أصبحت تجربة صفحة «أفيخاي أدرعي» –المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي للإعلام العربي– على موقع الفيس بوك حالة فريدة ضمن السجال الثقافي داخل الصراع العربي الإسرائيلي. حيث بات أدرعي يُمثّل نمطاً جديداً من الدعاية الإسرائيلية أكثر احترافاً وتطوراً وأقدر على التخاطب مع الجمهور العربي، ويظهر ذلك من خلال متابعة تطور أدائه على صفحته منذ انطلاقها عام 2011.

فقد أصبح من أكثر الوجوه شهرةً داخل «إسرائيل» بالنسبة للمجتمعات العربية، حتى بين الفئات التي لا تهتم بمتابعة الشأن العام، فهو يتحدث اللغة العربية بطلاقة ودقة، مُستغِلاً كل يوم جمعة، أو أي مناسبة دينية، أو اجتماعية، أو ثقافية، من أجل تهنئة المسلمين والعرب، مع استخدامه لخطاب إسلامي واضح، ويغدق متابعيه بعبارات قرآنية في كل فرصة ممكنة. ليستحق لقب «عرّاب الحملة التجميلية لإسرائيل».وعلى المنوال نفسه، ظهرت بعد ذلك عدة صفحات إسرائيلية، حاولت استخدام النهج نفسه أو الاقتراب منه، مثل صفحة «أوفير جندلمان»، المتحدث باسم رئيس الوزراء للإعلام العربي، وصفحة «إسرائيل تتكلم بالعربية».وقد جاءت ردود أفعال هذه الصفحات على عملية تل أبيب -التي وقعت في 8 يونيو 2016، وأسفرت عن مقتل أربعة إسرائيليين– متنوعة من حيث المضمون وأساليب الدعاية والتأثير المستخدمة. وهي ردود الأفعال، التي قد يعطي تحليلها فكرة إجمالية عن أهداف هذه الصفحات في التعامل مع المجتمعات العربية.


فكأنما قَتَل النَّاس جميعًا

لم تتخلَّ الصفحات الإسرائيلية عن استخدام العبارات الدينية والآيات القرآنية في إدانتها لعملية القدس، وهي عبارات تلقى – في الأغلب – تفاعل كبير من جانب المسلمين، إما بالإيجاب، وتصديقاً لمضمون الآيات، أو بالسلب والسب لإسرائيل، والحديث عن عدم احترامها للشرائع السماوية.فجاء أول منشور لصفحة «أفيخاي أدرعي» في هذا الشأن بعد ساعات قليلة من تنفيذ العملية، حيث نشر صورة لأحد الشباب الفلسطينيين وهو يوزع الحلوى ابتهاجاً بتنفيذ العملية، مستنكراً هذا الفعل، ومدعياً أن الفلسطينيين لم يحترموا شهر رمضان، وأنهم لطخوا اسم الدين بالإرهاب.

لطّختم اسم الدّين الحنيف بالإرهاب.مذ متى كان شهر رمضان مصحوبًا بالقتل والارهاب؟يدعون البطولة وهم يقتلون الأبرياء. ولكن من يتجرأ على المس بمواطني اسرائيل بأرادتِهِ لن يكونَ مصيرهُ إلّا بإرادتنا.

Gepostet von ‎افيخاي أدرعي- Avichay Adraee‎ am Mittwoch, 8. Juni 2016
وكانت صفحة «أوفير جندلمان» الأكثر نشاطاً وفاعلية في استخدام الدعاية الدينية لإدانة العملية. فجاء أول منشوراتها في صباح يوم 9 يونيو 2016، وكان عبارة عن رد الصفحة على أحد تغريدات «يوسف القرضاوي» المؤيدة للعملية، والتي تدين الاحتلال الإسرائيلي، وهنا جاء رد الصفحة مختصراً ومركزاً، ليجمع بين مثل شعبي (ضربني وبكى، سبقني واشتكى) وأية قرآنية (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
أوفير جندلمان
أوفير جندلمان
أمّا المنشور الثاني والثالث، فقد حاولت الصفحة من خلالهما إبراز سماحة الدين الإسلامي، وعظمة تعاليمه، ورحمة شهر رمضان، وهي الأمور التي خالفها جميعاً الفلسطينيون، سواء مرتكبي العملية، أو من ابتهجوا بوقوعها.
أوفير جندلمان
وهنا نلاحظ أن الخطاب الإسرائيلي، وعلى عكس العديد من الخطابات الغربية المتطرفة، لم يحاول تفكيك تعاليم الدين الإسلامي، أو التشكيك بسماحتها، أو التركيز على المواضع التي يُدَّعى أنها تدعو إلى القتل والإرهاب، بل التزم بخطاب، يكسوه الطابع الدعوي، مع التشكيك في سلوك المسلمين، وخاصة من يجنح منهم إلى صفوف المقاومة. وهو الأمر الذي جذب إليه شريحة ليست بالقليلة من العرب المسلمين، ومنحه مظهر المُتسامِح أمام المجتمعات الغربية.
أوفير جندلمان
أوفير جندلمان
وهنا نلاحظ أن الخطاب الإسرائيلي، وعلى عكس العديد من الخطابات الغربية المتطرفة، لم يحاول تفكيك تعاليم الدين الإسلامي، أو التشكيك بسماحتها، أو التركيز على المواضع التي يُدَّعى أنها تدعو إلى القتل والإرهاب، بل التزم بخطاب، يكسوه الطابع الدعوي، مع التشكيك في سلوك المسلمين، وخاصة من يجنح منهم إلى صفوف المقاومة. وهو الأمر الذي جذب إليه شريحة ليست بالقليلة من العرب المسلمين، ومنحه مظهر المُتسامِح أمام المجتمعات الغربية.

وفي المقابل لم تمنح الصفحات الإسرائيلية (سواء صفحة أفيخاي أو أوفير) اهتمام لهذه الصورة، لم تدين قيام جندي إسرائيلي بتصويب النار على رأس شاب فلسطيني جريح. لم تتحدث الصفحة عن قتل المدنيين في غزة، أو المعتقلات اللاتي يتم انتهاك عرضهن في السجون الإسرائيلية، وأخيراً لم يذكر أفيخاي أن السجون الإسرائيلية بها 438 قاصر فلسطيني/ منهم ما دون الـ 14 عاماً.

صورة الشاب الفلسطيني الذي أطلق عليه جندي إسرائيلي النار وهو مصاب 24 آذار/مارس 2016


ليسوا أبطالا

لا شك أن مظاهر ابتهاج الفلسطينيين بنجاح عملية القدس، وتوزيعهم الحلوى، كانت مثار غضب صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، وقد حاولت من خلال نشرها لهذه الصور، الترويج لفكرة أن الإرهاب لا يتمثل في حالات فردية فقط بين صفوف الشعب الفلسطيني، إنما هو أحد سماته الأساسية، وإن لم تُذكر هذه العبارة صراحةً.ومن ضمن أحد المنشورات الفريدة، والتي استخدمت أسلوب جديد في الدعاية ضد منفذي العمليات الفدائية، جاء منشور صفحة «إسرائيل تتكلم بالعربية»، وهو عبارة عن صورة، حملت صور ستة من مشاهير العرب في العلم والأدب، وهم: الإدريسي، والخوارزمي، والفارابي، والرازي، وطه حسين، ونجيب محفوظ. وفي الأسفل صور لثلاثة شبان فلسطينيين من منفذي العمليات الفدائية، وقد حملت صورهم ختم «مخرب». وكُتب على الصورة «من يطعن بالسكين، يطعن صورة العرب المشاهير». وجاءت أخر جملة في تعليق الصفحة على هذه الصورة «المشاهير الحقيقيون في الصورة».

اعتداء ارهابي في تل ابيب الليلة الماضية ,على مواطنين ابرياء يتعشون في مطعم بإطلاق النار عليهم من الخلف ومن مسافة صفر…

Gepostet von ‎إسرائيل تتكلم بالعربية‎ am Mittwoch, 8. Juni 2016

وهنا حاولت الصفحة تفكيك إحدى الأساطير بشأن المقاومة الفلسطينية، والتي اختلقها الوعي الإسرائيلي من وحي خياله، وحاول ترسيخها في أذهان شعوب المجتمعات المحيطة. ومضمون هذه الأسطورة؛ أن الشباب الفلسطيني يتخذ من عمليات المقاومة الفدائية وسيلة للشهرة والترقي الاجتماعي، ليتحولوا من مجرد أشخاص غير معروفين إلى أبطال القرية أو الحي الذي خرجوا منه.ومن اللافت أن هناك عدة مقالات ودراسات أكاديمية، قد تبنت هذه الفرضية في تحليلها لأسباب اندلاع انتفاضة السكاكين مؤخراً.

وفي المقابل لم تمنح هذه الصفحات لقب “مُخرِب” للمستوطنين الإسرائيليين الذين حرقوا الفتي الفسطيني «محمد أبو خضير»، ولم تعتبر تعاطف «نتنياهو» و«ليبرمان» مع الجندي الإسرائيلي الذي فجَّر رأس الشاب الفلسطيني المصاب، نوعاً من التشيع على التطرف والتخريب.


وتنتصر «إسرائيل»

صورة الشاب الفلسطيني الذي أطلق عليه جندي إسرائيلي النار وهو مصاب 24 آذار/مارس 2016
صورة الشاب الفلسطيني الذي أطلق عليه جندي إسرائيلي النار وهو مصاب 24 آذار/مارس 2016
سنعود إلى سير الحياة العادي. الدم سيُمحى، الضربة ستُمتص، العناوين الرئيسة ستُستبدل…. نجلس ونشاهد مباريات اليورو في فرنسا وكأن مصيرنا يتوقف على ساحة الملعب؛ سعر المخيمات الصيفية يصدمنا؛ سنخبز الكعك بالجبنة لعيد الأسابيع، ونلبس الأبيض؛ ونعم، سنحقق بنشاط في أفعال الفساد لزعمائنا…. فهذه الأمور الصغيرة هي جزء من حصانتنا الوطنية، بعض من عنادنا بالتمسك بالحياة، بالتمسك بسيرها الطبيعي.
كانت هذه هي خاتمة مقال الكاتب الإسرائيلي «ناحوم برنياع» في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بعد وقوع عملية تل أبيب. وفي الجملة السابقة يتجلى بوضوح أن إسرائيل مازالت تعاني من «هاجس الوجود»، ولكن من منظور أخر، فإسرائيل لم تعد تخشى أن أحد الجيوش العربية سوف يأتي إليها ليفنيها ويُحرر فلسطين، بل أصبح هاجسها الأكبر بأن يشعر المواطن داخلها أنها أرض غير صالحة للحياة الطبيعية. لأنه بات لا يستشعر الأمان حتى وهو في قلب عاصمتهم «تل أبيب».ولذلك، فإن مواجهة إسرائيل للعمليات الفدائية لم يقتصر فقط على اتخاذ التدابير الأمنية ومطاردة عناصر المقاومة، ولكن ارتكز بالأساس على منح المواطن الشعور بالأمان، وأن الحياة لن تتوقف عند لحظة وقوع العملية الفدائية، وأن استمرار الإسرائيليين في متابعة حياتهم اليومية هو الانتصار الأكبر ضد الفلسطينيين، وضد خطر الوجود المزعوم الذي يهددهم.وهو المعنى الذي حاولت صفحات «أفيخاي أدرعي» و«أوفير جندلمان» التأكيد عليه، من خلال نشر صور وفيديوهات تعرض أن الحياة عادت لطبيعتها في منطقة العملية، وتشير إلى دلالات ذلك من صمود وثبات وانتصار لإسرائيل وشعبها.
1
2
3

ومن المثير للسخرية، أن إسرائيل وهي تحتفل بعيد تأسيسها الـ 68، على أرضٍ عمرها يزيد عن الخمسة آلاف عام، تستعير من الفلسطينيين تعبيرات تشير إلى الصمود والثبات والبقاء على الأرض، وأن هذا يعتبر أحد معالم انتصار «إسرائيل».

وفي الوقت ذاته، يتناقض حديث أفيخاي عن «إرادة الحياة» مع كل ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي لتقويض وهدم حياة الفلسطينيين على أرضهم.