إذا كان هناك رجل يستحق أن يحسد، فهذا الرجل هو تشايكوفسكي.

مقولة قيلت عن عبقري الموسيقى، الذي أطرب ملايين القلوب بموسيقاه، فهو واحد من هؤلاء القلائل، الذين وهبوا سر النغمات العذبة الساحرة، التي تخترق قلبك وعقلك ووجدانك، وقد حباه الله بالوسامة والجاذبية، وأحبته نساء كثيرات، إلا أنه كان يشعر بالشقاء دومًا في نفسه، لما انطوت عليه جوانحه من سر غامض دفين.


حياته وأهم أعماله

في إقليم فياتكا بالجزء الأوسط من روسيا، ولد بيتر إليتش تشايكوفسكي في العام 1840م، كان واحدًا من ستة أبناء، يعمل والده مهندسًا بأحد المناجم، ورغب أبوه في أن يرث بيتر مهنته، ولكنه لم يجد لديه صدى فأدخله كلية الحقوق.وعلى الرغم من التحاقه بوظيفة تابعة للحكومة بوزارة العدل الروسية، إلا أن حبه للموسيقى، والذي ورثه عن أبويه، خاصة أمه التي كانت عازفة بيانو، لم يفارقه قط، حتى أتت له الفرصة للالتحاق بمعهد الموسيقى (الكونسيرفتوار) بسانت بطرسبرج عام 1862م.وحيث إن الموسيقى كانت شغفه الحقيقي، فقد تخرج من المعهد بتفوق، حتى أنه عين أستاذًا للموسيقى عام 1866م، ومن ثم ترك وظيفته الحكومية، وتفرغ أكثر لدراسة الموسيقى، ليظهر إنتاجه بعد خمس سنوات طوال من المجهود المضني.ويروى عنه أنه وضع مؤلفة موسيقية (كونشرتو البيانو الأول)، وطلب رأي صديقه وأستاذه نيكولا روبنشتاين الذي تعلم على يديه الكثير، وكان أشهر عازفي البيانو في أوروبا في ذلك الوقت، والذي لم يعجبه اللحن، ولم ييأس تشايكوفسكي، فقد كانت ثقته في لحنه كبيرة، وقام بعزفه على الجمهور الأمريكي، وفقًا لنصيحة ناقد آخر فحقق نجاحًا مدويًا.

كان أجمل ما يميز موسيقى تشايكوفسكي أن موسيقاه يمكن غناؤها، وساعده إتقانه للغات الأجنبية وسعة اطلاعه أن ينجح في تقديم ألحان يتذوقها كل من الجمهور الروسي والغربي.من خلال تشايكوفسكي تحول الباليه الروسي إلى فن في قمة الروعة، بعد أن كان شيئًا مملًا يعتمد على موسيقى خلفية لاستعراض مهارات الراقصين، ويعد بالتأكيد باليه «بحيرة البجع» وغيرها مثل «كسارة البندق» و«الجميلة النائمة»، من التراث الموسيقي العالمي حتى الآن، على الرغم من أنهم لم ينالوا التقدير الذي يستحقونه عند حياته.

استمر تشايكوفسكي في وضع عشرات المقطوعات الموسيقية والأوبرا والسيمفونيات الخالدة، نذكر منها أوبرا «يوجين أونيجين»، و«ملكة السباتي»، وكذا الافتتاحية المبهرة لسيمفونية «روميو وجولييت»، والتي يقال إنه كتبها حزنًا على تلميذ له قام بالانتحار.


السر الذي أقض مضجعه

كان تشايكوفسكي شديد الخجل، رقيقًا إلى حد يثير الشكوك، والحقيقة أنه كان مصابًا بالشذوذ الجنسي، وفي ذلك العصر كان المصاب بهذا المرض ينظر إليه نظرة بالغة السوء. حتى في دراسة الطب له، كان هناك نطاق من التكتم حول هذا المرض، وظل تشايكوفسكي طوال حياته يخشى أن يعرف الناس ميوله المثلية، مما أثر على أعصابه إلى حد بعيد.ونتيجة لذلك الخوف الدائم، اضطر تشايكوفسكي إلى الزواج من فتاة لم يكن يحبها، حتى يقتل الشائعات التي أصبحت تطارده، ونظرات الشك والريبة الملاحقة له في كل مكان، خاصة بعد تجربة فاشلة له مع مغنية سوبرانو بلجيكية، هجرته لتذهب لرجل آخر. وقصة هذا الزواج هي إعجاب إحدى حسناوات المعهد الموسيقي، الذي كان يقوم بالتدريس لها به تدعى أنتونينا ميليكوف، وتهديدها له بالانتحار إذا لم يتزوجها. وعلى الرغم من حبها الشديد له، إلا أن نفسية تشايكوفسكي، وإحساسه الدائم بشذوذه، جعلا حياته كالجحيم معها.والعجيب أنه في ذلك الوقت، كانت تربطه علاقة عجيبة وغريبة للغاية بامرأة تدعى ناديجا فون ميك، وهي أرملة ثرية أنجبت اثني عشر طفلًا! كانت ناديجا تعشق الموسيقى، وعندما سمعت موسيقى تشايكوفسكي هامت بها، مما جعلها تسبغ عليه رعايتها، وتغدق عليه بالمال. كانت علاقتهما عبر الرسائل دون لقاء شخصي حسب طلبها، وكان هذا يناسب تشايكوفسكي حتمًا، وعلى مدار أربعة عشر عامًا ظلا يتبادلان الرسائل. وقد نشرت هذه الرسائل من قبل الحكومة السوفييتية عام 1935، بعد استيلائها عليها من حفيد مدام فون ميك أثناء نشوب الثورة الروسية، ونشرت في كتاب باللغة الإنجليزية تحت عنوان «الصديق المحبوب» من قبل أرملة هذا الحفيد.ولقد قام تشايكوفسكي بإهداء سيمفونيته الرابعة إليها، بعد أن حاول الانتحار هربًا من زوجته، فقد هبط في إحدى الليالي الباردة إلى النهر، آملًا في أن يقتله الصقيع القارس، وبعد أن تم إنقاذه وشفاؤه، وإبعاد زوجته عنه في ذلك الوقت، كانت مدام فون ميك تشجعه وتشد من أزره.

طبقت شهرة تشايكوفسكي الآفاق، وعزفت موسيقاه في شتى الأنحاء، ولكن كل هذا لم يسعده، بقدر ما كانت تسعده رسائل مدام فون ميك إليه. إلا أن القدر كان له بالمرصاد، وفجأة تلقى رسالة منها تخبره فيها بأن صلتهما يجب أن تتوقف على جميع الأصعدة وبدون أسباب.كانت صدمة بالغة له، وبعد شهور تلقى رسالة أخرى من صديق مشترك يفهمه فيها بأن مدام فون ميك مريضة للغاية، وأنها تعاني بشدة، ولن تستطيع الكتابة إليه كما في السابق، فرد عليه تشايكوفسكي بخطاب حزين لم ينل عليه أي رد.


نهاية غامضة

عاش تشايكوفسكي بعدها سنوات أخرى حزينة، على الرغم من تألق نجمه وازدياد مجده. ففي العام 1892 انتخب عضوًا في أكاديمية الفنون الجميلة بفرنسا، وفي العام الذي يليه منحته جامعة كامبريدج بإنجلترا الدكتوراه الفخرية.على أن كل هذا لم ينسه أحزانه، ووضع في هذه الآونة سيمفونيته السادسة، والتي تعد إحدى العلامات في التاريخ الموسيقي، والتي أسماها «السيمفونية الباكية»، وكانت آخر ما وضعه.

وفي العام 1893 فارق تشايكوفسكي الحياة، بعد شربه قدحًا من الماء غير المغلي، في وقت كان وباء الكوليرا يجتاح روسيا. مما دعا الكثير من مؤرخي سيرة حياته إلى ترجيح تعمد الانتحار، بعد حياة كتب صاحبها على نفسه فيها الشقاء، وإن لم يمنعه هذا من إخراج أبدع وأعذب الألحان لكي تحلّق في سماوات نغمها أجيال من محبي الموسيقى، وإلى الأبد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.