خرج المستشار البشري (طيب الله ثراه) من عزلته التي فرضها على نفسه في السبعينيات لنقد ذاته ومراجعة أفكاره السابقة بعد أن تأكد لديه فشل الوضعية المنطقية، وبعد أن استوت رؤيته الجديدة خارج النسق العلماني برمته، واستقرت داخل النسق الإيماني الإسلامي بأكمله. ولسان حاله كان يقول: «جزى الله الشدائد كل خير … تعرفنا العدو من الصديق».

وفي غمار عملية النقد الذاتي، شرع يعيد النظر فيما كان قدمه من رؤى وتصورات وأفكار وكتابات، وأعلن على الملأ نتائج «مراجعاته»، وكشف عن حصيلة نقده لذاته. ومن هناك بدأ عنده ما وصفتُه بــ «مشوار السعادة»، أعني مشوار السعادة الفكرية الحقيقية، التي لا انفصام فيها بين العقل والقلب؛ إذ القلب دون العقل لا تكتمل سعادته بالغًا ما بلغ، وكذلك العقل دون القلب لا يهنأ صاحبه بالغًا ما بلغ؛ بل يبقى في شقاء مقيم، والانسجام بينهما هو سر من أسرار تحصيل السعادة في الدارين. وقد وقع ما أعلنه المستشار البشري من مراجعات وقع الصاعقة على ذوي التوجه العلماني بوجهيه اليساري والليبرالي، وكان وقعه أشد على الطاقم اليساري من أصحاب هذا التوجه، وعلى عدد ممن كانوا حتى ذلك الحين من أقرب أصدقائه.

قد يظن الذين لا يعلمون أن المستشار البشري قرر أن ينتقل من المرجعية العلمانية إلى الإسلامية هكذا في طرفة عين، أو في لمح البصر، أو تحت إغراء من هنا، أو استجابة لضغط من هناك؛ كما فعل ويفعل غيره من المعروفين بأنهم «رجال كل العصور». وهذا الظن أبعدُ ما يكون عن حقيقة عملية «الهجرة المعرفية» العسيرة التي خاضها بتؤدة، وصبر، وطول نفس، إلى جانب تحمله الأذى، واحتسابه التطاول الذي تعرض له حسبةً لوجه الله تعالى. وقد استغرقت هجرته تلك «عشرة كاملة» من السنوات، أو كادت؛ أي من أعقاب هزيمة يونيو سنة 1967م إلى أواخر سبعينيات القرن العشرين. وكانت لهجرته خطوات ووقائع ومعوقات ومتاعب.

قبل هجرته المعرفية، كانت العلمانية قد احتلت عقله، وعزلته عن قلبه، ووسعت المسافة لديه بين العقل والقلب. وتجلت علمانيته في «نموذج فكري سياسي» أساسي، له مفاهيم مركزية، ذات مضامين محددة، كما كانت له مسلماته، ومقدماته، ونتائجه المنطقية.

كان مفهوم «الاستقلال الوطني» هو المفهوم المركزي في نموذج التفكير العلماني عند طارق البشري وعند رصفائه من أبناء جيله الذين ينطبق عليهم وصف «العلماني الوطني». وكانت المفردات الرئيسية لهذا الاستقلال تتلخص في الأبعاد الاقتصادية والسياسية على المستوى الوطني، وفي قضية الوحدة العربية وتأسيس كيان دولي عربي قوي على المستوى العربي. وكانت تلك المفردات تترجم في معاني التحرر من الاستعمار، وإقامة نظام اقتصادي وطني على أساس «العدالة الاجتماعية»، مع السعي لإنجاز حلم الوحدة السياسية العربية. وبهذا النموذج الفكري ببعديه «السياسي والاقتصادي»؛ نظر إلى قضية الاستقلال الوطني، ونظر إلى ما ارتبط بها من قضايا أخرى؛ سابقة عليها، أو لاحقة لها.

أهم وأول -وربما آخر- عمل علمي كبير يدلنا على رؤية طارق البشري «العلماني الوطني» هو كتابه الضخم الذي صدر بعنوان «الحركة السياسية في مصر 1945 ــ1952م» (حوالي 500 صفحة في طبعته الأولى). كان قد انتهى من كتابة هذا الكتاب في نهاية الستينيات؛ أي في ذروة نضجه العلماني الوطني. وقد ظهرت طبعته الأولى في سنة 1972م.

وفي مقدمة تلك الطبعة الأولى حدد معيار نظرته إلى القضية المركزية الكبرى؛ وهي «قضية الاستقلال الوطني»، وأقام هذا المعيار على أساسين رئيسيين هما: «الاستقلال السياسي»، و«الاستقلال الاقتصادي». وفي ضوء هذا المعيار جمع المادة التاريخية لكتابه من مصادرها الأولية، ونظر إلى وقائع المرحلة التي أرَّخ لها، وقيَّم إسهامات القوى السياسية والاجتماعية والفكرية التي صنعت أحداثها.

وكتب أيضًا في مقالات وبحوث أخرى خلال الستينيات، عن وقائع تاريخية وعن عدد من القيادات السياسية المصرية؛ ممن كان لهم إسهام في تلك الأحداث، وأبرزهم سعد زغلول وعبد الرحمن الرافعي، وفيما بعد الستينيات والسبعينيات كتب أيضًا عن أحمد حسين زعيم مصر الفتاة، ومصطفى النحاس باشا زعيم الوفد. وكان أول مقال له بعنوان «عام 1946 في التاريخ المصري» نشرته مجلة الطليعة (اليسارية) في عددها الثاني الصادر في فبراير 1965م.

صدر كتابه «الحركة السياسية»، وكانت آثار العدوان الصهيوني لا تزال جاثمة على الصدور والعقول والأنفس والأرواح. وترك المستشار البشري الطبعة الأولى من هذا الكتاب تشق طريقها إلى القراء، وشغل هو نفسه بسؤال كبير وثقيل هو: ما علة الهزيمة ومن أين أتت؟ وكرر طرح هذا السؤال على نفسه، واعتبره أسبق من السؤال عن كيفية الخروج من تلك النكبة. وفي غمار النقد الذاتي انكشف له أن المشكلة ليست في صواب أو خطأ الاختيار بين الرأسمالية والاشتراكية، أو المفاضلة بين نظام الحكم الشمولي الناصري وغيره من أنظمة الحكم، وإنما في غياب البعد الحضاري، والعمق الروحي والإدراك الذاتي. وانكشف له أن أساس الاستقلال الوطني هو الشعور بالهوية المتميزة، وأن أساس هذه الهوية هو «الإسلام»؛ بعقيدته وتراثه، وحضارته.

وفي ضوء ما انتهى إليه، أعاد النظر بنزاهة وشجاعة في قوى الحركة الوطنية المصرية، ونشر ما انتهى إليه في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «الحركة السياسية» في سنة 1983م تحت عنوان «تعقيب ومراجعة» (في 68 صفحة). وركَّز في هذه المقدمة على دور الحركة الإسلامية، وتحفظ على بعض مواقفها وانتقدها، ولكنه ردَّ لها اعتبارها التاريخي والوطني والحضاري، واعترف أنه ظلمها حين نظر إليها بمعايير خصومها، وبخاصة خصومها من اليسار، ودعا إلى ضرورة تفهمها من خلال منطقها الداخلي، تمامًا كما يتعين فهم كل التكوينات والأحزاب؛ لا من خلال مفاهيم غريبة عن هذا المنطق الداخلي، أو متناقضة معه؛ مؤكدًا على أن المفاهيم الغريبة والمتناقضة من شأنها الإخلال بمصداقية المنهج العلمي التحليلي الذي يستخدمه الباحث أو المؤرخ. وأصدر حكمه على نفسه وأعلن في مقدمة الطبعة الثانية لهذا الكتاب أنه كان قد جانبه الصواب في تقدير دور تلك الحركات التي كانت موجودة قبل يوليو 1952م.

في فترة النقد الذاتي ومعاناته الطويلة، لم يفارقه سؤال البحث عن الاستقلال الوطني وشروط الانعتاق من هيمنة القوى الاستعمارية وأذرعها الداخلية في بلادنا، وقاده هذا السؤال إلى سؤال الهوية، وخلص إلى أن إرادة الاستقلال لا تعني فقط أن تكون لقمة عيشنا ملكًا لنا، وإنما تعني قبل ذلك شعور الجماعة بتميزها وترابطها وإحساسها بالانتماء المشترك، ورسخ لديه أن هذا الشعور يأتي أساسًا من الجانب العقيدي، ومن هنا خلص إلى أن النموذج العلماني الفكري والسياسي لا مجال فيه للجانب العقدي والحضاري، وأنه يسلبنا هويتنا.

لقد كان هدفه الأساسي من عمليات النقد الذاتي طوال عقد السبعينيات هو «إعادة تركيب المعيار» الذي يستخدمه في الحكم على الأحداث التاريخية. وراح بعد ذلك يعلن -كلما سنحت فرصة- عما انتهى إليه بصوت عالٍ، ومن ذلك ما أعلنه في ندوة انعقدت في سنة 1988م بعنوان «تاريخ مصر: بين المنهج العلمي والصراع الحزبي»، وكانت تلك الندوة من أهم الندوات العلمية التي شهدها عقد الثمانينيات، وكان صديقنا الراحل الدكتور أحمد عبد الله رزة (اليساري)، هو صاحب فكرتها والقائم على ترتيب أعمالها، وهو الذي قام أيضًا بتحرير أوراقها البحثية ونشرها في كتاب بعنوان «تاريخ مصر بين المنهج العلمي والصراع الحزبي» (نشرته دار شهدي للنشر في سنة 1988م)، وكان ممن حضر تلك الندوة: السياسي المخضرم الأستاذ فتحي رضوان، والمؤرخ الكبير أحمد عبد الرحيم مصطفى، والمفكر المعروف أنور عبد الملك، والدكتور زكريا سليمان بيومي، والمؤرخ يونان لبيب رزق، والمؤرخ عبد العظيم رمضان، وكانوا (رحمهم الله) من شيوخ السياسة وكبار المؤرخين، كما حضر الندوة أيضًا كثيرون من شباب الباحثين في التاريخ وفي العلوم السياسية وعلم الفقه، وعلم الاجتماع.

ويومها أكد المستشار الجليل على موقفه الفكري الجديد وقال: إن «معيار الحكم على الأحداث التاريخية لقضية الاستقلال الوطني لابد أن يتضمن البعد العقيدي الحضاري، إلى جانب البعدين الاقتصادي والسياسي»، وقال: لابد من إدراك الفروق بين «الموروث»، و«الوافد». وكنتُ حاضرًا في تلك الندوة. وأذكر أن المستشار دخل في نقاش احتدم يومها حول هذا المعيار بعد أن ألقى المرحوم أحمد صادق سعد بحثه تحت عنوان: «حركة الجماهير التلقائية في المنهج المصري لكتابة التاريخ المعاصر: مع التركيز على فكر طارق البشري».

وقبل الاستطراد في قصة مناقشته وحواره مع الأستاذ البشري في ذلك اليوم، أجد أن من المفيد أن يعرف القارئ الكريم من هو الأستاذ أحمد صادق سعد؟ هو واحد من كبار منظري اليسار المصري ومؤرخيه. ينتمي لأسرة من يهود البلقان ترجع أصولها إلى يهود الأندلس الذين نزحوا بعد سقوطها واحتموا بالدولة العثمانية. وقد وفدت أسرته (والده ووالدته) إلى مصر، وتمصرت هذه الأسرة، وعاشت في حي شبرا بالقاهرة، حيث وُلد لها في يناير 1919م ابنها الذي عُرف باسم «أحمد صادق سعد»، بينما أبوه اسمه رافاييل سيمون سلتييل!

وقد تعلم «أحمد» الفرنسية والعربية وحصل على شهادة جامعية في الهندسة، وأصبح كادرًا مرموقًا في الحركة الشيوعية المصرية (كيف هي مصرية وقادتها يهود غير مصريين أو من أصول أجنبية مثل هنري كورييل، وصادق سعد، وغيرهما؟ سؤال له إجابة ليس هنا موضعها)، وتقلب في تنظيمات شيوعية كثيرة في الأربعينيات، وصار من قادة حزب العمال والفلاحين الشيوعي المصري في نهاية الخمسينيات، أما اسم «أحمد صادق سعد» الحقيقي فهو: إيزيدور سلفادور سالتييل. وله دراسات معتبرة في التاريخ المصري، ونقدُها ممكن لكنه ليس سهلاً.

تركَّز البحث الذي قدمه أحمد صادق سعد في تلك الندوة على نقد (ومحاولة نسف) ما جاء به المستشار البشري من مراجعات في مقدمة الطبعة الثانية الصادرة سنة 1983م لكتابه «الحركة السياسية في مصر»، واختص مفهومي «الوافد والموروث» -اللذين طورهما المستشار البشري- بأكبر قدر من الهجوم والنقد. واتهمه بأنه «بحث عن مفتاح الهوية الثقافية والحركة التلقائية للجماهير في التيار الرجعي للشعبوية الإسلامية المصرية».

ويومها جاء رد المستشار البشري، على ما قاله أحمد صادق سعد، صاعقًا بكل معنى الكلمة، وبدأه بأن قال:

مع اعتيادي البحث عن نقاط الالتقاء، ومع هوايتي تصور آراء الآخرين من داخلها، ومحاولة فهم سياقها الذاتي، لم أستطع أن أمارس هذين الأمرين عند قراءتي للورقة التي قدمها الأستاذ صادق سعد، وذلك لسببين: أولهما أن الأدوات التي استخدمها… هي أدخل في إجراءات الحرب الفكرية منها في وسائل الحوار… والحرب الفكرية تقتضي إغلاق الحدود ومنع التعامل. وثانيهما: أن الأستاذ الباحث استخدم ما تقتضيه هذه الحالة مما أظهر عمله بوصفه ممارسة للعمل السياسي أكثر منه بحثًا علميًا.

وقبل أن يستطرد في تفنيد دعاوى أحمد صادق سعد -وكانت قاعة الندوة تكتظ بالحضور وكأن على رؤوسهم الطير- قال بصوته الهادئ: «أنا أهدي هذه الملاحظات إلى روح مالك بن نبي الذي كانت تشغله أدوات الصراع الفكري وأساليبه» (مشيرًا إلى كتاب مالك بن نبي «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»)، وراح يأتي بتلك الأساليب التي تحدث عنها مالك بن نبي، ويكشف بها ما ذهب إليه أحمد صادق سعد من أفكار: فكرة فكرة، وينقضها كلمة كلمة؛ بعبارات رشيقة ومقتضبة، وبحجج مفحمة وملهمة.

كانت المقولات الأساسية التي استعارها المستشار البشري من مالك بن نبي هي: اجتزاء وتعديل الرأي وزحزحته عن موضعه قليلاً حتى يكون في مرمى النقد -وتحويل الفكرة المجردة إلى فكرة مشخصنة لتكون أسهل في الطعن عليها- وتشتيت الواقع وبعثرته؛ أي الاعتراف بالحقيقة الواقعة مع رفض أنها شيء واحد والسعي لتجزئتها حتى لا يتبقى للفكرة أصل عام تندرج تحته أو تستند إليه- ويومها خرجنا من الندوة وقد تعلمنا في سويعات معدودة ما يحتاج إلى سنوات عديدة.

خرجنا وأغلب الحاضرين من أصدقائنا لا حديث لهم إلا قولهم : «طارق البشري أنهى صادق سعد النهاردة»، وبعضهم يقول: «ذبحه»؛ بمعنى أنه: قطع حجته، وأظهر تهافته على الملأ، فكأنه مات معنويًا. وكان الأستاذ أحمد صادق سعد قد اعترف في رده يومها على المستشار أنه فعلاً استخدم بعض أساليب الصراع الفكري -لا الحوار العلمي- التي أشار المستشار إليها، كالاجتزاء، والزحزحة، وتشتيت الواقع، ومما قاله معترفًا بذلك من حيث لا يدري: «يحتمل أن يكون هناك جملة أو أكثر قليلاً قد نقصتها الدقة (يعني أنه زحزحها عن موضعها)، وأنا لست طارق البشري لكي ألخص فكره، ولكن ألخص فكره كما أفهمه أنا» (ص359 من كتاب الندوة).

 كان النقد الذي قدمه صادق سعد يومها عبارة عن «سجال سياسي» ساقه تحت ستار البحث العلمي ضد المستشار البشري، وكان هذا السجال رأس جبل الثلج في حالة الهلع الشامل التي اعترت طاقم العلمانيين المصريين، وبخاصة الطاقم اليساري نتيجة ما أعلنه المستشار من مراجعات ونتائج نقده الذاتي لنفسه، وانفصاله عن سربهم، واعترافه بخطئه في منهج النظر للتيار الشعبي الأصيل والتراث الموروث في مواجهة الفكر الوافد الدخيل الذي كان ولا يزال محصورًا في أوساط نخبوية معزولة، فشلت في إنجاز التنمية والتقدم، وكان فكرها ولا يزال ينتج معرفة مشوهة عن مجتمعنا، ويخيفنا من أنفسنا ويفقدنا الثقة في ذواتنا، ويحلو لهم فقط أن يلعبوا دور المعارضة في نظام مستبد.

ويومها أيضًا خرج المستشار من ذلك النقاش مظفرًا بقوة الحجة ونصاعة البرهان؛ إلى حد أذهل الجميعَ، وشهد له بذلك الجميع، بمن فيهم مخالفوه في الرأي، فيما عدا أحمد صادق سعد، الذي لملم أوراقه على مضض في نهاية الجلسة وانصرف. ثم سمعنا أنه قد وافته المنية بعد أسابيع قليلة عقب تلك الندوة فرحمه الله ورحم الجميع. وللحديث بقية عن عطاء المستشار البشري في مرحلته المعرفية الثالثة.