تهيَّبتُ كثيراً من الحديث عن المعالم الإيمانية للمستشار طارق البشري – طيب الله ثراه – وَظَلْتُ أرجئ هذا الموضوع لعلي أعثر على سبب وجيه يصرفني عنه خشية أن أخطئ في حق صاحبه إذا ما ذكرت جوانب من معالم إيمانه بالله سبحانه وتعالى؛ والأصل أن هذا الموضوع بينه وبين الله تعالى وهو علام الغيوب. ولكن لم أجد بداً من الإتيان على شيء من «ظاهر» تلك المعالم، أما باطنها فهي من خصوصيات ذات النفس، وأبعد عن مدارك الخلق، وعلمها عند الله تعالى. وسأوجز ذلك في ملاحظات مجملة، وهي:

الحج إلى بيت الله الحرام

 أولُ هذه المعالم الظاهرة هو قيامه بأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام. وقد كان حجه أول مرة في سنة 1403هـ/1983م، ثم حج مرة ثانية في سنة 1410هـ/1990م، وثالثة في سنة 1417هـ/1997م. وأدى العمرة أيضاً ، وزار قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصلى في مسجده بالمدينة المنورة. وعندما انتهت ولايته القضائية بمجلس الدولة أدى العمرة مرة أخرى، وبمناسبتها قال:

شعرت مع انتهاء عملي بمجلس الدولة وإحالتي للتقاعد أنني بحاجة إلى أداء عمرة تعبيراً عن «الحمد لله». وحكى لي أنه بعد أن أدى مناسك العمرة – وكان بفرده – خرج من باب الملك عبد العزيز بعد منتصف الليل، ووقف في الشارع ونفسُه تحدثه: كيف أعود إلى الفندق ولا توجد سيارات في هذا الوقت؟ وبينما هو كذلك، جاءت سيارة أجرة يقودها شاب قصير القامة جداً «قزم» من ذوي الاحتياجات الخاصة، وأشار إليه فركب معه وقام بتوصيله… ثم قال: تلقنتُ درساً من هذا الموقف يا إبراهيم في حسن التوكل على الله بمجيء هذا الشاب الذي أوصلني وهو بهذا الوصف، وأنا أنقش على صفحة القلب كلمات «سبحان الله. الحمد لله».

وعن رحلة حجه لأول مرة قال:

كانت قمة استعادتي لهويتي الإسلامية هي رحلة الحج التي قمت بها في سنة 1403هـ/1983م. لم أسافر للحج إلا بعدَ أن وجدتُ نفسي قد خلصتُ لهذا الأمر، وحتى أعدت بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي، وقد أخذ هذا وقتاً كبيراً حتى أسافر وأنا نظيف … وأنا هناك شعرت كأنني خرجت من جاذبية كوكب إلى جاذبية كوكب آخر، وحينما رأيت الكعبة سألت نفسي: من أتى بي إلى هنا؟ وشعرت بهداية الله، وتذكرت قوله تعالى: «… ثم تاب عليهم ليتوبوا …» (التوبة: من الآية 118).

وهذه المعاني التي يشير إليها واضحة بما فيه الكفاية، وكلامه فيها جدير بأن يُحكى كما هو، وهذا ما فعلته.

إنشاء وقف خيري فريد

ثاني المعالم الإيمانية الظاهرة عند المستشار البشري هو أنه أنشأ وقفاً خيرياً. وقد عثرتُ على وثيقة هذا الوقف عندما كنتُ أجهز – مع عدد من الأصدقاء – لندوة تكريمه بمناسبة انتهاء ولايته القضائية في ربيع الأول 1419هـ/يونيو 1998م. في ذلك الوقت اكتشفتُ نصاً فريداً في أحد كتبه، وبكثرة تأملي فيه تبين لي أنه يتماثل مع جوهر نصوص «حجج الأوقاف» في تراث أمتنا الإسلامية. وأيامها كنت قد انتهيت للتو من رسالتي للدكتوراه بقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، وكان موضوعها: «الأوقاف والسياسة: دراسة للعلاقة بين المجتمع والدولة في مصر الحديثة»، وكان – طيب الله ثراه – هو من شجعني على اختيار هذا الموضوع، وزودني بكل ما احتجت إليه من الإرشادات والنصائح العلمية والمراجع المعتبرة، وكان أيضاً عضواً في لجنة مناقشتي والحكم على رسالتي.

أما الكتاب الذي عثرت فيه على ما اعتبرته وثيقة وقفه فهو كتابه: «الديمقراطية ونظام 23 يوليو 1952-1970». قال في مقدمته:

رجوت الله سبحانه وأرجوه أبداً، أن أكون لا على ملك أحدٍ من الناس، وأن أكونَ على حكم ملْكِه تعالى، ورجوتُه، وأرجوه تعالى؛ أن يُبقي على مِلكي التام تلك المسافة الصغيرة التي لا تجاوز حجم الحصاة، والتي تقع بين سِنِّ القلم وسطحِ الورق، وأن يبقيها لي حرمَاً آمناً، لا تنفتحُ لغير النظرِ والفهم، ولا تنفتحُ لدَخَلٍ أو غصبٍ أو غواية، وفي النهاية يردُ الصوابُ والخطأ، صوابُ مجتهدٍ، وخطأُ مجتهدٍ، واللهم هذا قسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني على قسْمي فيما لا أملك؛ مما زاغ عنه البصر، أو غفل عنه الخاطر، أو ند عنه الفكر، أو قصر عنه الفهم.
طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو ، (طبعة دار الهلال، 1991. ص 7 و8)، والكتاب نفسه طبعته دار الشروق مرة أخرى في سنة 2013م.

عندما عثرت على هذا النص اعتبرتُه «حجة وقف خيري». وبطول التأمل فيه تبين لي أنه ليس كغيره من الأوقاف الخيرية التي حفل بها تاريخ أمتنا الإسلامية. فالوقف في الحالات العادية هو عبارة عن: واقف؛ يكون شخصاً أو أكثر، وشيء موقوف؛ يكون مالاً أو ما في حكمه، وموقوف عليه، يكون شخصاً أو أكثر أو جهة أو أكثر من جهات البر، وصيغة للوقف، تتضمن بياناته وأوصافه ومصارفه وشروطه.

أما في حالة «وقف طارق البشري»، فالواقف هنا يكاد يكون هو الموقوف، ويكاد يكون هو الموقوف عليه أيضاً وفي ذات الآن. الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، شخص واحد هو: طارق البشري. ولندقق مرة أخرى في قوله: «رجوت الله وأرجوه أبداً أن يبقي على ملكي التام تلك المسافة الصغيرة التي تقع بين سن القلم وسطح الورق … إلخ». وظاهر النص يشير إلى أن المقصود هو أن يظلَّ قلمه حراً، وأن لا يسخره إلا لبيان ما يعتقده صواباً، دون محاباة لأحد أو مضادة لأحد. ووجه منفعته من ذلك هو: راحة ضميره، وتحقيق السلام الداخلي بينه وبين نفسه، وهو ما أشار إليه بقوله: «ولا تنفتح – تلك المسافة – لدخل أو غصب أو غواية»؛ ولا يدمر السلام النفسي إلا أخلاط الدخل والغصب والغواية.

ولكن، هل اقتصرت ثمرة هذا الوقف على طارق البشري وحده؟ بالطبع لا؛ لأن كونها «ثمرة معرفية ومعنوية» يعني أن أثرها لا يمكن أن ينحصر له وحده، وإنما يمتد إلى «مستحقين» آخرين، وهم عموم قرائه وطلاب المعرفة الذين انتفعوا – وينتفعون – بالريع العلمي والثقافي الذي ينتجه هذا «الموقوف» الذي هو: قلم طارق البشري وعلمه وحصيلة اجتهاده، وثمرة تجرده. وهذه نفحة صوفية لا يدركها إلا أصحابها، وكأني به عندما كتبَ هذا النص الوقفي الفريد كان يردد قول مولانا جلال الدين الرومي: «أنا القيثارةُ، وأنا النغمُ».

وأقولُ هنا أيضاً: إذا كان «الوقف» في أصله الشرعي يجمع بين كونه «عبادة» لأنه قربة إلى الله تعالى، وكونه «معاملة» لأنه تصرف يدخل في باب المعاملات؛ فإن ثمة علاقة بين «الوقف» وبين أعمال وفضائل معنوية أخرى جليلة القدر، ومن أهمها: «التوبة» و«محاسبة النفس»، و«الرجوع إلى الحق» عندما تظهر دلائله. ويربط هذه الأعمال كلها هدف إيماني واحد هو: ابتغاء وجه الله، والإقرار عملياً بواحدانيته، وبأنه مالك الملك، وأنه سبحانه وتعالى وحده الذي يتوب على من ينخلع من ذنوبه، ويسقطها من سجل حسابه.

والوقف في أبعاده المعنوية يعني أيضاً: إعادةُ المِلك إلى الله المالكِ الحقيقي. هو إسقاط للملك المجازي، وإقرار لمالك الملك بأنه عز وجل مالك كل شيء. و«التوبة» في جوهرها نوع من الإسقاط أيضاً؛ إنها إسقاط لشهوات النفس الأمارة بالسوء، ورجوع إلى الصواب وترك الخطأ. والوقف والتوبة كلاهما قربة إلى الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». (رواه مسلم في صحيحه). وهذه المعاني كلها كان المستشار البشري قد عايشها بإيمانه الصوفي أيام المراجعات ونقده لذاته، وإعلانه الرجوع عما تبين له أنه أخطأ فيه، وذلك قبل سنوات من كتابته «نص حجة وقفه» الذي أوردناه. وقد أنعم الله عليه بذلك، كما أنعم عليه بالعلم النافع والولد الصالح.

المشي إلى المساجد

ثالث المعالم الإيمانية الظاهرة للمستشار البشري – طيب الله ثراه – أن كان مشَّاءً إلى المساجد التي هي بيوت الله في الأرض؛ لأداء الصلاة، ولقراءة القرآن. وقد صحبتُه في المشي إلى عدد منها في حي المهندسين، بالقرب من منزله. وكان يقول لي: «الوجود في المسجد مريح جداً، وهو يجدد النفس فعلاً، وهو في ذاته سفر بغير ترحال».

وحكى لي أيضاً أنه كان له تعلُّقٌ خاص ببعض المساجد؛ ومنها مسجد «السادة المالكية» الذي يقع على الجانب الآخر المقابل لمسجد السيدة نفيسة بالقاهرة. ومن أسباب تعلقه بهذا المسجد أن جدَّه الشيخ سليم البشري – شيخ الجامع الأزهر في زمنه – مدفون فيه، مع تسعة آخرين من السادة العلماء المالكية. حكى لي أنه ذهب إلى الصلاة في هذا المسجد في مطلع حياته الوظيفية بمجلس الدولة، وأنه لما فرغ من صلاته عاهد الله هناك بما عبر عنه القرآن الكريم في سورة «القصص»، وهو قوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: «قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين» (القصص: 17). وقد شهد له الشهود العدول أنه وفَّى بعهدِه مع الله، ولم يكن يوماً ظهيراً للمجرمين.

ومن المساجد التي أحبَّها وكان له تعلق بها أيضاً: مسجد الجمعية الشرعية بالخيامية – وهو المسجد الذي أسسه الشيخ محمود خطاب السبكي مؤسس الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة في سنة 1912م – وكذلك مسجد السيدة زينب بالقاهرة، وجامع السيد البدوي بمدينة طنطا، وقال لي أكثر من مرة إن: «طنطا أحبُّ بلدٍ إليَّ لم أعش فيها»، وقال إنه أحبَّ أيضاً جامع مصطفى محمود بالمهندسين، وكثيراً ما مشيت معه إليه لأداء الصلاة فيه، وكذلك جامع «الحامدية الشاذلية» بالمهندسين أيضاً، وزاوية «الشيخ عبد الحكم»، بميدان «أبو الكرامات» بالمهندسين كذلك، وكمْ صحبته في المشي إلى هذه الزاوية، صغيرة المساحة، عميقة السَّمَاحة؛ لنؤدي صلاة الجمة ونستمع إلى خطبة الشيخ عبد الحكم، وكان طاعناً في السن، يرتدي جلباباً أنيقاً وبسيطاً، وكان رحمه الله مقتصداً في خطبته، ذا قول بليغ، يلامس الأرواح ويسعد الأنفس، ولا تزيد خطبته عن دقائق معدودات، وكان رواد الزاوية يتعلمون في تلك الدقائق ما يحتاج تعلمه إلى ساعات. فيا لها من أيام!

الحمد لله

رابع المعالم الإيمانية الظاهرة عند المستشار البشري أنه بعد هجرته من النموذج المعرفي العلماني إلى النموذج المعرفي الإسلامي كان يختتم بحوثه ودراساته ومقالاته كلها بكلمتي «الحمد لله». وهو ما لا نجده في كتاباته السابقة على تلك الهجرة. والفرق كبير بين هذين النموذجين: فالنموذج العلماني يحصر معرفته في حدود وضعية ضيقة ومختزلة في عدد من الوقائع المادية الملموسة، ويفهم الدينَ باعتباره علاقة بين العبدِ وربه وحسب، ولا أثر له في تسيير شؤون الحياة الجماعية للأمة قط. أما النموذجُ المعرفي الإسلامي فمصادره واسعة ومتنوعة، وتجمع بين عالمي الشهادة والغيب، وتدعو لبذل الوسع في التعرف على الواقع؛ مع الضراعة إلى للوصول إلى الصواب والسداد، كي يحصل المجتهد على أجرين، فإن أخطأ حصل على أجر واحد. وعلى هذا النحو أصبح المستشار البشري يفهم الإسلام فهماً شاملاً، لا تنفصلُ فيه الدنيا عن الدين، ولا يخاصم علمُ تلك علمَ هذا. وكان موفقاً في اختيار كلمتي «الحمد لله» لختام ما يكتب.

و«الحمد لله»، كما يقول الإمام عبد الحليم محمود شيخ الأزهر – رحمه الله – معناه: الثناء الكامل، وهو أعمُّ من الشكر؛ لأن الشكرَ إنما يكونُ على فعلٍ جميل، يُسدى إلى الشاكر، وشكرُه حمدٌ. والحمد المجردُ هو ثناء بصفات المحمود من غير أن يُسدِي شيئاً. ومن أجلِّ أنواع الحمد وأرقاها «الحمد» الذي ينبعث من الإنسان نفسه اعترافاً بكمال الله سبحانه وتعالى، وعملاً بقوله عز وجل: «وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذلِّ وكبِّره تكبيراً» (الإسراء: 111). ويلي ذلك الحمد على نعمة الهداية، وعلى إنزال صدرها ومنبعها وهو «القرآن الكريم». ثم الحمدُ من أجل النِّعم الخاصة، وكلها من الله. قال تعالى: «ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين» (النمل:15).

سألته في يوم من الأيام عن سبب ختمه كتاباته بكلمتي «الحمد لله» فقال لي:

عرفت المعنى النظري لكلمتي الحمد لله من كتاب صغير للشيخ عبد الحليم محمود عنوانه «الحمد لله هذه حياتي». وعرفت كم أنعم الله عليَّ بنعمٍ كثيرة تستوجب الحمد والشكر لله، فالحمد لله الذي أعطاني من أسرتي من يعينني على أمر ديني؛ زوجتي السيدة عايدة العزب موسى – الصحفية الكبيرة – هي نعمة أنعم الله بها عليَّ، وولديَّ عماد وزياد.

ثم قال:

«الحمد لله»؛ أنا مارستُ حياتي بصدق، والحمد لله أن هناك أحكاماً – علمية – أنا مختلف معها الآن، ولكن حين كتبتها لم أكن أريد مصلحتي الشخصية. والحمد لله لم أخطئ بقصدٍ، وإن كنت أخطأت فهو خطأ لم أعرفه، ولم أقصدْه، وقال لي أيضاً: عندما شعرتُ أنني أنجزت عملي القضائي، أحسست بضرورة الذهاب لأداء العمرة، فذهبت تعبيراً عن «الحمد لله»، سبحانه وتعالى. والحمد لله أنني قاومت شهوات نفسي بقدرِ ما أستطيع، و«الحمد لله» الذي يسر لي أن أقاوم شهوات: المال، والمنصب، والشهرة؛ بحيث إنني لم أقلق أو أشعر أنني في معركة نفسية في مثل هذه الخيارات.

و«الحمد لله رب العالمين» هو فاتحة الكتاب العزيز، و«الحمد لله» هو آخر دعاء أهل الجنة، قال تعالى: «دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين» (يونس:10).