تحدثنا في المقال السابق عن أهمية غمر الطفل بمعطيات اللغة في سنواته الأولى كي نثري خبراته اللغوية، ونساعده على استيعابها وممارستها بسهولة تامة دون تلقين أو تعليم متعمد في مرحلة ما قبل المدرسة. الأمر نفسه يمكنك تطبيقه على المفاهيم الرياضية.

فكما يولد الطفل بعقل مستعد لتخزين الكلمات المجردة وفهم معانيها عن طريق ربطها بخبرات حسية ملموسة، ثم استخدامها في حياته اليومية بفاعلية وإبداع، فالعقل ذاته يكون مستعدًا أيضًا لتلقي المفاهيم الرياضية المجردة بشرط ربطها بخبرات حسية ملموسة، ليستطيع الطفل استخدامها وتطبيقها في حياته اليومية بفاعلية وإبداع، يطلق على هذا «العقل المنطقي Mathematical mind»

وهنا يأتي السؤال، إذا كان كل الأطفال يولدون مسلحين فطريًا بالعقل المنطقي الرياضي، فلماذا ينخفض مستوى الطلاب في مادة الرياضيات، أو يبدي الكثير منهم عدم استمتاعهم أو فهمهم لها بعد دخول المدرسة؟

تأتينا الإجابة على لسان مفكرين عظماء اشتهروا بطفرتهم في مجال الرياضيات منذ أكثر من قرن، مثل «بلاز باسكال» و«ماريا منتسوري»، حيث يوضحون أنه إذا لم يكن تعلم الرياضيات جزءًا من الخبرات التي يتعرض الطفل لها في طفولته المبكرة –وهي الفترة التي يبني الطفل فيها عقله بالفطرة- فإن هذا يحرم الطفل من تطوير عقله الرياضي أو المنطقي، ويصبح تعلم الرياضيات أكثر صعوبة فيما بعد، الأمر الذي أكدته الدراسات الحديثة، مثل التي قدمها بروفيسور برايان باترورث في كتابه «العقل الرياضي».

كما أوضحت ماريا منتسوري أن الطفل في سنواته الأولى يتعلم المفاهيم الرياضية عن طريق اللعب بأشياء ملموسة تمكنه من الملاحظة والمقارنة والتصنيف والتحليل وغيرها من المعالجات المنطقية التي تتم في عقله، ونجد مقولتها الشهيرة: «اليد هي أداة الذكاء الإنساني – The hands are the instruments of man’s intelligence» .

نستطيع جميعًا أن نرى أن اليد هي التي يعبر بها الرسام عن ذكائه البصري، والموسيقي عن ذكائه السمعي، والكاتب عن ذكائه اللغوي، هي التي تميز الطبيب البارع في عملياته الجراحية، والطباخ الماهر في الطهي، والنجار والحداد والخياط وغيرهم، فهي التي تمكن الإنسان من التعبير ببراعة عن قدراته العقلية التي ميزه الله بها عن سائر المخلوقات، ولم يكن لأي منهم أن يصل لمرحلة الإبداع في التعبير عن ذكائه إلا بممارسة هذا الذكاء بيده ليطوره ويحسن من قدراته.

الأمر نفسه ينطبق على الرياضيات، حين يمارسها الطفل بيده يتمكن من بناء الجسر الذي يصل بين الخبرات الملموسة التي يكتشفها وبين المفاهيم المجردة التي سيخزنها في عقله ويعتمد عليها في المعالجات العقلية الرياضية مستقبلًا.


مهارات ما قبل الحساب

يظن البعض أن المقصود بمادة الرياضيات هو كل ما يتعلق بالأرقام، دلالاتها والعمليات الحسابية التي تستخدم فيها، بينما هناك العديد من مهارات العقل الرياضي التي ينبغي إلقاء الضوء عليها ومساعدة الطفل على تطويرها قبل الشروع في تعليمه الأرقام، أذكر لكم منها على سبيل المثال:

1. الانتباه والملاحظة

ألا تعتقد أن هناك مئات التفاحات حول العالم قد سقطت فوق رءوس أشخاص جلسوا تحت أشجارها؟ إذن ما الذي ميز العالم نيوتن عنهم ليكتشف قانون الجاذبية؟ الشخص قوي الملاحظة تعمل حواسه بكفاءة أكبر من غيره، فينتبه لتفاصيل دقيقة تمر على غيره مرور الكرام، تلك التفاصيل التي تساعده على فهم قوانين الطبيعة ونواميس الكون، إنها الملاحظة التي تمكن بها الإنسان من وضع التقويم الهجري والشمسي قبل أن يخطو خارج غلاف الأرض الجوي، وهي التي تمكن بها علماء الرياضيات من اكتشاف القوانين الرياضية التي تحكمنا حتى اليوم.

منذ ميلاد الطفل يشجع نهج منتسوري على توفير بيئة داعمة لتطور تركيز الطفل وانتباهه وقوة ملاحظته، أوردت لكم أمثلة على الألعاب والأنشطة التي يمكن توفيرها للطفل في عامه الأول. اقرأ هذا المقال:

دليلك الكامل لأنشطة طفلك: منذ الميلاد حتى العام الأول

2. الترتيب والنظام

إثبات قانون رياضي، حل معادلة ما، أو إيجاد متغير مجهول في مسألة رياضية، كلها عمليات تخضع لخطوات وقواعد ثابتة وتسلسل منطقي، هذا ما يكون عليه العقل الرياضي، إنه عقل مرتب ومنظم، يربط بين السبب والنتيجة، ويحلل المعطيات ليصل إلى النتائج.

في نهج منتسوري نشجع على المحافظة على روتين يومي ثابت مع الطفل يساعده على ملاحظة المعطيات المتكررة واستنتاج الأحداث المتوقعة، نقدم للطفل مهارات الحياة اليومية في صورة خطوات سهلة مرتبة تدعم تركيزه وتحكمه الحركي الذي يحتاجه لاحقًا في التعامل مع الأدوات الملموسة لاستكشاف المفاهيم الرياضية.

3. التعرف على الأشكال، الأحجام والأنماط

الكثير من المعادلات الرياضية التي نحفظها عن ظهر قلب كحقائق مسلّم بها هي مستنبطة في الأصل من تلك المفاهيم البسيطة كالشكل والحجم والنمط، نظرية فيثاغورس على سبيل المثال هي نتيجة أبحاث على شكل المثلث قائم الزاوية، بينما المعادلة التكعيبية يمكن استنتاجها بسهولة بتطبيق قوانين الأحجام على أداة المكعب ثنائي الحد –إحدى أدوات التعليم الحسي في منتسوري- وملاحظة الأنماط وتكوينها هي ما نحتاجه للتعرف على المتسلسلات العددية وخصائص الأشكال الهندسية.

في نهج منتسوري نحرص على إتاحة الفرصة للطفل لاستكشاف كل الأشكال الهندسية عن كثب بطريقة ملموسة كما في أداة خزانة الأشكال الهندسية، واستكشاف الأحجام المختلفة والمتسلسلة كما في البرج الوردي والسلم العريض، كما نشجع الطفل على ملاحظة الأنماط والتعرف عليها، بل تكوينها بنفسه.

4. الفرز والتصنيف

مجموعة مختلفة من الأزرار إذا تم إعطاؤها لعدة أطفال يمكن تصنيفها بعدة طرق، يمكن أن يصنفها الطفل الأول حسب الشكل إذا كانت مربعة أو دائرية، والطفل الثاني حسب الخامة إذا كانت معدنية أو خشبية، والطفل الثالث حسب اللون إذا كانت بيضاء أو سوداء، لا يهم ما هي المنظومة المتبعة في التصنيف، المهم هو أن كل طفل كان قادرًا على اتباع منظومته الخاصة واستطاع أن يفسرها ويعبر عنها بنجاح، تلك المنظومة التي يحددها تفكيره المنطقي بناء على معرفته السابقة بالعوامل التي يمكن الاعتماد عليها كالأشكال والألوان والأحجام وما إلى ذلك.

تمثل أنشطة الفرز والتصنيف جزءًا مهمًا في ركن تنمية الحواس في نهج منتسوري، حيث توفر للطفل فرصًا جادة لتطوير التفكير الرياضي والتعبير عن التفكير الشخصي المستقل.

5. واحد لـ واحد One-to-one correspondence

في الرياضيات يعبر كل عدد عن قيمة واحدة فقط خاصة به، ولا يمكن أن نجد قيمتين لنفس العدد، هذا المبدأ الرياضي يستوعبه الطفل مبكرًا عن طريق أنشطة ملموسة، مثل مطابقة مجسمات مع فراغات مخصصة لها، أمثلة على ذلك من نهج منتسوري بعض أنشطة الحياة العملية، حيث يستخدم الطفل يده أو ملقطًا مناسبًا لنقل كرات الصوف من وعاء ما إلى صندوق مقسم لفراغات بعدد الكرات، أو في ركن الأنشطة الحسية حيث نجد أداة الأسطوانات ذات المقبض التي تقدم هذا المفهوم للطفل بصورة غير مباشرة.

6. المقارنة والقياس

مقارنة ناتج عملية الجمع الكبير بالنسبة للأعداد المجموعة أو قياس أطوال أضلاع المثلث ومقارنتها ربما تكون مهارات متقدمة وصعبة على طفل صغير، بينما يمكننا بسهولة أن نعد الطفل لها عن طريق بعض الأدوات الملموسة التي تمكنه من تطوير تلك المهارة لديه.

في نهج منتسوري يتعرض الطفل لتلك المهارة بطرق مختلفة، على سبيل المثال في أنشطة الحياة العملية يتعين على الطفل قياس بعض الكميات لملء وعاء ما أو لتجهيز مقادير الطهي، وعلى سبيل المثال أيضًا نجد من أدوات التعليم الحسي أداة العصي الحمراء، حيث يستكشف الطفل من خلالها الفرق بين أطول من وأقصر من، وأداة البرج الوردي التي تقدم مفاهيم أكبر من وأصغر من، قِس على ذلك العديد من المقارنات التي يستكشفها الطفل بنفسه باستخدام تلك الأدوات والأنشطة المختلفة.

7. الإحصائيات والاحتمالات

ربما لم يتعرض الكثير منا لمادة الإحصاء أو لدراسة الاحتمالات إلا في مرحلة الدراسة الثانوية، لكن إليكم هذه المفاجأة السارة، يمكن للطفل في سنواته الأولى أن يستكشف تلك المبادئ بنفسه إذا ما توفرت له الأنشطة المناسبة.

عند تصنيف الملابس قبل الغسل يستطيع الطفل أن يخبرك أي كومة ملابس هي الأكبر ليستنتج أي لون هو الأكثر شيوعًا بين أفراد المنزل، وعند مشاهدة الغيوم يستطيع إخبارك بأن احتمالية هطول الأمطار كبيرة، فالطفل بطبيعته يستخدم عقله الرياضي لتطبيق مبادئ الإحصاء والاحتمالات، وبمساعدتنا يمكنه في الخامسة من عمره أن يفسر بعض الرسوم البيانية المبسطة ليخبرنا ما ورد بها من معلومات.

في بعض أنشطة الحياة العملية في نهج منتسوري يستطيع الطفل أن يخمن هل سيكفي الماء الذي في الإبريق أن يوزعه على عدد معين من الأكواب أم أنه أقل، وفي ركن التعليم الحسي يستطيع أن يحسب احتمالية أن يستقيم البرج أو ينهار عند بنائه بطريقة خاطئة.

مما سبق يتضح أن إعداد عقل الطفل لتعلم مادة الرياضيات هو العلامة الفارقة التي ينبغي التركيز عليها في سنواته الأولى، والتعجل في تعليمه الأرقام والعمليات الحسابية قبل إعداد بنية أساسية قوية بذهنه ليس من الحكمة في شيء، كما يتضح أن ذلك الإعداد يأتي بسهولة عن طريق انخراط الطفل في أنشطة الحياة اليومية بالمنزل، وتوفير أدوات حسية مصممة بطريقة علمية لإكسابه تلك المهارات، وليس عن طريق حل واجبات منزلية وأوراق عمل مطبوعة.

فالقفز إلى الجانب النظري المجرد من الرياضيات دون بناء جسر قوي بينه وبين جانب الخبرات الحسية الملموسة، يتسبب في وجود فجوة ذهنية يصعب على الطفل سدها بنفسه لاحقًا، فيُعرض عن تعلم الرياضيات برمتها ويستصعبها، ويكون بحاجة لتلقي مساعدة أكبر ليعيد بناء ما فاته. وهذا المقال هو دعوة لأولياء الأمور لتوجيه الاهتمام بتنمية مهارات الطفل الحركية والحسية في مرحلة ما قبل المدرسة، لتصبح خطوة الانتقال للتعليم الأكاديمي أيسر وأكثر متعة لكليهما.