قد يحدث أن تكون شخصًا انطوائيًا، مملًا و قليل الكلام، شابًا لا هدف له في الحياة، لا تأبه لسقوط فستان «هيفاء وهبي» ولا لطلاق «أنجيلينا جولي» من «براد بيت». قد تكون ابنًا لوالدين متوسطي الدخل اختارت الأقدار لك أن تعيش في حي راقٍ، لا يثير سهر أقرانك في العلب الليلية ولا سياراتهم ولا ملابسهم الباهظة الثمن شغفك إلا أنك تحقد عليهم لتعلق كل فتاةٍ تُثير إعجابك بهم. تقتني قمصانك من سوق الملابس المستعملة، تمشي نهارًا بين الأزقة رفقة صديقك الوحيد، وتستلقي ليلًا في فراشك متخيلًا حوارًا يدور بينك وبين الفتاة الشقراء التي لم ولن تجرأ يومًا على مصارحتها بحبك تجاهها، أو تسهر في غرفتك رفقة مسرحيات محمد صبحي وسعيد صالح، إلى جانبك شخصية نقية لا يراها غيرك فهي شخصية خيالية من صنعك، تبادلك أطراف الحديث. تجد في غرابتك وحمقك وخجلك جمالًا لم يره أحد من قبل حتى أفراد عائلتك وفي كتاباتك أو أغانيك أو رسومك براعة لم تسترعِ يومًا انتباه أي كان.

لن تستوعب الأمر في البداية، ستتردد وسيتملكك الخوف، فمن المؤكد أن شابًا بالمواصفات المذكورة أعلاه. قد تعلم من الحياة أن الأشياء الجميلة دائمًا ما تكون متبوعة بكوارث محبِطة

و فجأة، ينقلب وطنك رأسًا على عقب، تسمع عن مظاهرات واحتجاجات تجتاح جل المدن، عبارات لم تطرق سمعك من قبل إلا عبر أفواه والديك اللذين كانا يخفضان صوتيهما قبل نطقها؛ حرية، كرامة، حياة سياسية، ديمقراطية، انتخابات، مجلس تأسيسي، نواب، أحزاب. إنها الثورة!

لن تستوعب الأمر في البداية، ستتردد وسيتملكك الخوف، فمن المؤكد أن شابًا بالمواصفات المذكورة أعلاه. قد تعلم من الحياة أن الأشياء الجميلة دائمًا ما تكون متبوعة بكوارث محبِطة، ولكنك فيما بعد ستستسلم للفرح وتطلق العنان لسذاجتك وطيبتك لأنك عربي مثلي والعرب عاطفيون كما قال السيد «كيم».

ستستيقظ لأول مرة منذ سنوات طويلة باكرًا، ستطل عبر نافذة غرفتك وتنظر إلى منازل أقرانك وسياراتهم الفخمة التي تزين الشارع وتصرخ بعد أن تُسْكِرَكَ خمرة الثورة «لا محسوبية بعد اليوم، كلّنا سواسية». لا تخف، فقد مررتُ بما ستمر به أنت. أعلم بأنك لستَ طماعًا، فأنت لا تريد أن تصبح غنيًا مثلهم، كل ما تريده هو أن يسيطر القانون فيحرمهم ممتلكاتهم التي ظفروا بها من خلال الكذب والتلفيق والتزوير والتحايل على القانون وأن يُجازوا على ما قدموا وأخروا.

و منذ ذلك الحين قد تدخل معارك افتراضية طاحنة، ستعادي هذا وستتحالف مع ذاك. أعلم أنك خجول مثلي ولكن وسائل الاتصال الاجتماعية ستحولك إلى شخص آخر، فالأمر لن يتطلب أكثر من جلوسك أمام حاسوبك. ستصور لك الثورة بأن كلماتك مهمة جدًا، ستتحدث في كل شيء وكأنك خبير بكل المواضيع، ستشتم ذاك و تلعن آخر حتى و إن كان أقرب أصدقائك، ستتّخذ أخيرًا أصدقاء كثر، رفاقًا ورفيقات أو إخوانًا وأخوات. ستظن بأنك حر طليق، بيدك أمر وطنك ومستقبله. ستظن بأن بلدك سيصبح تركيا جديدة أو سيسير على نهج البلدان الإسكندنافية، ستظنّ بأنك وفقراء شعبك ستنعمون أخيرًا بخيرات أرضكم التي سيُخيلُ لك وقتها بأنها لن تحمل فوق كاهلها سجونًا ولن تعرف مظالم بعد ذلك اليوم.

الآن انتبه جيدًا فهذه المرحلة خطيرة قد تجعلك مجنونًا مثلي.

ستكون صدمتُكَ قوية جدًا إلى حد يدفعك إلى اليأس، ستبتعد شيئًا فشيئًا عن القضايا السياسية التي لن تسترعي اهتمامك مرة أخرى

ستبدأ سكرة الثورة في التلاشي تدريجيًا، قد تستفيق على صورة شخصية ذات تاريخ أسود تعتلي كرسي الرئاسة أو قد تقطع ثملتك أصوات الدبابات لتعيد وطنك تحت قبضة العسكر مرة أخرى. تنظر من حولك فلا تجد لا رفاقًا ولا إخوانًا، كلٌ انصرف إلى مشاغله. ستكون صدمتُكَ قوية جدًا إلى حد يدفعك إلى اليأس، ستبتعد شيئًا فشيئًا عن القضايا السياسية التي لن تسترعي اهتمامك مرة أخرى حتى وإن عاصرتَ مجزرة يذهب ضحيتها أكثر من ألف شخص برصاص من يفترض أن يكونوا حماتهم.

سيصل بك الإحباط إلى درجة لا مبالاتك بالأموال التي تضعها- الحكومة التي تطالبك بالتقشف- على ذمة بناء تماثيل لديكتاتوريين خربوا أحلامك.

ستختفي سكرة الثورة وتختفي معها المظاهرات الحاشدة وشعارات الحرية، وسيدب الخوف والحزن والكآبة شيئًا فشيئًا في جدران مدينتك، ستستفيق تمامًا حينها لتعود إلى عالمك القديم، عالم الوحدة القاتلة، لكنّه سيكون هذه المرة أكثر ظلامًا. ستفطن إلى هجرة صديقك الوحيد نحو إحدى الدول المتقدمة بهدف العلاج من سرطانٍ تمكّن منه في زنازين الظلام تاركًا لك ذكريات تبكيك في كل مرة تسير فيها وسط تلك الأزقة التي كان يرافقك إليها. ستفتح نافذة غرفتك لتكتشف بأن سكان حيك الخارجين عن القانون بمساعدة الدولة قد زادتهم الثورة مالًا وجاهًا حتى صار لكل واحد من أبنائهم سيارة خاصة به. لا تكن غبيًا مثلي، لا تمعن النظر في سيارة أحدهم فتراه يلبس إحدى القمصان التي كنت تشتريها بثمن بخس والتي صارت موضة الأغنياء و يتمتع بأشيائِك الجميلة كالأغاني الثورية التي صارت ترتفع من بين أبواق هاتفه الذكي، أو قد تفتح تلك الشقراء التي لم تجرؤ على محادثتها يومًا باب السيارة لتصعد إلى جانبه فتُذَكرَكَ من جديد بأنك شاب ممل لا يتقن حتى الحديث مع البشر، وحينها ستغلق نافذة غرفتك إلى الأبد. ستفتح حاسوبك لمشاهدة مسرحية لمحمد صبحي فتتذكر أيضًا بأن محمد صبحي كان ضد الثورة. في ذلك الوقت لن تجد ملجأ آخر غير تلك الشخصية الخيالية، ستكون في انتظارك، كلها شوق بأن تجعلَك تبدو في نظر كل من حولك مثلي مجنونًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.