شهد العصر الأموي تغيرات عدة طرأت على المجتمع الإسلامي، امتدت تأثيراتها إلى عالم الجواري، إذ خضعن لمعطيات جديدة أفرزتها علاقة العرب بالحضارات المختلفة، وتمثلت أبرزها في ما يعرف بـ«تقيين الجواري»، أي تعليمهن الغناء وصنوف الأدب.

و«القيان» في اللغة يعني الإصلاح والتزيّن، و«القين» يُصلح الأشياء، ويلمّها ويجمعها، ويقال للمرأة «المقينة»، وهي التي تتزين. وألصقت الكلمة في العصرين الأموي والعباسي بالجارية التي تعد نفسها للغناء، ويشار لمن ربّاها وأدبّها بـ«المقين».

 باب كسب واسع

يذكر جرجي زيدان في الجزء الثاني من كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي»، أن تعليم الجواري وتربيتهن كان من أبواب الكسب الواسعة في العصرين الأموي والعباسي، فيذهب النخاس إلى سوق الرقيق ليبتاع جارية يتوسم فيها الذكاء، فيثقفها ويرويها الأشعار، أو يلقنها الغناء، أو يُحفظّها القرآن، أو يعلمها الأدب أو النحو أو العروض، أو فنًا من فنون المنازل، ثم يبيعها بسعرٍ غال.

وفعل ذلك على وجه الخصوص المغنون المشهورون بدقة الصناعة، كإبراهيم الموصلي وابنه اسحق، فربما ابتاع أحدهم الجارية بمائة دينار، فإذا علمها وثقّفها باعها بخمسمائة أو ألف دينار. وأشهر المغنيات في المدينة المنورة والبصرة وبغداد تعلمن على هذه الصورة.

وقد يربي بعضهم الجارية ويهديها إلى الخليفة، أو الوزير لتكون وسيلة له في نفوذ الكلمة عنده. وربما تنبغ إحداهن في فن من الفنون الجميلة كالغناء أو الشعر أو الأدب، فتُبتاع بألوف الدنانير، وإذا أتقنت فنونًا أخرى بيعت بسعر أعلى.

وربما نبغت منهن في الشعر والغناء أو فنون الأدب والأخبار، فيقصدها أهل الأدب وذوو المروءة للمذاكرة والمساجلة في الشعر وغيره، وقد ينبغن في حفظ القرآن، حتى كان من الجواري الحافظات للقرآن عند أم جعفر مائة جارية، كل واحدة تقرأ وِرد عُشر القرآن في اليوم، وكان يُسمع في قصرها كدوي النحل من كثرة القراءة، بحسب «زيدان».

أول بيت تقيين في مكة

مثلّت بيوت القيان إحدى ثمار فتوحات العرب وصلاتهم بالحضارات القديمة، ويذكر الدكتور عبد السلام الترمانيني في كتابه «الرّق.. ماضيه وحاضره»، أن حياة العرب في العصر الأموي تحولت إلى طور جديد، فأخذوا ينعمون برخاء كان ممتنعًا عليهم في عهد الخلفاء الراشدين.

تجلى ذلك في ظهور أول طبقة من المغنين في مكة والمدينة بعد الإسلام، إذا ألّفوا من ألحان الفرس والروم ألحانًا جديدة، وكان في طليعتهم سعيد بن مسجح الذي يعد أول مكي أدخل غناء الفرس إلى العربية، وكذلك أبو المهنا مخارق بن يحيى، وأبو يحيى بن عبيدالله بن سريج، ومعبد بن وهب، وأبو يزيد عبد الملك الفريض، وأبو عبدالمنعم عيسى بن عبدالله المعروف بـ«طويس»، وقد أخذ هؤلاء في تعليم الجواري الغناء والضرب على الأوتار، وكانوا يصوغون لهن الألحان من الشعر العذب كان يتغنى به شعراء الغزل في معشوقاتهم. وفي مكة والمدينة نشأت أول مدرسة لتعليم الجواري وتقيينهن.

وكانت هذه المدرسة مقدمة لانتشار دور التقيين في العصر العباسي في بغداد والبصرة والكوفة، إذ تولى كبار النخاسين تقيين الجواري، ومن أشهرهم في مكة ابن شماس، وفي المدينة ابن رمانة ويزيد حوراء، وفي بغداد الناطفي ومحمود الوراق وسنبس والمراكبي، وفي الكوفة ابن رامين وابن الأصبغ.

وبحسب «الترمانيني»، كان إبراهيم الموصلي أول من علم الجواري الحسان وبلغ بهن كل مبلغ ورفع من أقدارهن، إذ كان التقيين من قبله مقصورًا على الجواري الصفر (الآسياويات) والسود.

وكانت أثمان هؤلاء الجواري والقيان عالية تبلغ آلاف الدراهم، وقد جنى المقينون أرباحًا طائلة وعاشوا في نعيم وترف، وكان الكبراء والأثرياء يطلبون ودهم ويلتمسون رضاهم، ويقصدون منازلهم لشراء القيان المبدعات، واللائي لم يكن يُبعن في أسواق الرقيق.

ووصف الجاحظ في الجزء الثاني من رسائله مكانة المقين بين الناس، فقال «ومن فضائل مالك القيان، أن الناس يقصدونه في رَحله بالرغبة كما يُقصد الخلفاء والعظماء، فيُزار ولا يُكلف بالزيارة، ويُوصل ولا يُحمل على الصلة، ويُهدى له ولا تُقتضى منه الهدية، وتبات العيون الساهرة والعيون ساجمة والقلوب واجفة والأكباد متصدعة والأماني واقفة على ما يحويه ملكه وتضمه يده».

الفحص قبل الشراء

عُمر الجارية كان مهمًا في «التقيين»، وبحسب الدكتورة سولاف فيض الله حسن في كتابها «دور الجواري والقهرمانات في دار الخلافة العباسية (132 – 656 هـ/ 749- 1258»، إذا كانت الجارية التي سبُيت قد بلغت حدًا كبيرًا من السن، فلا مجال إلى تعليمها وتخريجها في الفنون والآداب، أو تهذيبها بآداب المجتمع، ومن ثم يكون حظها – عادة – في الرعاية قليل، وشأنها في المنزل هينًا، أو تكون قيمتها موقوفة على ما فيها من الفتنة وحالتها الصحية، فإما أن تحظى لدى سيدها، وإما أن تحول للخدمة في أعمال المنزل، وهي حينئذ لا تحظى بميزة.

أما الجارية صغيرة السن، فهي قادرة على التكيف والتعلم، ومثل هؤلاء الجواري ينشأن نشأة عربية خالصة، ويُخلقّن بعادات العربيات، بحيث تلين ألسنتهن في الكلام حتى تكاد تزول عنها آثار الأصول التي تحدرت منها، مثل «بختيار» جارية الخليفة العباسي أبي عبدالله محمد المهدي (774- 785) ذات الأصول الفارسية والتي أصبحت تتكلم اللغة العربية، وتتصرف بالطبائع والعادات العربية، وكذلك «مراجل» إحدى زيجات الخليفة هارون الرشيد (786- 808)، وهي رومية، وأصبحت تلقي الأشعار، وتغني بالعربية.

وبحسب «فيض الله»، كان الخلفاء يفضلون اقتناء كثيرًا من هؤلاء الجواري اللاتي يحظين بثقافة عالية ويُجدن الغناء، حتى أن الرشيد كان يرسل نديمه خلف الأصمعي (ت 828)، ليفحص الجواري المعروضات عليه قبل شرائهن، لتقدير علمهن ومعرفتهن من العلوم، وزاد في عهده– أي الرشيد- أعداد الحريم في البلاط العباسي بما كان يضم من الجواري الحاذقات، وكان يستبدل بهن الجواري اللاتي تقدم بهن العمر.

الانشغال عن الحكم بالمقينات

ولأن كثيرًا من هؤلاء الجواري كن نافذات الكلمة في بلاط الحكم، بما يملكنه من جمال وثقافة وموهبة في الغناء، فإن أرباب الدهاء من الخلفاء والأمراء كانوا يتباعدون عنهن، فإذا أُهدي إلى أحدهم جارية لم يلتفت إليها، لا سيما القادة المؤسسون للدول؛ كمعاوية بن سفيان (661 – 680) مؤسس الدولة الأموية الكبرى، وعبدالرحمن الداخل مؤسس دولة بني أمية بالأندلس، والذي كان إذا أهداه أحد جارية ردها، حسبما ذكر جرجي زيدان.

وعكس ذلك، كان خلفاء أواسط الدولة إبان الترف والرخاء يتمادون في حب الجواري حتى يتسلطن على عقولهم، كما فعلت المغنية «حبابة» بيزيد بن عبدالملك الأموي (720- 724) حتى كادت تذهب بعقله وشغلته عن مهام الخلافة.

ونظرًا لانشغال كثير من الحكام ورجال الدولة بالمغنيات على أمور الحكم، كان رجال الحيلة يستخدمونهن للجاسوسية أو نيل رتبة أو منصب، فكان الخليفة العباسي المأمون يدس الوصائف هدية لغيره من كبار رجال الدولة والحكام، ليطلعنه على أخبار من شاء.

نفوذ وحظوة

على كلٍ، حظيت مغنيات كثيرات بنفوذ وحظوة لدى الخلفاء، منهن الجارية «بختيار»، وكانت فارسية الأصل، ومن محظيات الخليفة العباسي أبي عبدالله محمد المهدي ومن ذوات الحظ الوافر والعالي لديه، بحسب «فيض الله».

وكانت الجارية «شكل» فارسية أيضًا، وتعلق بها المهدي وأنجب منها «إبراهيم»، والذي ورث عن أمه حب الغناء والبراعة فيه، وكان شاعرًا وعالمًا في الوقت نفسه، وحاول البغداديون فيما بعد أن ينصبوه خليفة بعد مقتل الخليفة الأمين دون جدوى.

الأمر كذلك لـ«بصبص»، والتي اشتراها المهدي سرًا بسبعة عشر ألف دينار، وهو مبلغ عالٍ لجارية مثقفة، ووُصفت بأنها كانت حسنة الغناء، وخفيفة الظل، وكانت تُنسب إلى صاحب القيان يحيى بن نفيس، وقيل نفيس بن محمد، ولكن الأول هو الأصح، وكان يقصده الأشراف لسماع غناء جواريه.

أما «ذات الخال»، فكانت من أصول فارسية أيضًا، وتعلمت الغناء على يد إبراهيم الموصلي، وكانت توصف بأنها من أجمل النساء وأكملهن، وبلغ خبرها الخليفة أبي جعفر هارون الرشيد (786- 808)، فاشتراها بسبعين ألف درهم، وحصلت على حظوة خاصة لديه، حتى أنه كان يهديها هدايا ثمينة، ويلبي طلباتها، مثل استجابته لطلبها بتعيين حموية الوصيف في بلاد فارس على الحرب والخراج لسبع سنين، بل وكتب عهدًا بذلك وشرط على ولي العهد محمد الأمين بعده أن يتمها له، إن لم يتم حموية السبع سنوات في حياته.

واشترى الرشيد أيضًا الجارية «مراجل» في بلاد فارس، وتميزت في الغناء، ثم أصبحت زوجته، وأم ابنه الخليفة السابع عبدالله المأمون، وكانت حياتها قصيرة، إذ ماتت في نفاسها بالمأمون سنة 786.

أما «دنانير» فكانت مولاة يحيى بن خالد البرمكي، ويذكر أن الرشيد أمرها أن تغني له بعد القضاء على البرامكة، لكنها أبت ألا تغني لغير سيدها بعد مماته، فغضب الخليفة، لكنه رق لها وأمر بعتقها، بحسب «فيض الله».

وحظيت الجارية «بذل» بمكانة خاصة لدى الخليفة أبي عبدالله محمد الأمين (808- 813)، ويقال إنها كانت تجيد الغناء بثلاثين صوتًا تعلمتها على يد معلمها في ذلك الوقت إبراهيم الموصلي.

وتدعي بعض الروايات أن «عريب» (767- 890) ابنة الوزير المخلوع جعفر البرمكي، وأنها سُرقت وهي صغيرة لتباع في بغداد بسوق الجواري، فاشتراها الأمين بسبعة عشر ألف دينار، وكانت تجيد الطرب والضرب على العود، وإتقان لعب الشطرنج.

لكن أغلب الظن أن نسبها إلى جعفر البرمكي لا يبدو صحيحًا، ومحاولة من ممتلكها لترغيب الخلفاء لبضاعتها، لأن المدة بين سقوط البرامكة وخلافة الأمين ليست بعيدة، ولو كانت ابنة البرامكة لما غابت عن أعين ممثلي الخلافة، حسبما تذكر «فيض الله».

وانتقلت عريب بعد مقتل الخليفة الأمين إلى أخيه أبي العباس المأمون (813- 833)، وسمت نفسها «عريب المأمونية»، وكانت تتوسط لديه في الأمور المهمة، منها مثلًا أن الشاعر إبراهيم بن المدبر لما سُجن التجأ لها، لتسعى له عند المأمون في إخراجه، فوعدها الخليفة بما تحب ثم أطلقه.