدأت العام الفائت وما زالت تركيا لم تتعافَ منها تمامًا وما رافقها من ارتفاع في مستوى البطالة. أدى ذلك لانتشار مقولات منافسة السوريين للأتراك على الأعمال لا سيما بين الشباب وفي المدن الكبرى على وجه الخصوص وفي مقدمتها إسطنبول، وكذلك لوم الحكومة على صرف المال على السوريين في ظل حاجة البلاد لها، لا سيما وأن الخطاب الرسمي التركي يتحدث عن تقديم عشرات مليارات الدولارات لهم.

من حين لآخر، كانت تظهر دعوات لطرد السوريين و/أو إعادتهم لبلادهم على هامش بعض الاحتكاكات أو الحوادث بين السوريين والأتراك، بعضها اتضح لاحقًا أنه شائعة غير صحيحة أو خبر مختلق.

أشار ذلك لوصول رفض وجود السوريين في المدينة إلى حالة احتقان شعبي، أهم أسبابه:

أولاً، العدد والظروف: إذ لجأ إلى تركيا عدد كبير جدًا من السوريين خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، ما شكل أرضية لسوء الفهم وبعض الاحتكاكات السلبية، إضافة لتجمعهم في بعض المدن وأحيائها، فضلاً عن حاجز اللغة والاختلافات في بعض العادات والتقاليد.

ثانيًا، المعلومات المغلوطة: تنتشر معلومات كثيرة خاطئة حول السوريين، بعضها متعلق بالعبء الاقتصادي الذي يفترض أنهم يشكلونه على الدولة، وبعضها متعلق بالعمليات العسكرية التركية في سوريا، وبعضها الآخر حول مزاعم دعم تقدمه الحكومة لهم مثل الرواتب الشهرية والشقق المجانية والجنسيات بأعداد كبيرة، وهي انطباعات عابرة للخلفيات الأيديولوجية والسياسية. 

ثالثًا، حملات التحريض: تتكرر بين الحين والآخر حملات ضد السوريين في تركيا على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب بإعادتهم لسوريا، وقد كشفت الشرطة والأجهزة الأمنية كثيرًا من الحملات المنظمة اعتمدت خطاب كراهية وبث أكاذيب وشائعات وتحريضًا مباشرًا، وقد اتخذت في كثير من الأحيان إجراءات قانونية ضد هؤلاء.

رابعًا، أخطاء السوريين: انتقل الملايين من السوريين إلى تركيا خلال فترة قصيرة وفي ظل ظروف غير عادية، وبالتالي كان من المتوقع أن تكون هناك أخطاء واحتكاكات سلبية بينهم وبين الأتراك كما يحصل في أي مجتمع. بعض هذه الأخطاء الفردية كان من النوع المستفز للأتراك حيث لامس بعضها عادات مجتمعية معينة، أو بسبب تكدس السوريين في أحياء ومدن بعينها، أو لخصوصية بعض الحوادث. الأهم أن هذه الأخطاء جرى في كثير من الأحيان تضخيمها والتركيز عليها وكأنها الأصل أو كأنها ظاهرة متفشية، رغم تأكيد وزارة الداخلية التركية مرارًا على أن نسبة الجريمة بين السوريين أقل من نصفها بين الأتراك.

خامسًا، خطاب الأمننة: ولعل السبب الأهم في حالة الاحتقان وتحولها أحيانًا إلى خطاب كراهية وفي بعض الأحيان عنصرية هو وضع السوريين في خانة الخطر المهدد للأتراك، اقتصاديًا ومجتمعيًا وأمنيًا. هذا الخطاب الذي استفاد من الأسباب الأخرى يمكن اعتباره العامل الرئيس الذي غذى العوامل الأخرى وساهم في رفع مستوى الاحتقان إلى أبعاد غير مسبوقة.

بدأ الأمر مع المعارضة التركية التي اتخذت من السوريين ورقة مناكفة مع الحكومة وحزب العدالة والتنمية. ولئن ركز حزب الشعب الجمهوري على الأبعاد الاقتصادية إضافة لانتقاده لملف التجنيس، فقد تكفل الحزب الجيّد بالتركيز على قتال الجنود الأتراك في سوريا مقابل أمن السوريين في تركيا.

ومع تكرار المناسبات الانتخابية في تركيا وارتفاع منسوب الخطاب القومي فيها، تحول السوريون إلى مادة جدل انتخابي وضعتهم في مربع الخطر على الأتراك وصولاً لخطاب عنصري من قبيل إحدى مرشحات الحزب الجيد في أحد أحياء إسطنبول والتي كان شعارُ حملتها الانتخابية «تخليص حي الفاتح من السوريين». وقد استفادت المعارضة من تزايد مستوى رفض السوريين في إسطنبول خصوصًا للضغط على حزب العدالة والتنمية.

ذلك أن المدينة الأهم في تركيا اجتمعت فيها عدة عوامل ضد السوريين، فهي التي تحتضن العدد الأكبر منهم، وهي من بين المدن الأكثر تعرضًا لآثار الأزمة الاقتصادية وخصوصًا بين الشباب، وهي التي شهدت المنافسة السياسية والانتخابية الأبرز مؤخرًا. 

حدث التطور الأخطر حين استدرِجَ العدالةُ والتنمية لنفس المربع على لسان مرشحه لبلدية إسطنبول الكبرى رئيس الوزراء والبرلمان السابق بن علي يلدرم، والذي قدم خطابًا من الصعب تمييزه عن خطاب المعارضة المذكور بل لعله تخطاه أحيانًا، حين قال قبيل الانتخابات إنه لن يتسامح مع الخارجين على القانون بل «سنمسكهم من آذانهم ونطردهم»، ثم قبل انتخابات الإعادة إن «نساءنا لم يعدن قادرات على الخروج بمفردهن، والأهالي لم يعودوا يجرؤون على إرسال أطفالهم للشارع» في معرض حديثه عن الموضوع.

هذا التناول المتكرر للسوريين في أحاديث الساسة وخصوصًا على هامش الانتخابات ينقل السوريين في ذهن المتلقي/المواطن/الناخب بشكل تلقائي إلى مساحة الخطر والتهديد، وهو ما يسمى الأمننة أو Securitization.

الإجراءات الحكومية

تمنح تركيا السوريين المقيمين على أراضيها بطاقة للحماية المؤقتة تسمى «كيمليك»، وهي التي تحدد المحافظة/الولاية التي يقيم فيها حاملها. على مدى سنوات عديدة، غضت السلطات التركية النظر عن كثيرين انتقلوا من محافظة لأخرى بهدف العمل أو الدراسة، ما أدى لوجود أعداد كبيرة من المخالفين، يضاف لهم عدد ممن لا يحملون أي بطاقة «كيمليك» حتى اللحظة.

الاحتقان الشعبي ضد السوريين والاحتكاكات المتكررة ونتيجة انتخابات إسطنبول أدت فيما يبدو إلى قناعة حكومية بضرورة حل موضوع المقيمين السوريين في إسطنبول تحديدًا بسرعة وحزم، باعتباره سببًا للتذمر الشعبي وكذلك أحد أسباب خسارة بلدية إسطنبول. 

في 13 من تموز/يوليو الجاري، اجتمع وزير الداخلية التركي ووالي إسطنبول ومدير دائرة الهجرة في المدينة، مع مجموعات من الشخصيات السورية المؤثرة من إعلاميين ومؤسسات مجتمع مدني وسياسيين، وكانت الرسالة واضحة بأن هناك إجراءات قادمة لضبط المخالفات والمخالفين. سريعًا، بدأت عملية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والأجانب المخالفين لقانون الحماية المؤقتة والذين لا يفترض أن يعيشوا في إسطنبول دون سابق إنذار. الآلاف، ربما عشرات أو مئات الآلاف، من السوريين الذين فهموا غض النظر من الحكومة التركية عنهم على أنه سماح ضمني للمكوث والعمل في المدينة وإن كانت أوراقهم تتطلب سكناهم في محافظة أخرى وجدوا أنفسهم أمام الحقيقة: حملة حكومية لإخراجهم منها.

بسبب سرعتها بل تسرعها، وقعت الحملة في أخطاء عديدة، أهمها:

1. عدم ترك مهلة للناس لترتيب أمورهم، فما بني على مدى سنوات لا يمكن تغييره فجأة.

2. ترحيل بعض من يملكون «كيمليك» إسطنبول لأنهم لم يكونوا يحملونه في لحظة تفتيشهم، بل تحدثت بعض الروايات عن ترحيل عدد من غير السوريين.

3. رحِّل البعض إلى داخل سوريا وتحديدًا إدلب وليس فقط إلى المحافظات المعنية بالقرار، وفق روايات متواترة، رغم أنها منطقة غير آمنة بسبب القصف الروسي وسيطرة هيئة تحرير الشام على معظمها.

4. ثمة أخبار عن تعرض بعض السوريين للضغط و/أو الضرب لدى توقيفهم.

5. تخللت عمليات التفتيش تصرفات تضر حتى بالسياحة التركية وليس فقط السوريين، مثل تفتيش رواد المقاهي والمطاعم.

تداركت السلطات التركية الأمر خلال أيام، معلنة عن تأجيل الحملة ومنح المخالفين مهلة حتى العشرين من آب/ أغسطس القادم لتسوية أمورهم قبل تنفيذ القرار.

المستقبل

لا يماري أحد في حق السلطات التركية بتنظيم ملف الوجود السوري على أراضيها، فهذا حقها إزاء السوريين وكذلك واجبها تجاه مواطنيها، كما لا يمكن الدفاع عن المخالفات القانونية، إلا أن معالجة الأمر بهذه الطريقة ليس في صالح السوريين ولا تركيا، فضلاً عن أن التغاضي لسنوات سبب مهم للمخالفات بقدر مسؤولية المخالفين وساهم في خلق الحالة القائمة.

الأهم أن ذلك غير مفيد لأنقرة في سياق ضبط حالة الاحتقان ولا في سياق معالجة نتائج الانتخابات. فنتيجة انتخابات إسطنبول تحديدًا لها أسباب كثيرة ليس من بين أهمها الملف السوري – اللهم إلا بمقدار تركيز السياسيين عليه – كما أن الكثير من المؤشرات تفيد بتزايد حالة الاحتقان لا تراجعها.

سعت السلطات التركية فيما يبدو لإرسال رسالة لساكني إسطنبول بأنها تعالج ما يرونه مشكلة سورية في مدينتهم، لكنها لم تتنبه للارتدادت السلبية. ذلك أن القرار – وبغض النظر عن مسوغاته القانونية الصحيحة – أعطى تأكيدًا ضمنيًا غير مقصود للمعارضة بأنها كانت على حق في انتقاداتها وللمواطنين الغاضبين بأن الحكومة رفعت يدها/حمايتها عن السوريين.

ولذلك، لا يحتاج المتابع الجيد لكثير عناء ليرصد تزايد الاحتكاكات بين الأتراك والأجانب بل وحتى الاعتداءات مؤخرًا بعد الاحتقان والقرار. اللافت والمؤسف في كثير من الحالات، أن تسوية الخلافات شهدت اعتذارًا من الجانب المعتدي/الغاضب للطرف المعتدى عليه مفادها: «آسف، كنتُ أظنك سوريًا».

لا يعني ذلك أن غالبية الشعب التركي، وخصوصًا في إسطنبول، رافضة للسوريين أو كارهة لهم، بل العكس هو الصحيح بما في ذلك الشارع ووسائل التواصل، إلا أن تداعيات القرار الأخير منحت مساحة إضافية للتصرفات المتوترة.

كان – وما زال – ينبغي مقاربة هذا الملف الشائك بكثير من الحكمة والهدوء النابعين أولاً من خطورة الملف وتعقيداته، وثانيًا من سيرورة التعامل التركي حتى اللحظة معه، وثالثًا من الارتدادات السلبية المحتملة له.

ثمة مسؤوليات كبيرة ملقاة على عاتق السوريين ومن يمثلهم من جهة والحكومة التركية من جهة أخرى، تمر عبر تصحيح الانطباعات الخاطئة حول السوريين، وضبط الخطاب الرسمي والسياسي بخصوصهم، ومعاقبة القائمين على حملات الكراهية والتحريض (وهو أمر حاصل)، ورفع مستوى التزام السوريين بالقانون ومراعاتهم للعادات والتقاليد المجتمعية التركية، وتسهيل اندماجهم في المجتمع، وتعميق الحوار التركي – السوري، وإدارة الملف بهدوء ونفس طويل.

ولعل مما ينبغي تصحيحه في الخطاب السياسي والإعلامي موضوع الكلفة الاقتصادية للسوريين: أولاً بعرض مساهماتهم في الاقتصاد من خلال أعمالهم ومشاريعهم وشركاتهم وما يضخونه في السوق كتجار وكمستهلكين، وثانيًا بتخفيف لهجة «ما تصرفه الحكومة التركية» عليهم وتوضيح مساهمات المؤسسات الدولية وخصوصًا الاتحاد الأوروبي، إذ إن الخطاب التركي الرسمي المنتقد للأطراف الدولية يتفاعل سلبًا في الداخل التركي بسبب الأزمة الاقتصادية والمعلومات الخاطئة المنتشرة.

لقد أصبح السوريون حقيقة قائمة في تركيا ولا يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء، فالأزمة السورية ليست مرشحة للحل قريبًا، وحين تحل ستتأخر إعادة الإعمار كثيرًا، وحتى حين تتم سيكون هناك الكثير من الوشائج التي ستبقي الكثيرين منهم في تركيا وفي مقدمتها الجنسية التركية والمصاهرات والتعليم والعمل.

ولذلك على تركيا أن تتعامل مع هذا الملف وفق هذه الرؤية، فترحيل المئات/الآلاف لن يغير الكثير في مدينة يقطنها مئات الآلاف من السوريين، كما أن الإجراءات المتسرعة، وبقدر ما تضر بالسوريين، فهي تضر كذلك بتركيا سمعةً واقتصادًا حين تخسر الكثير من المشاريع والأعمال التجارية بسبب القرارات الأخيرة.

الأهم، أن هذه الإجراءات لن تكون حلاً لحالة الاحتقان الشعبي وإنما قد تغذيها دون قصد. فمشكلة هذا الخطاب أنه لا يشبع ولا يكتفي وإنما يبحث دائمًا عن هدف أو «آخر» ليستهدفه. بهذا المعنى، فالاحتكاكات السلبية مرشحة للاستمرار بل ربما للتفاقم، وهو ما يحمل مؤشرات سلبية على السلم المجتمعي في تركيا، وهو أمر لا يملك أحد رفاهية التهاون فيه.

لقد قدمت تركيا للسوريين الكثير على مدى السنوات الفائتة، بما في ذلك التغاضي عن بعض المخالفات القانونية بغية تسهيل إقامتهم وحياتهم، وهو ما يترتب عليها مسؤلية الحكمة في التعاطي مع الملف، لا سيما في غياب أي منافسة انتخابية قريبة. ليس مطلوبًا من أنقرة اليوم أن تتناول هذا الملف الشائك بسياسة إطفاء الحرائق، وإنما بوضع رؤية شاملة ومقاربة متكاملة تشمل ملف التجنيس والإدماج في المجتمع وصناعة و/أو تطوير منصات تمثيلية للسوريين (وهي مسؤولية السوريين في المقام الأول)، وترتيب أوضاع المخالفين بما يحفظ أمن تركيا وحقوقهم، إذ هنا تحديدًا ينبغي للسياق القانوني أن يخضع للاعتبارات السياسية والمصلحة العامة، للسوريين ولتركيا كذلك.