في حالتهِ العامة، اقترنَ السلوكُ العدميُّ في القتلِ والمواجهاتِ دومًا بالجماعات الجهادية على مدى تاريخها واختلافِ فِرقِها وتبايُنِ خصومها، وأحدثُها «داعش» التي تبنت هجمات مُتفرِقة حول العالم، بالعراقِ وسوريا وتركيا وفرنسا ومصر وغيرها من البلدان، وكذلك كانت غيرها من الحركات التي اعتمدت العنفَ برنامجًا للعمل، وارتكازُهم في ذلك إلى التصورات والاستدعاءات الكبرى تلك المرتبطة بقُدسية الجهاد، ونصرة الحق، وعاطفة الشعور بالظلم كدافع… إلخ.

وقد عُولِجت – صحفيًا – تلك المسألة وهذا السلوكُ مرارًا، وعليه تكونُ المُفارقة في هذا التقرير، وهو ما يُلقي الضوءَ عليه في عدميّة مُشابهة في السلوك، مُغايرة في التصورات والاستدعاءات الإسلامية، عدمية معبد الشعوب بالولايات المتحدة الأمريكية، لنرى.


معبد الشعوب: الميلاد والتأسيس والصراع

في خمسينياتِ القرن العشرين أسّس الواعظ ذو الكاريزما جيم وارن جونز «معبد الشعوب» في إنديانا، لينجح في استقطابِ الفقراء والطبقة العاملة الأمريكية من البيض، ذلك لالتزامهِ تجاه قضايا المساواة العرقية والاجتماعية. وبحلولِ عام 1965، وبعد أن رأى جونز رؤيا عن قنبلة نووية ستُدمّر شيكاغو، استطاعَ إقناع أتباعه بالانتقال معه وعائلته إلى كاليفورنيا باعتبارها أكثرُ أمنًا.

افتتح المعبد منشآت تابعة له في سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس، ولاقت قبولا واسعًا لتوفيرها خدماتٍ قانونية، ورعاية للأطفال وإيواء للمشردين، ليرتفِعَ عدد أعضائه إلى حوالي 1000 عضو، وفي عامِ 1976 وبقصدِ النجاةِ من العُنفِ البنيوي والظلم الذي رأى المعبد أنه كامِنُ في طبيعة الولايات المتحدة، انتقل المعبد إلى «غويانا».

ويُذكّرُ أن عامَ 1972 كان بداية لتداولِ القصص حول عنف المعبد حين شرع المنشقون عنه في الحديث عن حوادث ضرب واعتداءات لفظية وقسوة شعورية، فضلا على توبيخ الأعضاء عند تعقيبهم بتعليقاتٍ عرقية أو جنسية. وفي ذاتِ العام، أعلن جونز من كاليفورنيا أن حكومةَ الولايات المتحدة كانت على وشك أن تضع السكان في معسكرات اعتقال، وأفران للغاز كما حدث لليهود سابقًا:

سيضعونكم أنتم في معسكرات للاعتقال موجودة في توليلاكي بكاليفورنيا، وألينتاون في بنسلفانيا، وبالقرب من برمنغهام، وبالقرب من إلرينو في أوكلاهوما. لقد أنشؤوها بالفعل، وما يزالون يمتلكونها. لقد فعلوا ذلك باليابانيين وسيفعلون ذلك بنا قريبًا.
مُضيفًا:

زيارة جونزتاون ومقتل ليو رايان

في الثامنَ عشر من شهرِ نوفمبر/تشرينَ الثاني 1978، وبرفقة طاقم تليفزيوني، زار عضو الكونجرس الأمريكي ليو رايان مستعمرة زراعية تُدعى «جونزتاون»، وهي التي تضمُ حوالي ألف أمريكي، بعد تقاريرَ تُفيدُ بانتهاكاتٍ لحقوقِ الإنسان بمعبد الشعوب هناك.

وفي وصف تفاصيل اليوم الأول تروي جاكي سبير مساعدة رايان عضو الكونجرس ما شاهدته من مظاهر البهجة والسعادة التي تكلّفها السكان بحضورهم. وفي أثناء انشغال الحضور بالاحتفال، اقترب فيرنون غوسني، أحدُ أعضاءِ معبد الشعوب، من دون هاريس، مراسل «إن بي سي» الأمريكية، ليُسلمه رسالة تُظهِر شقاء العائلات بتلك المنطقة بخلاف ما يبدو، فضلا على رغبته في العودة إلى الولايات المتحدة وطلبه النجدة بتلك الرسالة.

وفي صباحِ اليوم التالي، قابلت جاكي سبير والمرافقون لها أعضاء جماعة «معبد الشعوب» ليُخفي بعضهم رغبته في مغادرة جونزتاون، ويخرج البعض الآخر عن صمته ويقرر الرحيل. وقُبيل إقلاع طائرة عضو الكونجرس والوفد المُرافِق، أرسل جيم جونز أتباعه لمُلاحقة الوفد واستهدافه، ليتمكنوا من إصابة دون هاريس، ومن ثم قتله، ثم لحِق به عضوُ الكونجرس رايان وثلاثة آخرون.


اجتماع طارئ بجونزتاون

أقول لكم، أنتم في خطر من الدكتاتورية. دولة فاشية عظمى، دولة شيوعية عظمى.

عقب مقتل عضو الكونغرس والوفد المرافق له، استدعى جونز أعضاء الجماعة إلى الخيمة الكبرى في جونزتاون، وأمر فريقه الطبي بإعداد مزيج من السم وشراب بنكهة العنب. وبدأوا بإعطائه الأطفال أولا، ثم تناوله آباؤهم، والنساء أيضًا، ليفنى بذلك 913 شخصًا بمن فيهم جيم جونز، ويُعد ذلك أكبر عدد من الخسائر في حياة المدنيين في حادثة واحدة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية حتى ذلك الحين.

وقُبيل إقدامِهم على الانتحار طوعًا، سجل جونز وأعضاء معبد الشعوب رسالتهم الأخيرة هناك على شريط تسجيل، ويُذكرُ أنه اقتبس فكرة «الانتحار الثوري» من قائد حركة الفهود السود هيوي نيوتن. وبالتسجيل يتحدث أحد سكان جونزتاون قائلا:

لقد قررت أن أقوم بالانتحار الثوري، وأعتقد أن قراري كان صائبًا، وأتمنى أن يُستخدم موتي كوسيلة لتحقيق مزيد من التحرر.
وتُضيف إحدى المشاركات:
إنه لمن سعادتي أن أسير معكم جميعًا في هذا النضالِ الثوريّ، لا توجد طريقة أخرى أُريدُها كي أُقدم حياتي من أجل الاشتراكية.

كانوا مقتنعين بأنهم لا يملكون صوتًا في مجتمعاتهم، لذا سيُسمعُ صوتهم فقط بمشهد موتهم الصادم.

ويُضيف جونز مُختتِمًا التسجيل:

نحنُ نقول، ألف شخص يقولون، نحنُ لا تُعجبنا طريقة هذا العالم، نحن لم ننتحر، لقد قمنا بانتحار ثوري، احتجاجًا على ظروف هذا العالم اللاإنساني.
https://www.youtube.com/watch?v=jRLpn5L0xFA