تم تكفير أدباء وشعراء وفلاسفة ومفكرين على مر التاريخ، فمنهم من قُتل مثل «سقراط» و«هيباتيا» و«الحلّاج» و«فرج فودة»، ومنهم من مُنعَت أعماله مثل «نجيب محفوظ» و«نوال السعداوي»، ومنهم من نُفِي كـ «نصر حامد أبو زيد»، وكانت العلة دومًا التعدي على المقدس الديني.

ونجد أن الذين لحق بهم التكفير كثر، وسنتحدث في هذا المقال عن بعضهم. ولكن قبل الحديث، يجدر بنا التعرض لظاهرة التكفير.

يتلقى القُرّاء النص الأدبي طبقًا لتاريخهم المعرفي وقدر ثقافتهم وحالاتهم النفسية عند القراءة، وينتجون التأويل المناسب طبقًا لذلك بعد النفاذ إلى الما وراء النصي واستقصاء ظاهره الواقعي، وقد أحدث المنع لرواية نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» درجة من الغموض حول الرواية، ودرجة من القراءة السابقة للقراءة الفعلية بأن بها مُحرَّم ما يشتمل بالضرورة على أفق التعرض للدين والذات الإلهية، وذلك أنجب تصورًا مسبقًا عنها فتمت القراءة بحذر وببحث عن هذا المحرم، مما جعل القراءة تنصرف عن الجماليات المُنتَجة في النص بعيدًا عن أفق التحريم في اللغة والسرد والحبكة والفكرة، ولكي يتبع القارئ الجمالية فعليه أن يعتمد على «عامل الذوق في تلمّسها ولكنه الذوق المبرر المعلل المبني على الأسس والمعايير، لا الذوق الشخصي السائب»[1]

وتختلف هذه الأذواق المُعللة حتى على حسب معايير كثيرة؛ منها الإتقان في القراءة، والانفتاح الرؤيوي على النص، وتلمس الذات بدون منع أو بحث في النص عن شيء قبل القراءة.

أولاد حارتنا

القالب التاريخي للرواية هو الوعاء المكاني والزماني، وهو في الرواية التي نناقشها واسع جدًا وفضفاض على التعيين. والوقائع والأحداث والتفاصيل في الخلفية الرمزية تم تفريغها لوضع رؤية الكاتب، فهو لم يكرر ما حدث في التاريخ الديني بشكل حَرفي، بل تم موقعَة الهالة الإعجازية في مضمون واقعي أرضي، ومما يدلل على ذلك وضع الأحداث اليومية للناس، فقد تخلى عن الفانتازيا في الرؤية المنوطة عند الكثيرين للدين وتجسيد رموزه.

تم إحداث بلبلة كبيرة مع صدور الرواية، ودعا قادة الأزهر إلى منعها لكونه كتابًا رمزيًا للدين الإسلامي بتجسيد نقدي بلا مدح أو ثناء. الرواية من أهم روايات محفوظ، إن لم تكن الأهم، وقد تم منعها فعلاً إلى أن سُمح بنشرها وتداولها بعد بعض الوقت.

تُمثل الرواية التاريخ الديني اعتمادًا على القرآن وعلى الأحاديث النبوية، وما هو راسخ في اللا وعي الجمعي. فهي تعبر عن التاريخ الإنساني حسب القراءة الدينية له، ولها أبعاد ميتافيزيقية بعد تحول محفوظ من القصة المجتمعية إلى هذا اللون، وتعبر أيضًا عن الانتماءات الذاتية لمحفوظ والاعتراضات على المثل، وقد جسّد ذلك في استعارة ضخمة هي الرواية بموقَعة جديدة في حارة وزمن بشري، حيث قال الأستاذ «محمد عبد العليم صبح» إنه يمكن تقسيم الرواية إلى ثلاثة أجزاء:

  • الأول: عصر الخرافة، ويوازي مرحلة أدهم.
  • الثاني: عصر الدين، ويوازي مراحل (جبل ورفاعة وقاسم).
  • الثالث: عصر العلم، ويوازي مرحلة عرفة. [2]

بتشخيص الهرمية الإسلامية، حيث ينفي الجبلاوي (القوة الجبارة) أولاده، كأنه يطردهم من جنته «عدن»، قبل أن تتراجع الشخصية إلى المنزل المُبهم والمُعقد كشفه، وتكون قوة غير مرئية حاضرة في حيواتهم جميعًا، في حبكة رمزية لعب فيها محفوظ بالشخصيات لكي يُفرد أحداثًا لها تماس مع الدين الإسلامي.

تبدأ الرمزيات سريعًا في الرواية، حتى في الأسماء، فـ «إدريس» له نفس التوافق الصوتي مع «إبليس»، و«أدهم» كذلك مع «آدم». يفضل الجبلاوي أحد أبنائه على ابنه الأكبر كرمزية لقابيل وهابيل في إدارة الوقف، حيث إن همام وقدري تتوافقان صوتيًا مع هابيل وقابيل، وهكذا وإن لم يكن هناك توافق صوتي يكون هناك صفة ملازمة مثل موسى وجبل، فجبل الطور الذي كلم الله عليه موسى.

سنورد بعض القصص في الرواية لنؤكد التمثيل الرمزي في الرواية مع الدين، مثل قصة آدم وحواء، فأدهم عندما لاحظ أنه يخرج من ظله شخص، فرأى فتاة سمراء مُمثلة في حواء. [3] ووقف أدهم يومًا ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظل جديد يمتد من ظله ويشعر بقدوم شخص من المنعطف خلفه، بدأ الظل الجديد يخرج من موضع ضلوعه، والتفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهم بالتراجع.

القصة الثانية المهمة في النهاية هي قصة عرفة، وهو يمثل العلم الذي يقتل الجبلاوي، في إشارة إلى نهاية عصور الميتافيزيقا وحلول العلم مكان الدين.

يقول نجيب محفوظ عن الرواية:

إن تفكيرنا في الحياة كوجود يجردها من كل شيء، إلا الوجود والعدم، ولكن تفكيرنا فيها كمجتمع يُرينا مآسي كثيرة مُفتعلة من صنع الإنسان، كالجهل والفقر والاستعباد والعنف والوحشية إلى آخره، وهذا يبرر تأكيدنا على مآسي المجتمع، إذ إنها مآسٍ يمكن معالجتها، ولأننا في معالجتها نخلق الحضارة والتقدم، بل إن التقدم قد يُخفِّف من المأساة الأصلية وقد يتغلب عليها. وقد قلت ذلك في أولاد حارتنا، قلت: إن معالجة الشرور الاجتماعية بالاشتراكية يُفرِغ الإنسان لمعالجة مأساته الأولى وهي الموت، فإذا انقلب أهل الحارة -حارة الجبلاوي- بفضل توزيع الوقف بالمساواة والعدل والإنسانية، أتيحت لهم الفرصة ليكونوا جميعًا سحرة (علماء)، وليعكفوا على حل مشكلة الموت… أمّا التركيز على مأساة الوجود مع تجاهل مآسي المجتمع، فلن يحل مأساة الوجود، من جهة، ويحول العالم إلى عبث وبكاء، أو ضحك كالبكاء، غير أني لم أغفل أبدًا مأساة الوجود، ولعلي أزداد لها انتباهًا. [4]

وبهذا يوضح محفوظ كتابته الكلية ومسه للأفق الميتافيزيقي في الرواية على عكس رواياته الاجتماعية السابقة، فهو كتب في الدربين هكذا، في المأساة المجردة للوجود والعدم، وفي مأساة التفاصيل في العالم والحياة الاجتماعية.

الحلّاج

أما عن المكَفّر الآخر الحلاج، فقد تم صلبه عام 922م، وقُطع رأسه وأُحرق جسده، وذلك بتهمة التجديف والشطح أمام الناس في بغداد، وقد أيّد هذا الموقف مُفسرون وأئمة إسلاميون كُثر، مثل «ابن كثير» الذي قال في مدح القاضي «أبو عمر محمد بن يوسف المالكي» الذي سعى لقتل الحلّاج:

وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قَتْلَهُ الحسين بن منصور الحلاج. [5]

أمّا ابن تيمية فقال:

مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلاجُ مِنْ الْمَقَالاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الأَرْضِ… وَالْحَلاجُ كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ، وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ، وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلاجُ. [6]

ولم تخلُ مسألة صلبه من أمور السياسة، إن لم تكن هي الأساس، وذلك بعد إصداره أول بيان تاريخي ذي نزعة اشتراكية لتنظيم سياسة الدولة المالية، مما أدى إلى غضب الوزير «حامد بن العباسي»، وأُعد للقضية شهودها، كما صُنعت وثيقة الاتهام فيها، وكانت كما يلي:

  1. مراسلاته السرية مع القرامطة.
  2. اعتقاد أتباعه بألوهيته.
  3. قوله: أنا الحق. [7]

أمّا عن الشطح فقد عرِفه الصوفية من قَبل الحلاج ومن بعده، وقد عرّفه الطوسي أنها «عبارات ظاهرها مستشنع، وباطنها صحيح مستقيم»، وهي عبارات لها دلالات تداخل مع الإلهي وذلك لعدة أسباب، منها شدة الوجد كما حددها الدكتور «عبد الرحمن بدوي» والشهود الذي لا لغة فيه.

هذه الشطحات ظاهرها يتعارض مع الشرع أمّا باطنها فلا يتعارض مع كون الصوفي الجواني. والمعروف في الصوفية وعنهم أن أقوالهم مُرمَزة بشكل كبير ولها معانٍ أخرى غير ظاهرها، فالشطحات تم تفسيرها بشكل مختلف تمامًا، والترميز يرجع إلى الابتعاد عن حملات الفقهاء التي شنّوها عليهم، ويرجع إلى عدم احتواء اللغة العادية لمعانيهم مواجيدهم، ومع ذلك يحظى الخطاب الصوفي للكثير بالقراءة والاهتمام وكذلك الأدب الصوفي والشعر.

تم تأويل الكثير من الشطحات، فقد سُئل «أبو بكر الرازي» عن شطحة الحلّاج التي اُعتمد عليها في صلبه، فأوّلها إلى خمسة تأويلات مختلفة:

اعتماد المتصوفة للرمز راجع لكونه لا يمكن التعبير عن عوالم غير عادية بلغة عادية، فتتخذ اللغة في التجربة الصوفية منحنى ازدواجيًا، حيث تجسد الدلالات المحسة، أشكالاً ذات بعد إشاري تجاه ما تومئ إليه، مما يكاد يمثل تفسيرًا جديدًا حيث لم تعد اللفظة أو الكلمة تحمل نفس المعنى الذي تعرفه، بل تأخذ دلالات أخرى خلفية. [8]

لذلك النص الصوفي يعتمد مثله مثل اللوحة التجريدية على القارئ بشكل كبير في تبين الرموز، وأن القارئ دخل «ضمن الثالوث المتكون من المؤلف والعمل والجمهور، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على الانفعال بالأدب، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ». [9]

ولكي يستطيع القارئ تذوق العمل الأدبي أو الفني بشكل كامل، عليه أن يتذوقه جماليًا لا بتقمص دور القاضي، لأن دور القاضي ينفِي الجمالية ويُعيِن السلطة الفردية والجمعية على النص وبطريقة أخرى على الكاتب.

المراجع
  1. جميل علوش، النّظرية الجمالية في الشّعر بين العرب والإفرنج، مجلة عالم الفكر، العدد 1.
  2. محمد عبد العليم صبح، حول رواية أولاد حارتنا، مجلة إبداع، العدد 1-3.
  3. نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، ص10.
  4. غالي شكري، مقابلة مع نجيب محفوظ، مجلة حوار، العدد 3.
  5. البداية والنهاية (11/172).
  6. مجموع الفتاوى (2/480).
  7. طه عبد الباقي سرور، الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي.
  8. سعاد شابي، إشكالية قراءة الخطاب الصوفي، مجلة الأثر، العدد التاسع.
  9. هانز روبرت ياوس، جمالية التلقي، ترجمة رشيد بنحدو.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.