مرة أخرى يظهر صاروخ الكورنيت داخل غزة في أيدي حركة المقاومة الإسلامية حماس. الصاروخ الموجَّه المضاد للدروع، والذي صار يُعرف اختصارًا ودون ملحقات كلامية بالكورنيت، قادر على إحداث إصابات مباشرة بسبب دقته، والتسبب في دمار الآلية بالكامل بسبب كمية المتفجرات الكبيرة التي يحتويها. خصوصًا أنه يحتوي رأسين متفجرين، الأول يحدث ثقبًا في جسد الآلية، والثاني يتكفل بالفتك بها.

الكورنيت روسي الأصل، لجأ إليه العقل الروسي ليختصر العديد من الصواريخ الروسية القديمة. ولينجز صاروخًا واحدًا قادرًا على التعامل مع دبابات حلف شمال الأطلسي، الناتو، مثل إبرامز وليوبارد ولوكلير. وحتى التعامل مع الأهداف الطائرة البطيئة مثل طائرة هليكوبتر. وفي النسخ الحديثة بات قادرًا على التعامل مع العديد من الأهداف الجوية مثل الطائرات المسيرة، وطائرات الاستطلاع.

وأثبتت المقاومة، حزب الله من جهة والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، أن بإمكانه اختراق الميركافا أيضًا. هذا التعامل يكون من بعد 8 كيلومترات. ويستطيع الصاروخ أن يسافر لمدى يتراوح بين 150 مترًا فقط و10 كيلومترات كاملة. ويستطيع اختراق جسد أي مدرعة حتى لو ترواح سُمك جسدها بين 110 و130 سنتيمترًا.

الصاروخ توجهه أشعة الليزر. ويعمل بشكل نصف أتوماتيكي، بمعنى أن الرامي هو من يُطلق الصاروخ نحو الهدف، وفي نفس الأثناء يكون الرامي قد وضع علامة الإصابة على الهدف المحدد المطلوب من الصاروخ الفتك به. ثم يُطلق الرامي الصاروخ، هناك مرونة لدى الكورنيت في آلية الإطلاق. إما أن يُطلق من منصة ثابتة على الأرض، أو من فوق كتف الشخص مباشرة، ولا يُحدث ضررًا في جسد من يحمله.

الكورنيت الوفي: ارمِ وانسَ

لا يحب الكورنيت أن يخذل راميه، لهذا فالصاروخ دائمًا ما يصل إلى هدفه المُحدد. حتى لو قام بالالتفاف حول جسم ما يعترض طريقه، أو حتى  الالتفاف في حلقات دائرية متكررة أثناء تحليقه من باب المناورة. لكن المهم أنه في النهاية دائمًا ما يُجهز على الهدف. فالصاروخ يعمل بمبدأ ارمِ وانسَ، أي إن مُطلقه لا يشغل باله بمتابعة الصاروخ بعد إطلاقه أو إعادة توجيهه لتحسين فرصته في إصابة الهدف، فالصاروخ سيصيب الهدف وحده.

لهذا طوَّرت روسيا نوعًا يحمل رأسًا مزدوجًا، يمكن للرامي أن يوجه كل رأس لإصابة هدف مختلف، ومبتعدين عن بعضهما تمامًا.

يمكن القول إن صاروخًا بهذه الدقة يستطيع أن يقلب معادلة المعارك تمامًا. وهو ما يحدث في معارك إسرائيل مع المقاومة في قطاع غزة. فمثلًا تحرص إسرائيل دائمًا أن تظل آلياتها العسكرية على الحدود البعيدة لغلاف غزة، دون التوغل لداخل القطاع أو حتى في حدوده القريبة، لأنها تدرك أن المقاومة تمتلك الكورنيت وتستطيع إحداث أضرار كبيرة في آلياتها.

كان الأمر مفاجأة للاحتلال، أي وصول الكورنيت ليد المقاومة. كان أقصى ما احتفلت به المقاومة عام 2001 أنها استطاعت إصابة آلية إسرائيلية بقذيفة آر بي جي. وكان ذلك تطورًا هائلًا بسبب سيطرة إسرائيل على القطاع، لكن حين انسحبت منه مهزومةً عام 2005، تنفست المقاومة الصعداء وبدأت في تطوير قدراتها.

فحصلت على قطع قليلة من الكورنيت الروسي. وأتت فترة ثورات الربيع العربي، وارتفاع التعاطف الدولي والرسمي مع المقاومة فسهَّلت وصول المزيد من القطع من تلك الصواريخ من إيران مرورًا بليبيا ثم سيناء المصرية. وفوجئت بها إسرائيل في حروب عام 2008 ثم 2012 ثم 2014، وفي عام 2021 كذلك.

فشل «إسرائيل» في الردع

لذلك صار الصاروخ بمثابة سلاح ردع فعَّال يمنع إسرائيل من اجتياح غزة بريًّا، مخافة تساقط المزيد من القتلى. خصوصًا أن القبة الحديدية التي تحتمي إسرائيل خلفها من صواريخ المقاومة لا تستطيع التصدي لهذا النوع بأي حال. كما أن التفكير في وجود أحد المقاومين يتربص بالأرتال العسكرية الإسرائيلية في نقطة ما في غلاف غزة يؤدي إلى اضطراب في حركة الدوريات العسكرية الإسرائيلية، وعدم الانتظام في سياق معين، والحركة السريعة التي قد تحول دون تحقيق أهداف الدورية.

وجود السلاح يستدعي وجود آلية الردع. لهذا كرست الصناعات الدفاعية الإسرائيلية جهدها على مدى سنوات لابتكار طرق تحمي آلياتهم من الكورنيت. كان الابتكار الأول عام 2011 بإنشاء المنظومة الدفاعية معطف الريح. عبارة عن منظومة يتم تزويد الدبابات بها تستطيع اعتراض أي صورايخ مضادة للدبابات قبل أن تصل إلى هدفها. لكن لم تفلح بشكل فعال ضد الكورنيت الذي يستطيع المناورة، والوصول للدبابة من حيث لا تراه.

فلجأت إسرائيل إلى تدعيم جيشها بمئات من مدرعات تحمل اسم المدرعة النمر. معروفة بأنها من أكثر المدرعات من حيث المتانة والتحمُّل. لكن أيضًا لم يشكل هذا عائقًا يُذكر أمام الكورنيت. فعادت إسرائيل لأشد الحلول بدائية وبداهة. إنشاء جدار خرساني طويل، 600 متر، ومرتفع بارتفاع مترين، على حدود غزة المكشوفة. لكن لم تكسب إسرائيل بذلك، إلا أنها سجلت فشلًا جديدًا في حماية آلياتها وجنودها.

لأنه في حربها على غزة عام 2021 أعلنت سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، استهدافها جيب عسكريًّا إسرائيليًّا بكورنيت. ثم بعد أيام أعلنت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحماس، استهداف المدرعة المتطورة ديفندر بصاروخ كورنيت. فاكتشفت إسرائيل أن الكورنيت مع جميع فصائل المقاومة، وأنها أيضًا لا زالت تحت رحمته بعد كل ما بذلت من ملايين لحماية نفسها منه.

تأثير متجاوز للميدان

الملاحظ في حروب غزة وإسرائيل أن استخدام الكورنيت يعتبر نادرًا، أو محسوبًا بمعنى أدق. على العكس من الصواريخ التي لا تتردد المقاومة في إطلاقها على هيئة رشقات بالعشرات، أو المئات أحيانًا. فكون الكورنيت لا يخطئ إصاباته، ويكبِّد إسرائيل آلياتٍ وجنودًا، فإن المقاومة تستخدمه بحسابات دقيقة لحفظ موازنة الردع أمام إسرائيل. وتستخدمه كذلك في اللحظات الحاسمة التي يكون الاحتلال فيها قد ارتكب مجازر كبرى، أو غرَّته قدرته باحتمالية الاجتياح البري للقطاع.

الهجوم علينا بالكورنيت خطير وقاسٍ، إن مجرد استخدام كورنيت يعنى أن مستوى الردع الإسرائيلى فقد آثاره تمامًا.
رون بن يشاي، خبير عسكري إسرائيلي

فترسل المقاومة بذلك رسائل واضحة، أنه لا زال بحوزتها العشرات من الكورنيت. وأن التوغل أكثر يعني استخدامها أكثر وخسائر أعظم للاحتلال في الأرواح والعتاد. كما أن النمط الملاحظ في توقيت استخدام المقاومة له أنها تلجأ إليه حين تتحول المعركة لمعركة إثبات من صاحب النصر الأخير، أو من هو صاحب اليد العليا في المعركة، إسرائيل التي تتمنَّع برغبتها وبحساباتها وانتظارها الوقت المناسب عن اجتياح القطاع، أو المقاومة التي تقول إنه لا وقت مناسبًا أمام إسرائيل لاجتياح القطاع، فمتى اقتربت فسوف تُحرق بالكورنيت.

في هذا السياق يمكن فهم لماذا تحرص المقاومة دائمًا على التقاط فيديو يصور العملية برمتها، منذ لحظة الإطلاق حتى لحظة إصابة الهدف. ويؤدي نشر تلك المقاطع إلى التأثير في الوعي الإسرائيلي، وفي إيقاع ضغط شعبي على الحكومة الإسرائيلية.

لهذا يمثل الكورنيت درة تاج أسلحة المقاومة حتى الآن، لأنه يصيب الهدف العسكري المطلوب منه بدقة، والأهم أنه يحدث أثرًا معنويًّا كبيرًا في نفوس الساسة الإسرائيليين، وفي نفس المستوطن الإسرائيلي كذلك. فتنتصر المقاومة به في المعركة الفعلية، وفي المعركة الإعلامية.