مستشفى الشفاء هو مستشفى مهم جدًا في طنطا.. الاسم زائف طبعًا، لكنهم يعتبرونه عروس الصحة.. إمكانات لا بأس بها، وطاقم أطباء جيد. هذه قصة حقيقية طبعًا.

دكتور عادل هو ترس صغير جدًا بالغ الأهمية في هذا المستشفى، وعليه يقع عبء كل شيء تقريبًا، وهو موضوع في أغلب النوبتجيات، كما أنه أول من يتشاجر مع أهل المريض. هذا مغرٍ جدًا للناس بسبب نحوله وجحوظ عينيه ومعطفه الذي اتسخت أطرافه. يدرك أهل المريض على الفور أن هذا هو الطبيب المخصص للشجار هنا.

المدير لا يستغني عن د. عادل. كل مهمة لا يعرف كيف ينفذونها بدءًا بإعادة رصف إفريز أو إصلاح جهاز تكييف أو تركيب كولدير في الفناء أو طرد الوطاويط التي تحتل الطابق الثالث، يكلف بها د. عادل، وهذا الأخير يعرف من يطلب بالضبط.

في ذلك اليوم جاء عم بسيوني ومعه زوجته.. عم بسيوني فلاح معدم من قرية جوار طنطا. في الستين من عمره، يطل شعره المجعد من فتحة صدره كضبع مسن، وعلى فوده علامة العصفور الأصلية خضراء زاهية.. الزوجة هي موضوع الزيارة برئتها المتليفة تمامًا وهبوط عضلة القلب المتقدم.

اللون الأزرق يغزو كل شيء في جسدها. الأزرق في أطراف الأصابع والكف، وهناك لون أزرق آخر في أعلى الساعد بسبب محاولات الممرضات للبحث عن وريد، وهي عاجزة عن فرد ساقيها قليلًا في الفراش وليس المشي.

كان الكل يعرف منذ اللحظة الأولى أن المرأة مشروع متوفى. الجثة الحية. ولأسباب كهذه قلل الأطباء زيارتهم لها، وكانت الممرضات يعاملنها بإهمال. بينما يجلس عم بسيوني على الفراش وهو يحاول أن يصب عصير القصب في حلقها صبًا. كان باهتًا فقيرًا ضعيفًا لدرجة أن أمن المستشفى لم يكونوا يرونه وهم يطردون الرجال من عنابر الحريم، أو هم يخلون العنابر من أقارب المرضى. لقد كان دائمًا هناك وسوف يبقى هناك. فقط يخرج ليبتاع لها شيئًا أو يلف سيجارة وهو يقف في الردهة. كَفّ عن إلقاء أسئلة لأن الأطباء لا يلاحظون وجوده ولا يردون على أسئلته أبدًا.

كان يعرف أن زوجته مريضة جدًا وموشكة على الموت.. لكنه لا يعرف أين توجد المشكلة فعلاً. بالنسبة له تبدو عبارة (تليف رئوي) نوعًا من الرطانة اللاتينية. ابناه في العراق، وهو وحيد تمامًا، ومن الواضح أنه سيصير وحيدًا جدًا، فهناك درجات من الوحدة كما تعلم.

جاءت النهاية بسرعة عندما مرت الممرضة على الفراش لتوقظ المريضة:

– «اصحي يا خالة خديجة.. معاد الدوا».

ثم أدركت أن المريضة ماتت.. استدعت الطبيب الذي قاس الضغط بسرعة ثم كتب تقرير الوفاة في ملل، وتنقل الجثة للمشرحة بعد ساعتين، ثم انصرف لأن المدير يريده.

كانت المشرحة تقع في نهاية ممر طويل كئيب. هي أشبه بحمام تتوسطه مائدة مثقوبة من رخام. وقد نقلوا له الجثة، وراح حسن متعهد المشرحة ينتظر أقارب السيدة.

بعد يوم بدا أن عم بسيوني قد تلاشى.

لم يعد للعنبر ولم يظهر، حتى أن الممرضات لم يعرفن إن كان قد عرف بوفاة زوجته. بل خطر لبعضهن أنه قد توفي في حادث خارج المستشفى.

مر يوم كامل.

نحن في يونيو/ حزيران والطقس حار جدًا.. العرق يغمر كل شيء.

الحياة تعسة بما يكفي فلا يمكن أن نضم لها الرائحة العطنة التي بدأت تنتشر. المدير طلب نائبه وسأله عن سبب الرائحة.. قال النائب إن ثلاجة المشرحة معطلة منذ ستة أشهر. هناك جثة لم يتسلمها أحد.

– «اعمل أي حاجة.. بلغ البوليس».

لكن ظلت الأمور كما هي.. الرائحة تزداد قوة. لابد أن غرفة القتيلات المدفونات في بيت ريا وسكينة كانت رائحتها أفضل من هذا.

الرائحة تتزايد.. بعض الممرضات يفقدن الوعي. الأطباء طلبوا إجازات أو صاروا يفرون من المستشفى فرارًا، وجمع الباقون مالاً واشتروا كميات هائلة من الفينول والكيروسين والنافتالين.. تم رش كل جزء من المستشفى بهذه المواد، لكن ظلت الرائحة قوية تخرج رأسها من بين الروائح الأخرى قائلة هأنذا.

مر أسبوع في هذا الجحيم.

الحل الوحيد هو استدعاء د. عادل.

– «هو بيعرف الحاجات دي».

باعتبار د. عادل خبيرًا في التخلص من الجثث المتعفنة. هناك في مكتب المدير كانت التعليمات واضحة: عليك أن تجد زوجها ولو من أعماق الأرض.. وليأت ويأخذ هذه المصيبة التي تركها عندنا.

قالها المدير ثم أحرق ورقة التعليمات السرية قائلًا إن عادلًا يجب أن يتصرف من تلقاء نفسه من هذه اللحظة.

هكذا انطلق د. عادل يفتش في ملفات المرضى، وأجرى تحقيقات جديرة بسكوتلانديارد إلى أن وصل إلى أحد عمال المستشفى من قرية مجاورة لقرية بسيوني.

استقل الرجلان أكثر من ميكروباص بناء على تعليمات المدير.. الحر والعرق.. في النهاية وصلا إلى القرية التي يعيش فيها عم بسيوني.

بعد أسئلة عسيرة وتضييق للدوائر أرشدهما فلاح مسن إلى حقل عم بسيوني.

الغروب يسدل أستاره على الأفق.. هناك تحت شجرة تقف جاموسة مع حمار. وتحت الشجرة يرقد عم بسيوني يشرب الشاي.. مذياع صغير يذيع أغنية لأم كلثوم:

«الليل وسماه ونجومه وقمره..».

يلف سيجارة ثم ينظر للأفق حالمًا، ولم يبالِ كثيرًا بقدوم الزائرين.

– «اتفضلوا شاي».

تربع الرجلان على الأرض والتقطا أنفاسهما، ثم قال الطبيب إن على عم بسيوني أن يأتي لتسلم جثة زوجته التي توشك على التحلل.

«والهوا .. آه منه الهوا».

قال عم بسيوني:

– «اسمع يا بك.. زوجتي دخلت المستشفى فلم أعرف مما كانت تشكو.. ماتت فلم أعرف لماذا ماتت.. اليوم يريدون مني أن آخذها.. أنا عدم المؤاخذة لا أملك مليمًا لزوم الكفن ولا الدفن ولا… أنتم أخذتموها فأكملوا جميلكم وغسلوها وكفنوها وادفنوها!»

– «اسمع.. هذا ليس من حقك».

– «ليس من حقي أي شيء يا بك».

– «سوف نسلمها لكلية الطب ليشرحوها».

– «فليفعلوا يا بك.. فهي قد ماتت على كل حال».

دار جدل طويل، لكنه كان متمسكًا بموقفه. هناك وهو يرقد تحت الشجرة بينما الليل قد بسط ملكوته على المكان فلم يعد باقيًا سوى وهج السيجارة في الظلام.

– «وطلباتك؟»

قال عم بسيوني وهو ينظر للسماء:

– «غسل وتكفين ونقل بالإسعاف على حساب مستشفاكم.. هذا أقل شيء ممكن».

ظلا يرقبانه في غل. كلما أوشكا على الشجار تذكرا رائحة المستشفى الخانقة ووجه المدير وإغماء الممرضات.

تساءل د. عادل:

– «هل يقبل المدير هذا؟»

قال العامل:

– «سيقبل يا دكتور .. هي لعبة أعصاب وقد ربحها الرجل. ليس لديه ما يخسره».

نهض الرجلان في تثاقل مبتعدين وهما يفكران في رحلة العودة الشاقة، ومن خلفهما أشعل عم بسيوني سيجارة أخرى بينما أم كلثوم تردد:

«ازاي .. ازاي .. ازاي أوصف لك يا حبيبي ازاي؟»