يطلق البعض على قصيدة «لا تصالح»، للشاعر الراحل الشاعر أمل دنقل، قصيدة القرن، وهي قصيدة عبقرية شعريًا ونافذة البصيرة سياسيًا، كون الشاعر استشرف فيها قضية معاهدة السلام قبل حدوثها من خلال التوظيف البارع للشخصيات التاريخية في التراث العربي.

ربما يعطي هذا انطباعًا ما أن روعة القصيدة وحدها لا تكفي لتحوز لقب قصيدة القرن، بل تحتاج توفيقًا ما بحضور المستمع الواعي، بل وإقبال الظرف التاريخي المواتي، مصداقًا لوصف الشاعر الإنجليزي «ماثيو أرنولد» – إن صحت نسبة المقولة إليه- أن الشاعر عندما يقتنص اللحظة التاريخية يتضخم ليصبح جزءًا من اللحظة التاريخية ذاتها.

هذه المواتاة تكاد تحصر القصائد المتنافسة على لقب «قصيدة القرن» في تلك التي تتناول الشأن العام، والسياسي منه تحديدًا.

والسؤال هنا، ماذا إذا استطاعت عبقرية شاعر أن تمزج العام بالخاص، والعقل بالعاطفة، والمقدس الثابت بالبشري المتجدد، والتاريخ بالحاضر، وتستحضر التراث الإنساني والأدبي- تتبعًا واختلافًا- وذلك في قالب شعري فذ لغويًا، بل وطويل نسبيًا بما يشابه مطوّلات الأوائل نظمًا، مع الاحتفاظ برهافة الحس الرومانسي الحديث في آن واحد؟ ألا تستحق هذه العبقرية المغايرة أن تُدرَس على حدة؟ ألا يستحق نص كهذا أن ينافس على لقب قصيدة القرن؟

اعتاد البعض على وضع قصائد المديح النبوي في خانة مستقلة، ربما تقديسًا، وربما تأثرًا بالعقلية العلمانية المتوغلة في كل شأن حاليًا، وربما لأن شعراء المديح أنفسهم يُصدِّرون مدحهم كعمل ديني لا كعمل أدبي، إلا أن قصيدة «البردة» لتميم البرغوثي لا تعطيك هذا الانطباع، ورغم كون شخص رسول الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) محور القصيدة وهدفها الأسمى، فإن القصيدة لم تتخذ محورها كجذع شجرة تدور حوله أو ترتكن إليه، بل كشمس نيّرة تُضيء ما تحتها، فاستطاع أن يبني أسفلها أرضًا تتسع وتخضر، أو تعشوشب كما يُفضِّل الوصف.

ربما شاهد كثيرون إلقاء الشاعر تميم البرغوثي قصيدة البردة بأبياتها المائتين على جمهور لم يمل من التصفيق إعجابًا وإجلالًا للنص والشاعر على حد سواء. وذلك على مدار قرابة النصف ساعة، حيث جمع تميم إلى روعة النص إبداع الإلقاء، وربما دقّق بعضهم وعاود قراءة نص القصيدة الذي نشرته إحدى الجرائد، إلا أن هذا المقال بصدد سبر أغوارها على الصعيد الإنساني، وتفكيك أبعادها المغرقة في الأصالة.

البعد الإنساني الرقيق في بردة تميم

يتلمس تميم خطاه في مديح الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، حيث يغاير المعتاد في مدح خصاله ومعجزاته، إلى مدح المشترك الإنساني المطروق لدى كل من عانى ما عاناه الرسول– على فرادة معاناته وسمو منزلته على من سواه- في لطف ورهافة شديدين، حيث يرفض أن يمتدح السمات المتكررة، معتبرًا أنها جانب مفروغ منه وسطحي إذا قيس بعمق شخصيته الفريدة، يقول في البيت الحادي والثلاثين:

ولن أقول: قوي أو سخي يدٍ *** من يمدح البحر لا يذكر له الزبدا

إذن فبم سيمدحه الشاعر؟ وأي عمق بحري سيغوص فيه؟ يجيبنا تميم في تسعة أبيات تاليات (من الثالث والثلاثين إلى الثاني والأربعين) أنه سيمدحه بتعبه الإنساني وجهده الاستثنائي وفضل اختياراته ومشقة رؤيته عذاب المؤمنين به، وهو أمر لو تعلمون عظيم:

لكن بما بان في عينيه من تعب *** أراد إخفاءه عن قومه فبدا
وما بكفيه يوم الحر من عرق *** وفي خطاه إذا ما مال فاستندا
بمَا تَحَيَّرَ فِي أَمْرَيْنِ أُمَّتُهُ *** وَقْفٌ عَلَى أَيِّ أَمْرٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَا
بِمَا تَحَمَّلَ فِي دُنْياهُ مِنْ وَجَعٍ *** وَجُهْدِ كَفِّيْهِ فَلْيَحْمِدْهُ مَنْ حَمِدَا
بِمَا رَأَى مِنْ عَذَابِ المُؤْمِنِينَ بِهِ *** إِنْ قِيلَ سُبُّوهُ نَادَوْا وَاحِدَاً أَحَدَا

التماهي مع النبي في اندماج شعوري عطوف

المُطِّلع على هذه الأبيات السابقة وأخواتها لا يملك إلا أن يتماهى مع الذات النبوية الكريمة في تعاطف إنساني وحب شفيف لهذا النبي العظيم والإنسان النبيل. ثم إن الشاعر لا يترك القارئ وحده في مثل هذا الاتحاد، بل إنه يدفعه دفعًا بكم من الدفقات العاطفية التي تُبرِز التشابه بين الرسول والمظلومين الذين جاء لنصرتهم:

يَا مِثْلَنَا كُنْتَ مَطْرُودَاً وَمُغْتَرِبَاً *** يَا مِثْلَنَا كُنْتَ مَظْلُومَاً وَمُضْطَهَدَا
يَا مُرْجِعَ الصُّبْحِ كالمُهْرِ الحَرُونِ إلى *** مَكَانِهِ مِنْ زَمَانٍ لَيْلُهُ رَكَدَا

ولعله وصل بنا ذروة الاندماج الشعوري- حيث جعل مجرد اسم النبي الأعظم وطنًا يدع الغربة دعاً- في هذا البيت:

يا سيدي يا رسول الله يا سندي *** أقمت باسمك لي في غربتي بلداً

المفارقات العقلية وحسن استخدام اللغة

رغم كون القصيدة زاخرة بالمعاني الإيمانية، فإن الشاعر لا ينفك يُدهشنا بمفارقات عقلية كما في قوله:

وَالكُفْرُ أَشْجَعُ مَا تَأْتِيهِ مِنْ عَمَلٍ *** إِذَا رَأَيْتَ دِيَانَاتِ الوَرَى فَنَدَا
وَرُبَّ كُفْرٍ دَعَا قَوْمَاً إلى رَشَدٍ *** وَرُبَّ إِيمَانِ قَوْمٍ للضَّلالِ حَدَا

لكنك لا ترى في هذه المفارقات غضاضة، لا من الناحية الفكرية ولا من الناحية المنطقية، لأنها تأتي في سياق طبيعي متسق مع مقدماته التي تصف حالة النبي قبل النبوة، مُبيّنة طاقة الرفض الفطرية النظيفة التي هيأته للاصطفاء الإلهي:

وَرُحْتَ تَكْفُرُ بِالأصْنَامِ مُهْتَدِياً *** مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ الكِتَابَ هُدَى
كَرِهْتَهُ وَهْوَ دِينٌ لا بَدِيلَ لَهُ *** غَيْرَ التَّعَبُّد فِي الغِيرَانِ مُنْفَرِداً

وهذه الطاقة مدعومة بإرادة لم تخش اللوم حتى أظهر الله أمرها:

وَيَعْذِلُونَكَ فِي رَبِّ تُحَاوِلُهُ *** إِنَّ الضَّلالَةَ تَدْعُو نَفْسَهَا رَشَداً

وفي هذا من الشجاعة ما فيه، وهي الخصلة التي التفت لها تميم في مزيج من التماهي مع النبي ومدحه. وفي لمحة لغوية لطيفة، لفت النظر للتماس المعنوي واللفظي بين «الشجاعة» و«الشفاعة»، حيث يقول:

إِنِّي لأَرْجُو بِمَدْحِي أَنْ أَنَالَ غَدَاً *** مِنْهُ الشَّجَاعَةَ يَوْمَ الخَوْفِ وَالمَدَدَا
أَرْجُو الشَّجَاعَةَ مِنْ قَبْلِ الشَّفَاعَةِ إِذْ *** بِهَذِهِ اليَوْمَ أَرْجُو نَيْلَ تِلْكَ غَدَا

التتبع والاختلاف واستحضار التراث والدور التثقيفي

تتضمن «المعارضة» كـ«فن شعري» تتبعًا إجباريًا لمن يقوم الشاعر بمعارضته، والمعارضة– رغم ظاهر تسميتها الذي يوحي بالاعتراض- هي محاكاة لقصيدة سابقة في نظمها وربما موضوعها مع رغبة في الزيادة عليها طولًا، والأصل أن تتم المعارضة على نفس الوزن والقافية كما تم مع «البردة» الشهيرة للبوصيري، والمعروفة أيضاً بـ«البُرأة» أو «الكواكب الدرية في مدح خير البرية»، والتي لها قصة صوفية جميلة اشتهرت روايتها وذُكرت في غير موضع، والتي عارضها شوقي في «نهج البردة» ومن بعده شاعر معاصر هو «خالد الشيباني» في قصيدته «أنوار البردة».

فرغم أن الشاعر لم يُغيِّر اسم القصيدة واختار لها اسم البردة، كما لم يغير موضوعها وهو مدح الرسول الخاتم، فإنه اختلف اختلافًا جوهريًا في القافية خروجًا على «ميمية البوصيري» ومن عارضه من بعده. وهو– أي تميم- له رأي جميل رائق رقيق في شأن البردة منذ خلعها النبي على كعب بن زهير– رضي الله عنه- بعد أن ألقى قصيدته الشهيرة «بانت سعاد»، وقد عبر عنها في دقائق مكثفة وقول بليغ كأكثر– إن لم يكن كل- أقواله المسجلة، كما تطرق إلى قصة بردة البوصيري وكذلك تعليقه على بردة شوقي «نهج البردة» في تسجيلين آخرين ليضيف إلى دوره الشعري دورًا تثقيفيًا مشكورًا، يتكئ على عطائه الشعري ولا يتوقف عنده.

إذن لمَّ اختلف تميم اختلافًا جوهريًا في قافيته؟

يجيبنا بفلسفته في التتبع والاختلاف في أبيات جميلة للغاية:

تَتَبُّعَاً وَاخْتِلافَاً صُغْتُ قَافِيَتِي *** مَولايَ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمَاً أَبَداً
وَلَيْسَ مَعْذِرَةٌ فِي الاتِّبَاعِ سِوَى *** أَنِّي وَجَدْتُ مِنَ التَّحْنَانِ مَا وَجَدَا
وَلَيْسَ مَعْذِرَةٌ فِي الاْخْتِلافِ سِوَى *** أَنِّي أَرَدْتُ حَدِيثَاً يُثْبِتُ السَّنَدَا
وَخَشْيَةً أَنْ يَذُوبَ النَّهْرُ فِي نَهَرٍ *** وَأَنْ يَجُورَ زَمَانٌ قَلَّمَا قَصَدَا

فالشاعر لا يرضى أن ينسب شعره لغيره، لا سيما إن كان شعرًا يضيف له شرفًا عظيمًا كمدح النبي الأعظم.

مزج الماضي بالحاضر

لم يكتف الشاعر باستحضار التراث الشعري فقط، وإنما أقام قصيدته شاهدة على التاريخ المتكرر بمآسيه المستمرة منذ قدم. وهو بذلك يُحسِن اقتناص اللحظة التاريخية ويُدخِل ضمن أحداثها كشاهد عدل غير محايد، بل منحاز إلى حق قومه وأهله، ثم هو لا يرى أن الجرح مستجد ولكنه جرح واحد لم يندمل منذ ابتلينا به:

إِنَّ الزَّمَانَيْنِ رَغْمَ البُعْدِ بَيْنَهُمَا *** تَطَابَقَا فِي الرَّزَايَا لُحْمَةً وَسَدَى
والجُرْحُ في زَمَنِي مَا كانَ مُنْدَمِلاً *** حَتَّى أَقُولَ اسْتُجِدَّ الجُرْحُ أو فُصِدَا

الحبكة في السرد بدءًا وختامًا

استطاع تميم إتقان حبكة القصيدة، حيث بدأها كالأولين بغزل قدر على جعله بألفاظ تراثية، إلّا أن معانيها ميسورة جدًا للمعاصرين، وهي تشتبك مع التراث وربما تجاوزه:

يَا لائِمي هَلْ أَطَاعَ الصَّبُّ لائِمَهُ *** قَبْلِي فَأَقْبَلَ مِنْكَ اللَّوْمَ واللَّدَدَا
قُلْ للقُدَامَى عُيُونُ الظَّبْيِ تَأْسِرُهُمْ *** مَا زالَ يَفْعَلُ فِينا الظَّبْيُ ما عَهِدَا
لَمْ يَصْرَعِ الظَّبْيُ مِنْ حُسْنٍ بِهِ أَسَدَاً *** بَلْ جَاءَهُ حُسْنُهُ مِنْ صَرْعِهِ الأَسَدَا

ثم يحكم الختام على مائتي بيت بالتحديد، في لفتة طريفة حيث قال:

وَهَذِهِ بُرْدَةٌ أُخْرَى قَدِ اْخْتُتِمَتْ *** أَبْيَاتُها مِائتَانِ اْسْتُكْمِلَتْ عَدَدَاً
يَا رَبِّ وَاْجْعَلْ مِنَ الخَتْمِ البِدَايَةَ *** وَانْــصُرْنَا وَهَيِّءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا

وربما يرى البعض أن البيت الأخير مجلوب في تكلف ما لتتمة المائتين، إلا أنني أرى فيه إضافة يوضح فيها الشاعر مذهبه- المتفائل والواقعي في آن- بأن دور الشعر لا يكون إلا بداية لما بعده، وأن الكلام وإن كان مُقدرًا أو مُقدسًا فإنه يؤتي ثمرته بما يتلوه من وعي وأفعال.

إشكاليات في القصيدة

لا يسلم نص بشري من مثالب، ولست أتتبع هنا القصيدة بعين النقد لأن المقال –كما هو واضح- مقال من قارئ معجب لا ناقد أدبي يرصد، إلا أن القارئ لا يستطيع تجاهل وجهة النظر التي أُثيرت في نقد البوصيري نفسه من قبل، على اعتبار أن بعض الأبيات فيها مبالغة في مدح النبي أو الاستغاثة به، إلا أن تميم لم يُكثِر من المبالغات وكان واضحًا في رد الاستغاثة إلى الله تعالى:

أَدْرِكْ بَنِيكَ فَإِنَّا لا مُجِيرَ لَنَا *** إلا بِجَاهِكَ نَدْعُو القَادِرَ الصَّمَدَا

وملاحظة أخرى، هي وصفه للأعداء في بدر الكبرى بــ «بني أمية»:

يُدِيرُ فِي بَدْرٍ الكُبْرَى الحُسَامَ عَلَى *** بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى مُزِّقُوا قِدَداً

وهو الوصف الذي قد يغاير السلك الطبيعي للفكر الإسلامي السني المؤمن أن الأعداء لا يُصنَّفون قبليًا، بل يُصنَّفون تبعًا لموقفهم من نصرة النبي أو عدائه، وعليه فأعداء بدر الكبرى هم المعتدون أو طاردوا النبي ومعذبو أصحابه أيًا كانت قبيلتهم.

وختامًا، فلله الكمال، وأيًا ما كان فإن القصيدة بتوابعها التثقيفية وتلقي الجمهور لها بالاستحسان، ومن قبل ومن بعد بمقوماتها المذكورة، تستحق الاحتفاء وتستحق– في رأيي- أن تدخل المنافسة على لقب قصيدة القرن عن جدارة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.