الأفلام تلمس قلوبنا وتوقظ رؤيتنا، وتغير طريقة رؤيتنا للأشياء. إنها تأخذنا إلى أماكن أخرى، تفتح الأبواب والعقول. الأفلام هي ذكريات حياتنا، ونحن بحاجة إلى إبقائهم على قيد الحياة.
مارتن سكورسيزي – مخرج أمريكي.

بين الحين والآخر تبوح السينما بقدر بسيط من أسرارها المجهولة لتخبرنا كيف تكون عوالمها الساحرة ضرورة ملحة في حياتنا وجزءاً أصيلاً من تكويننا النفسي. الشريط الوثائقي «الحديث عن الأشجار» لمخرجه «صهيب قسم الباري»، الفائز بجائزتي الجمهور وأفضل فيلم وثائقي في قسم بانوراما بمهرجان برلين السينمائي العام الماضي (2019)، والحائز مؤخراً علي جائزة أفضل وثائقي في جوائز اختيارات النقاد العرب لهذا العام، هو عمل سينمائي مُشبَّع بروح الحرية يمنح تقديراً مستحقاً لأربعة من صناع السينما السودانية: إبراهيم شداد، ومنار الحلو، والطيب المهدي، وسليمان النور، الذين شكَّلوا جزءاً من تكوينها الثقافي خلال فترة السبعينيات والثمانينيات إلى أن تعثرت مسيرتهم المهنية وتفرقت بهم السبل بعد الانقلاب العسكري في 1989، والذي أنهى بدوره صناعة واعدة مزدهرة في ذلك التوقيت.

أشجار قسم الباري، على الرغم من كبر سنها إلا أن جذورها قاسية وصلبة، تجعلها تقف بشموخ في وجه التصحر الفكري، صامدة أمام رياح التغيير التي قضت على كل أشكال الحياة، متسلحين بالشغف في معركتهم من أجل إعادة السينما إلى السودان. فهل سينجحون في الوصول لمبتغاهم؟ أم ستكون المواجهة أشبه بمحاربة «دون كيخوت» لطواحين الهواء؟

المخرج «إبراهيم شداد» في لقطة من الفيلم.

إشكالية الفن والسلطة

داخل سيارة الميني فان العتيقة، يهيم أبطالنا الأربعة في شوارع أم درمان آملين أن تقودهم الأقدار لاستعادة أحلام الشباب المسلوبة، وإنجاز ما تبقى من مشاريع مؤجلة، بإعادة إحياء تجربة سينمائية جماعية لجمهور ربما لم يتذوق لذة ونشوة تلك التجربة الساحرة من قبل، أمة سلبها نظام غاشم القدرة على التخيل فوجدوا متنفسهم الوحيد في كرة القدم.

افتتاحية الفيلم جعلتنا ندرك أننا أمام تجربة غاية في الفرادة والخصوصية، اتخذ قسم الباري منها نهجاً تأملياً للسبر في أغوار تلك الرفقة، الذي صقلها اليأس بعدما انتهت مهنهم وصدأت مواهبهم وكُتمت أصواتهم. فبدلاً من أن يتوقف العمل عند حد إجراء مقابلات مع هؤلاء الأصدقاء بشكل مباشر، استطعنا أن نراقب بلطف وشاعرية وهدوء كيف لا تزال السينما هي المحرك والدافع لحياة تلك الجماعة ومن ورائهم حياة مجتمع، سلبه الجوع والفقر القدرة على الإبداع.

يلتقط الشريط الوثائقي أحداثه خلال العام 2015، في وقت كانت تقبض فيه سلطة ديكتاتورية -ذات أفكار أصولية- على مقاليد الأمور طيلة ربع قرن، لذلك واجه المشروع العديد من الصعوبات المالية والتقنية أثناء مراحل الإنتاج، كونه لا يمر عبر القنوات الرسمية للنظام، الذي نجح في قتل الخصوبة الإبداعية بدم بارد. فالسينما السودانية لم تمت بشكل طبيعي وإنما بصورة مفاجئة، وهذا الموت الفجائي غالباً ما ينم عن فعل خيانة.

هنا لا يفتش قسم الباري عن الخائن، فهويته صارت معلومة لدى الجميع، وإنما يعطي المساحة لفرسانه الأربعة من أجل تقديم التحية لأعمالهم وتجاربهم التصويرية، التي أنجزوها خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، مما يوضح الخسارة الفادحة التي لحقت بالصناعة، لأنها لم تشهد مزيداً من أعمال هؤلاء الرفاق المبدعين.

غوص جماعة الفيلم داخل شوارع هذه المدينة التي تدار بقبضة دينية حديدية أجَّج الكثير من جراح الماضي الغائرة، فخلال رحلة البحث عن صالة عرض نرى كيف تعرّضت صالات السينما هناك لموت متعمد، فباتت مقاعدها مهجورة وأصبحت جدرانها متهالكة وامتلأت شاشتها وأركانها بأكوام من الأتربة المكدسة تفوق قدرة الرجال الأربعة على تنظيفها.

إلحاح شداد ورفاقه للعثور على صالة سينما صيفية لإقامة عروضهم لم يكن نهاية للأزمة بل نجد أنفسنا أمام فصل آخر من المعاناة داخل دوائر البيروقراطية والرقابة الأمنية، والتي لا تكف عن دس أنفها في كل صغيرة وكبيرة.

سجن كبير أبرزه قسم الباري بلقطات جميلة وصادقة، تمجّد من قدرتهم على المثابرة، بفضل حبهم للسينما وروح الصداقة التي تربطهم برباط وثيق، فجاءت معظم مشاهد الفيلم في ظلام دامس، وتم تأطير أبطالنا خلف قضبان حديدية وأبواب مغلقة كاستعارة عن غربة المكان ووحشته.

المخرج «الطيب المهدي» في لقطة من الفيلم.

قصيدة سطرت بين طياتها صمتاً

أي زمن هذا
الذي يكاد يُعد فيه الحديث عن الأشجار جريمة
لأنه يتضمن الصمت على العديد من الفظائع؟

استمد قسم الباري عنوان الفيلم من قصيدة الشاعر والمسرحي الألماني برتولد بريخت «إلى الأجيال القادمة»، لخص خلالها مأساة جيله في واحدة من أحلك اللحظات التي مرت بها بلاده. فالاستعارة هنا من جانب المخرج تحمل بين طياتها اعتذراً مسبقاً وإشارة لجرائم كبرى اُرتكبت في حق الوطن.

إشارة قسم الباري هنا ترسِّخ لفكرة قمع النقاش في ظل الديكتاتورية، فتحويل الخطاب إلى موضوعات دنيوية رتيبة يلفت الانتباه بشكل مؤلم إلى ما لا يمكن البوح به بصوت عالٍ. ومع ذلك، يسير المخرج على درب بريخت، مُوجهاً حديثه للأجيال المقبلة بعدم التسرع والحكم على الأسلاف بالإخفاق أو الفشل، فمن الضروري أن تتذكر تلك الأجيال الزمن الحالك الذي فروا منه وعاش فيه أسفلاهم، يبدلون وطناً بآخر أكثر من قدرتهم على تبديل الأحذية.

هذا ما رصده قسم الباري خلال رحلة تتبع هؤلاء المخرجين الذين درسوا فن السينما في بلدان عدة آملين أن يستطيعوا تغيير أوطانهم للأفضل عند العودة إليها مرة أخرى، ولكن الصراع السياسي والحروب الأهلية شكَّلا مناخاً جافاً طارداً للأحلام وواقعاً تكسيه ظلمة حالكة.

ففي غفلة من الزمن، يتذكر أبطالنا كيف تسلل العجز والشيب إلى أجسادهم المثقلة فلم يتبقَّ في ذاكرتهم سوى ديموقراطيات فائتة وديكتاتوريات مستمرة. ومع ذلك، فلم يقوَ الهرم على النيل من عقولهم، فهم يعرفون جيداً كيف يداعبون أحلامهم المجهضة بروح شابة وشغف لا ينضب.

تلك التيمة الأثيرة غالباً ما نلمسها في أعمال قسم الباري، التي تورطنا دوماً في إطارها الإنساني المُفعم بالخصوصية والثراء. ففي شريطه الوثائقي القصير «أفلام السودان المنسية» إنتاج 2017، صوَّر الحالة الرثة التي بات عليها أرشيف الأفلام الوطني، لكنه في نفس الوقت يجعلنا ننخرط في رحلة الصديقين بنجامين وعوض، اللذين أفنيا عمريهما في الحفاظ على ذلك الأرشيف الذي يضم نحو 13 ألف فيلم، وهو أحد أضخم الأرشيفات السينمائية في أفريقيا.

ربما كانت قصة بنجامين، هي الأكثر عاطفة وشاعرية خلال أحداث الفيلم الذي لا تتجاوز مدته 25 دقيقة، فهو في الأساس مواطن جنوبي عاش في الشمال، وأفنى عمره في خدمة أرشيف السينما الوطني، لكنه صار غريباً في بلاده بعدما انفصل الجنوب في 2011، ورغم ذلك واصل عمله بإخلاص وتفانٍ شديدين.

إن بطل الظل هذا لا تختلف قضيته عن قضية شداد ورفاقه، فكلاهما لا يرى السينما مجرد فن ترفيهي بل ينظران إليها باعتبارها ذاكرة أمة كانت موحدة في يوم من الأيام، لذا تمرير هذا الإرث التاريخي للأجيال المقبلة هو بمثابة الحفاظ على الهوية الوطنية. فعندما لا يكون لديك تاريخ عن نفسك أو عن بلدك، يعني ذلك أنك لست شخصاً أو أن هذه ليست ببلد. فالأفلام ليست أشجاراً، لكن الأشجار لها أهمية رمزية للعرق والهوية.

«إبراهيم شداد» في لقطة من الحديث عن الأشجار.

صناعة الأحلام وصناعة الأفلام

إن رواية فيلم هي مثل رواية حلم!
ورواية حياة هي مثل رواية حلم أو فيلم!
رواية راوية الأفلام – إيرنان ريبيرا لتيلير.

في رواية «راوية الأفلام» ذكر «إيرنان ريبيرا» على لسان بطلته ماريا، أن روايتها للأفلام كانت تخرج الناس من ذلك العدم الفظ الذي تعنيه الصحراء، وتنقلهم، ولو لوقت قصير، إلى عوالم بديعة مليئة بالحب والأحلام والمغامرات. وبدلاً من أن يروا تلك العوالم معكوسة على شاشة سينما، كان بإمكان كل واحد منهم أن يتخيلها على هواه. [1]

إذا افترضنا أن الحياة مصنوعة من مادة الأحلام نفسها، فنحن نحاول الغوص في أعماقها كل ليلة سائحين من مكان لآخر بحثاً عن إجابات ربما لم نجدها في واقعنا اليومي. وإذا اعتبرنا أن السينما توفر لنا ذلك الملاذ الآمن في الواقع دون الحاجة إلى الغط في النوم، فيمكننا القول بأن الحياة يمكن لها أن تكون مصنوعة بالضبط من مادة الأفلام. فنحن في صالات السينما أشبه بالحالمين ولكن بأعين مفتوحة.

فكما نعلم أن فيلم «الحديث عن الأشجار» ينتمي نوعه للسينما الوثائقية، لكننا وبعد الانخراط في أحداثه نكاد ندرك الخيط الرفيع الموجود بين ما هو تسجيلي وروائي، فمعظم مشاهد الفيلم تم تمثيلها بالاتفاق بين قسم الباري والمخرجين الأربعة، تلاشت خلالها الحواجز الفاصلة بين ما هو متخيل وواقعي.

هذا الخلط المتعمد بين الواقع والمتخيل أسَّس له قسم الباري منذ المشهد الافتتاحي الذي أعادوا فيه تمثيل مشهد من فيلم «جادة بوليفارد» لبيلي وايلدر، لحظة ساحرة تمنحنا نظرة عن أهمية وجود السينما في حياة هؤلاء الرجال والإنسانية، فهي بالنسبة لهم متنفس الحياة الراكدة، بوابة صغيرة مفتوحة على أحلام وأدها الواقع فصار الهروب منه أمراً حتمياً إلى فضاءات أكثر رحابة.

لذلك وظَّف قسم الباري مواد أرشيفية من أفلام قديمة لمخرجيه الأربعة لتدور في فلك سياق الفيلم العام، بما في ذلك فيلمي شداد «حفلة صيد» و«جرذ»، و«المحطة» للطيب المهدي، و«أفريقيا: غابة، طبل وثورة» لسليمان النور، فالفن هنا يشكل مادة للواقع اليومي وأحلام الماضي هي نفسها تطلعات الحاضر وأمنيات المستقبل.

مقاومة ساخرة

أبطال قسم الباري كان لديهم القدرة على تحويل أحلك اللحظات إلى أوقات للضحك والمقاومة الساخرة، تجلت بقسوة خلال لحظات تتويج البشير بولايته الرئاسية الجديدة قبل خمس سنوات، لتتلاشى كلمات خطابه الرتيبة مع لقطات من فيلم «أفريقيا: غابة، طبل وثورة»، ويختتم الفيلم بمشهد لشداد وهو يعلن بصوت «مبحوح» صقله اليأس أنه لا سبيل سوى المقاومة.

ربما تكون أحلام هؤلاء الأبطال قد تحطمت فوق صخرة واقع أليم قبل خمس سنوات، ولكن بفضل المثابرة والإيمان بقيمة الأفعال ولدت سودان جديدة من رحم الاستبداد والظلم، فتبدلت الصورة المحزنة بأخرى لتصبح رمزا لقوة الصبر والصمود.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. إيرنان ريبيرا لتيلير، “راوية الأفلام”، مؤسسة قطر للنشر، الطبعة العربية، 2011، ص80.