حلت هذا العام الذكرى الخمسون لكارثة الخامس من يونيو لعام 1967، والذكرى الرابعة والأربعون للعبور العظيم. كلا الحدثين شكلا حجر زاوية مهم للدولة المصرية والوجدان الجمعي المصري لعدد من الأجيال، كما مثلا محنة قاسية عاشها أهل مدن القناة على مدى سنوات من القصف والتهجير، ومن الملاحظ أن الرواية الرسمية – وهي الأكثر شيوعًا لتلك الفترة سواءً تاريخيًا أو أدبيًا- قد همشت كفاح أهل السويس وتناست المعاناة الشديدة التي كابدها كل من عاش في هذه البقعة من أرض مصر في تلك الفترة.

بعيدًا عن الرواية الرسمية للحرب، كتب الأديب الراحل جمال الغيطاني مجموعته القصصية المميزة «حكايات الغريب» عن السويس والحصار الذي قاساه أهلها بعد العبور، وحدوث ثغرة الدفرسوار، والذي كان الغيطاني شاهدًا على أحداثه من خلال عمله كمحرر عسكري لجريدة أخبار اليوم حتى عام 1976.

عبر نصوص المجموعة السبعة يستطيع القارئ أن يعاين أجواء الحصار، الابتعاد عن الأهل، دمار البيوت، الشوارع الميتة، فخر التضحية المخلوط بألم الفقد، مرارة الهزيمة واليأس

في خضم الحصار والحرب، وبعيدًا عن الصور المعتادة، ينطلق الكاتب نحو الهامش، ينقب عن أبطال مصر المنسيين، وعن آلام وأيقونات صمود حُذفت – بعمد أو بدون عمد- من الرواية الرسمية لأحداث تلك الفترة، ونجحت تجربته بالفعل في رسم صورة غنية بتفاصيل التضحيات والمعاناة التي تحملها المصريون عمومًا وأهل السويس خصوصًا في الحرب ضد الكيان الصهيوني.

عبر نصوص المجموعة السبعة يستطيع القارئ أن يعاين أجواء الحصار، الابتعاد عن الأهل، دمار البيوت، الشوارع الميتة، فخر التضحية المخلوط بألم الفقد، مرارة الهزيمة واليأس، ترقب الثأر ونوبات الأمل المصاحبة لكل غارة ورصاصة، ثقل الشتات والتهجير الذي لا ينتهي حتى بتحقيق الأبناء لآمال آبائهم في بلاد أخرى، والذي يبعث في قلوب المهجّرين المكدودة بعضًا من أمل، ولكن واقع التهجير وقسوة الهزيمة يعكران الفرح بالألم وكل أمل بخيبة، فيصرون على التمسك بالحياة في السويس.

يستدعي الكاتب بلد الغريب بجغرافيا تختلف عن الصور المستهلكة لأفلام الحرب، حيث الخنادق أو الثكنات أو طلعات الجنود أو عودتهم لقراهم في صعيد مصر ودلتاها. فقط تحضر السويس ببيوتها المقصوفة أو المهجورة، وميادينها المحاصرة، ومقاهيها الخالية، وطرقها المهدمة.

جعل الكاتب من السويس قبلة للهوية، فجاء إليها بأبطالها من كل أنحاء مصر، جنودًا وضباطًا، وسائقين، وباعة شاي وخضروات بل مشردين. في السويس انتفت الرتب والأصول، ربما تباينت الملابس واللهجات، ولكن الكل اتفق على حرب الصهاينة، ولعل هذا الاختبار كان حاضرًا في معظم القصص، اختبار ترك السويس والارتحال لابن أو ابنة أو وظيفة أو لقمة خبز في مكان آخر، ولكن بقي الكل في السويس، فضحى بائع الخضار بأقفاصه القليلة، وحارب صاحب نصبة الشاي بأكوابه.

يمعن الكاتب في التأريخ لهذه الحقبة وربطها بتراث المقاومة، فيعطي لبعض أبطاله فرصة تسمية أنفسهم بأسماء جديدة، حتى يبدؤوا هذه المرحلة من حياتهم بشيء من الاختيار الحر، فيختاروا أسماء مثل الحسين، وسيف بن ذي يزن، وسليمان الحلبي، وطومان باي، وأدهم الشرقاوي، وكأن الكاتب يسطر ملاحم السويس في صفحات تراث النضال المتوالية، ويحاول أن يمنح السويس وأبطالها المنسيين بعضًا من خلود وإنصاف كتب التاريخ.

تنوع أسلوب المجموعة عبر قصصها بين التوثيق من خلال المراسلات والمذكرات والتقارير، والسرد الذاتي، وقد ساهم هذا التنوع في خلق حالة سردية استطاعت تصوير أجواء السويس في هذه الفترة، والتنقل بين العام والخاص والتقاطعات بينهما.

تقدم المجموعة لوحة إجلال لشخصية المواطن المصري البسيط، تتوّجه بطلًا غريبًا، وتؤكد استعداده الكبير للبذل وقت الخطر، وتُثمّن ما قدم من تضحيات قد تبدو بسيطة ولكنها كانت كل ما يملك

تقدم المجموعة لوحة إجلال لشخصية المواطن المصري البسيط، تتوّجه بطلًا غريبًا، وتؤكد استعداده الكبير للبذل وقت الخطر، وتُثمّن ما قدم من تضحيات قد تبدو بسيطة ولكنها كانت كل ما يملك، وأضاف الكاتب لمحة من القدرة الخارقة أو الغرائبية لأغلب شخصيات المجموعة، فالعميد أركان حرب والبائع المتجول الذي يفترش العراء، كلاهما يمتلك قدرة خارقة ربما في الاحتمال أو سرعة الحركة تجلّت أثناء الحرب.

حملت المجموعة عنوان «حكايات الغريب»، وهو عنوان قصتها الخامسة، وتعتبر قلبها النابض وأكثر القصص تعبيرًا عن روح المجموعة وعن البطولة الحقيقية في الحرب والحصار. تحكي القصة عن سائق من أهل الجمالية يصبح مفقودًا في السويس بعد أن سافر في مأمورية رسمية بأحد السيارات، وعندما تذهب لجنة من مؤسسة التوزيع لتقصي حقيقة العهدة المفقودة والسائق، تكتشف اللجنة مفاجأة بخصوص مصير السائق.

تحولت قصة حكايات الغريب لفيلم أنتجه اتحاد الإذاعة والتليفزيون عام 1992، وتشارك بطولته محمود الجندي ومدحت مرسي ومحمد منير، وأخرجته إنعام محمد علي.

ينهي الكاتب المجموعة بنص طويل جامع لكل المعاني التي عرضها، ولكنه يختار النهاية معبرة عن مآل قصص السويس وأبطالها، وهو النسيان والتنكر. ربما أراد الكاتب الإشارة للجزاء غير المنصف لأبطال بسطاء كُثر نسيتهم حسابات السياسة والاقتصاد بعد الحرب، وهمشت قصصهم وقصص السويس المحاصرة.

نال العمل حظًا مشابهًا لحظ حكايات السويس في الحرب. فعلى الرغم من ندرة الأعمال التي تناولت هذا الجانب من الحرب، وبالرغم من شهرة الكاتب أيضًا، فإن العمل لم ينل أي حفاوة تذكر، الأمر الذي وصل إلى تصنيفه بالخطأ كرواية على كثير من محركات البحث، فأصبح العمل غريبًا يحكي عن غريب.

صدرت المجموعة عام 1976 ضمن كتابات الغيطاني عن الحرب، وقد طبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في دورات مهرجان القراءة للجميع، وأعادت الهيئة طباعتها ضمن مجلدات الأعمال الكاملة للكاتب بعد وفاته في عام 2015.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.