كان صيفًا حارًا كالعادة في شهر يونيو، ولكن الأكثر حرارة كانت هتافات المشجعين. منذ ما قبل شارة البداية والهتافات لم تنقطع، كانت أصوات الجماهير تلهب المدرجات حرفيًا. حين شاهد العالم هذه اللقطات من البث الحي لنهائي كأس العالم عام 1978 بين الأرجنتين وهولندا والمقام على ستاد «مونومينتال» بالأرجنتين، شعر كل بلد أن أمامه الكثير ليملك جمهورًا كجماهير الأرجنتين و حبًا للكرة كحب قيادة الأرجنتين.

أنا لا ألومك على بكائك الآن، أنا فقط ألومك على ذكرك أن العالم صار أسوأ!. ومنذ متى يا صديقي كان العالم أفضل؟!.

و بعد ثلاث سنوات، كانت الإقامة الجبرية من نصيب تلك القيادة العاشقة للكرة «خورخة فيديلا»، حينها ظهرت حقيقة تلك المباراة القذرة واتضح لمن كان يقرأ شهادات أمهات جموع المعتقلين حينها أن تلك الهتافات الحارة في أغلبها لم تكن إلا للتغطية على أنين آلاف المعتقلين أسفل ستاد مونومينتال، حين كانت السجون تلفظ الزيادات الرهيبة من المعتقلين إلى ساحات أوسع كملاعب كرة القدم. تلك الاعتقالات التي نالت حتى من جارات الأرجنتين كالبيرو، والتي قبلت أن يدخل شباكها ستة أهداف نظيفة احتاجتها الأرجنتين لتضمن الصعود من دور المجموعات مقابل الإفراج عن عدد من المعتقلين البيروفيين وبعض الإكراميات السخية. إنه كأس عالم مجنون، لكن حظه أن العالم لم يكن يراه وقتها بهذا الشكل. كانت الرؤية أضيق، وكان العالم مسرحًا كبيرًا، وكل حكومة تملي على جمهورها أي فصل يشاهدون، فأقنع الاتحاد الدولي FIFA العالم أن الوضع هادئ جدًا في عهد «خورخة»، وكانت أول رعاية للشركات عابرة القارات لبطولة عالمية متمثلة في «كوكاكولا» التي كانت تتغنى بحب الإنسان والسلام في تلك البطولة!.

أراد «ماو تسي تونغ» أن يعيد تشكيل الصين وحده، فأطلق «القفزة العظيمة للأمام» والتي كانت ترى أن الزراعة الخاصة أمر يقلل من شأن الصين التي تتجه إلى الصناعة، فانتهت القفزة بوفاة أكثر من ثلاثين مليون من الجوع، ولكنهم في النهاية قفزوا بالصين على أجساد جائعة. المشكلة أنه بعد عقود أنت تقرأ الرقم «30 مليونًا» في لحظة عابرة ولا يبقى من مأساة الرقم في قلبك شيئًا، وتبكي لمأساة مذابح تحدث هذه الأيام بأرقام أقل. أنا لا ألومك على بكائك الآن، أنا فقط ألومك على ذكرك أن العالم صار أسوأ!. ومنذ متى يا صديقي كان العالم أفضل؟!.

يجد البعض من عشاق «النوستالجيا» أن يلجأوا إلى ذكر أمجاد العروبة واتساع رقعة الحكم، متناسين أو جاهلين بعهود تفنن فيها الحكام باختراع أساليب التعذيب والتنكيل بالمعارضين، حتى أن عبد الله بن المقفع – لأجل كلمة ألقاها – مات ميتة بأن أطعموه كل أعضائه مشوية على النار، وأن جـل من خاض علم الحديث مات مقتولاً أو مسجونًا، وأن قصور الإمارة ولعقود كان يبيت بها أمير فلا تغيب الشمس إلا واغتاله آخر متربعًا على عرشه. يهربون من ديكتاتورية السادات إلى فظائع الناصرية إلى جدب الملكية، ولو قلبوا صفحات أكثر إلى الوراء لهربوا من التاريخ كله إلى أبعد مما كتب التاريخ.

كان جدك يسمع القصة المفجعة فيتعجب منها شهورًا وربما سنوات وأنت الآن تنسى الأخبار من كثرة ما يصلك

يا صديقي العالم كما هو العالم، هوّن عليك، لطالما كان العالم مليئًا بالمجاذيب الذين حكموا الشعوب، ولطالما كانت الأقلية تسبح ضد التيار فتتهشم أضلاعها والأغلبية تسبح معه فتهوي إلى جرف عميق. في الوقت الذي كان فيه جوعى تسونغ يموتون، كان «الحلم الأمريكي» في أوجه. في الوقت الذي كان فيه رقيق القرن الأفريقي يموت فوق تلثهم فقط من نقلهم عبر البحر، كانت أوروبا تقود الباقي منهم بالسياط إلى المزارع وخدمة البيوت وهي لا تنفك تتغنى بترانيم عصر النهضة. و إن كنت مواطنًا أوروبيًا وقتها فستمتن لو أنك حضرت صالونًا أدبيًا تحكي عنه لأحفادك، أو وقفت بشرفة محبوبتك تعزف القيثارة. أما إن كنت أسمر البشرة فستمتن لو وصلت الميناء حيًا ونلت كل شهر رغيفًا من الذرة.

العالم كما هو العالم، أوجه متعددة من العدم إلى الرفاهية الزائدة، كل ما في الأمر أنك أوقعت نفسك في شرك البؤرة الأوسع، فثورة الاتصالات لم تفعل سوى أنها جعلت من بؤرة عينيك أوسع. كان جدك يظن بقريته كل العالم وأنت الآن تهتم للتغيرات المناخية على كوكب المشترى، كان جدك يسمع القصة المفجعة فيتعجب منها شهورًا وربما سنوات وأنت الآن تنسى الأخبار من كثرة ما يصلك، كان جدك يهتم لأمور عائلته وأنت أثقلوك بهموم حتى العوالم الموازية. قبلك كان جدك يقع تحت طائلة ما تحب حكومته أن يعرف ولا يعرف عنها والآن أنت تعرف أكثر مما ينبغي بالفعل، فأنت تعرف ما تريد حكومة روسيا أن يعلمه الناس، وتعلم ما يحب معارضو النظام الروسي أن يصلك، يردك ما يجعل من «بشار» رئيسًا ملهمًا وما يجعل منه ديكتاتورًا طاغية. الكل يملي عليك ما يريد على نفس التردد ونفس حائط المنشورات، فإلى أين الفرار؟!.

سألني صديق: هل اقتربت الساعة؟، فرددت عليه: و منذ متى كنت بعيدة؟، منذ عهد الصحابة ومن قبلهم الحواريين ومن قبلهم أنبياء كثر، والكل ينتظر الساعة ويرتقب نهاية العالم، ولا يعلمون أن العالم كما هو يسير به الوقت كرجل أصم، لا ينتبه إلى توسلاتك ولا إلى نجاحاتك، لا يبطئ الخطى من أجلك و لا يسرع من أجل عدوك، هو فقط يمضي بنفس الوتيرة ولا ذنب له أنك صرت تدرك أكثر أو تصغي أكثر إلى حركات العقارب. هو لا يهتم بك و لا برأيك بالعالم، لا يهمه أن كنت أغنيتك «اضحك للدنيا» أو «العنها»، هو يمضي عليك كما مضى على جدك، فهوّن عليك، لطالما كان العالم مزدحمًا بأضرحة المعاتيه وأقبية الصالحين، لطالما كان فيه الخل الخائن والوفي، لطالما كان فيه من يشرب الدم ومن يتعفف عن غيبة أخيه، لا فرق إن كنت تطل على العالم من أعلى الهرم الأكبر أو كنت رهين بئر معطلة، المهم أن تثق أن الوقت يسري كما كان دومًا ولتهدئ من قلقك؛ علك تهتدي إلى حلول أفضل لمن حولك. فالناس أغلبهم يقلقون من الأسئلة وأقلهم يسألونها، ثم يأتي كل فترة من يمنحنا إجابة ويرحل في هدوء، فأين أنت من تلك الصنوف؟.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.