يجب أن أقول أيضًا بأنني لا أشعر بأن كل الأعمال التي تحطم الأرقام القياسية ينبغي أن تُقلقنا كثيرًا، بعض الأفلام ربما تكون ناجحة على نحو ساحق، لكن سرعان ما تتعرض للنسيان، أفلام أخرى لا يشاهدها إلا القلة لكنها تترك بصمتها على تاريخ السينما.[1]
المخرج اليوناني «ثيو أنجيلوبولوس»

كلهم على حق… بدرجات متفاوتة

هناك سؤال مبدئي يجب طرحه، خصوصًا بعد تصريحات المخرج «مارتن سكورسيزي» عن الأفلام التي يقدمها عالم مارفل السينمائي، حيث وصفها قائلاً:

هي تفرض على جمهور الشباب ذوقًا واحدًا وتحتل قاعات السينما، ولو كنت أصغر سنًا لأعجبتني! صناعة السينما حاليًا تواجه ظروفًا صعبة بسبب سياسة العرض والطلب وتقديم ما يدعو للتشاؤم وترك القصص الجيدة مثل السينما القديمة.

ربما أساء البعض فهم تصريحات مارتن سكورسيزي إلى حد ما، فهو لم ينعت تلك النوعية من الأفلام الكاسحة لشباك التذاكر، بأنها لا تقدم فنًا حقيقيًا، بل قال إنها بالفعل تُقدَم بواسطة فنانين حقيقيين، وأنه لو كان أصغر سنًا لأحب أن يقدم واحدًا من تلك الأفلام.

كان يقصد سكورسيزي بكلمة أنها لا تقدم «سينما حقيقية» هو أن تلك الأفلام ليست الافلام التي يجب أن تتصدر الشاشات السينمائية وصالات العرض الكبرى في أمريكا، في حين أن هناك الكثير من المخرجين المستقلين أصبحوا لا يستطيعون عرض أفلامهم بجانبها.

أوضحت وجهة نظر سكورسيزي فارقًا هامًا يجب أن أتطرق لعرضه في مقالي، فأنا من هنا لا أهاجم نوعية بعينها من الأفلام، بل أنا أؤمن أن كل ما يُقدم ويُبذل مجهودٌ في صنعه هو «فن»، ولعل هذا ما أوضحه «داين يونج» في مقدمة كتابه «السينما وعلم النفس: علاقة لا تنتهي» عن معنى الفن. فمصطلح الفن يميل إلى الإشارة أن شيئًا ما يمتلك صفة خاصة تولد تجربة تأملية ذات مغزى، وقد تكون تلك الصفة متوفرة في أكثر أفلام هوليوود ترفيهًا مثل Star Wars، فمسألة تحديد ما إذا كان الفيلم فنًا (يساعد على التفكير) أو ترفيهًا (بمعنى ممتع) مسألة لها علاقة بدرجات الفن المختلفة، تختلف باختلاف نوايا صناع الفيلم والخصائص الشكلية للفيلم وسياق المشاهدة والجمهور، على الرغم أن هناك أفلامًا قد تكون أكثر تعقيدًا وأوسع أفقًا وأشد تأثيرًا من حيث خصائصها الفنية، ولكنها تصبح مسألة صراع بين فن جيد وفن رديء، وليس إذا كان شيء ما فنًا أم لا.[2]

وكل هذا ينقلنا للسؤال الذي يشكل محور مقالي: ما هو معيار النجاح بالنسبة للفيلم السينمائي: المال أم البقاء؟

أموال وجوائز

لعل ما يتبادر إلى أذهان الأشخاص الذين يتجهون إلى صالات العرض في المناسبات فقط، هو البحث عن أكثر الأفلام تحقيقًا للإيرادات في أيام عرضها الأولى، وهو عمومًا لشخص يشاهد الأفلام في مناسبات معينة مؤشر كافٍ على أنه سيشاهد فيلمًا رائعًا، على الرغم من أن تلك الإيرادات تتحقق بناء على العديد من العوامل، أهمها -في العصر الحديث- الترويج للمنتج بكل وسيلة، فتلك الدعاية استطاعت أن تحقق لشركة DC عام 2016 مبلغًا قدره حوالي 650 مليون دولار، من فيلمين لما ينالا أي ترشيحات أكاديمية مهمة ولم يحصدا سوى جائزة أوسكار واحدة لأفضل مكياج، وجاءا في ترتيب Box Office تواليًا في المركز 8 و9.

في نفس تلك السنة، جاء فيلم Manchester by the Sea بإيرادات بلغت 47 مليون دولار في المركز الـ 69 محققًا 127 جائزة مقابل 250 ترشيحًا، وجاءت أبرز الجوائز التي حصدها هي أفضل ممثل وأفضل سيناريو في المهرجانات السينمائية الكبرى.

فأيهما معيار للنجاح وفقًا لقياس سكورسيزي؟

بالطبع الإجابة عند فيلم مانشستر، ففيلم مانشستر كمثال يؤدي إلى نوع من أنواع التطهير عند المشاهد، ويوجه رسائل وجملاً وحوارات تخاطب قلب المشاهد وتجعله يرى نفسه مكان البطل في مكان وزمان آخر، فشخصية «لي شندلر» هي شخصية إنسانية بحتة تمثل نموذجًا محطمًا وما زال يقاوم رغبته في الرحيل وشعوره بالندم الذي يؤلمه يوميًا، ومسئولياته التي تزداد ولم يعد قادرًا على احتمالها، فإلى أين يتجه؟ سؤال يناقشه الفيلم، ويعيشه البشر.

على الناحية الأخرى من ذلك العام، فهناك فيلمان قدما نماذج إنسانية أخرى أكثر جمالاً وأراها أكثر استحقاقًا للأوسكار عمومًا من كيسي أفليك في تلك السنة، هما Fences وCaptain Fantastic، وأستطيع أن أتخذ منهم مثالاً للحديث، فعمومًا تتشابه رسالتهم.

فيلم (كابتن فانتاستك) والذي احتل في شباك التذاكر المركز 152 مُحققًا 5 مليون دولار و14 جائزة و3 ترشيحات لبطل الفيلم (فيجو مورتنسن) كأفضل ممثل، يقدم نموذجًا آخر معيشًا بشكل يومي، صراع الأسرة بشكل عام وصراع الأب في تنشئة أسرة تقاوم وطأة العولمة والحداثة بشكل خاص، هو صراع اجتماعي معاصر يمكنك أن تجده في تلك المجتمعات المفتوحة والخاضعة لما يسمى بالطريقة الأمريكية في العيش، ويطرح العديد من المعضلات التي يواجهها الآباء في بناء الأسرة والحفاظ عليها من لوثة الحداثة، كما يناقش قضية حرية الاختيار، وكيف يمكن للأب أن يتعامل مع تلك المشكلة، وحرية المعتقد للشخص واحترام رغبته.

في نفس العام استطاعت 10 أفلام تعتمد في رسالتها على الميزانية الضخمة وتقنية CGI أن تحجز لها عشرة مقاعد في ترتيب أول 20 فيلمًا تحقيقًا للأرباح وفقًا لشباك التذاكر.

وهي أيضًا تتشابه فيما تقدمه مع اختلاف المعالجة أو تنوع الشخصيات واختلاف أسمائهم، فبين إيرون مان وباتمان لا تجد اختلافًا حقيقيًا، فهو نفس الثراء، ونفس النهاية المأساوية للأسرة الذي يُشكل دافعًا للبطل أن يسير في اتجاه معين، والشخصية القيادية التي عليها أن تتحمل عبء قرارات مصيرية من أجل إنقاذ المجتمع أو الفريق، ولكن التشابه الأبرز في نظري، هو سواء كان فريق باتمان أو فريق إيرون مان، فكلاهما يقدمان شخصيات فوق بشرية، لا تملك من البشر سوى الهيئة، نعم بإمكانهم على مدار السنين -مارفل خصوصًا- صناعة رابطة قوية من الذكريات مع أشخاص فريق بعينه تجعلك تشعر بالألفة والتأثر حال تعرض الفريق لانتكاسة أو هزيمة وتجعلك تشعر بالفرح عند انتصار قضية الحق التي يكافحون من أجلها، وهي أيضًا قضية فوق بشرية، ولكن لا يمكنك أبدًا أن تشعر بأنك جزء من هذا الفريق أو أنك قادر على إسقاط واقعهم على حياتك المعيشة، لذلك بعد فترة أو عند عمر معين تشعر أن تلك الأفلام لا تتخطى كونها أفلامًا مناسبة لزمن معين وعمر معين، ولكنها لا تستطيع أن تعيش على مدار السنوات، أو تؤثر فيك مثلما كانت في السابق.

فمثل تلك السلاسل من أفلام الأبطال الخارقين تم تقديمها في الماضي أكثر من مرة، وتغيرت أكثر من مرة، حتى تواكب العصر والمشاهد في مرحلة عمرية ما، وتقنيات العصر الأكثر منطقية في الرسوم والحركات كلما تقدم الزمان، من السهل أن تقدم شخصية سبايدر مان أكثر من مرة وتحقق نوعًا من الإقناع في كل مرة داخل مدة الفيلم الزمنية أو جيله.

في حين أنه لا يمكنك أن تقدم «ترافيس بيكل» في فيلم سائق التاكسي أكثر من مرة، نظرًا لأنك لا تحتاج لهذا الأمر بالفعل، وهذا ما يجعله خالدًا وأيقونة، فترافيس بيكل هو شخصية تستطيع أن تعيش لمحبي السينما دائمًا وأبدًا مثلما أثبت الزمن هذا الأمر، لأن ترافيس بيكل لا يقدم شخصية فوق بشرية، وقضيته وسعيه الدؤوب وراء القضاء على طفيليات المجتمع، هو صراع دائم بشخصياته في كل مجتمع وكل وقت، أما القضاء على «ثانوس» فهي قضية خاسرة ولن تعيش إلا داخل نطاق عالم محدود وغير واقعي مثل عالم مارفل السينمائي.

كلمة العلم

الموضوع تحديدًا وبشكل علمي، يظهر في نظريتين في علم النفس:

  1. ظاهرة التماهي: التي من خلالها يستطيع المشاهد أن يتقمص عناصر معينة في فيلم ما ويسقطها على واقعه، على الرغم من درايته أن الفيلم غير واع به، وأنه ليس جزءًا من الفيلم، ومن أجل هذا يعيش الفيلم الإنساني، ومن أجل هذا ربما يتذكر كلمة أو مشهدًا في موقف ما تعرض له، ولهذا هناك بعض الأفلام التي تلازم الإنسان في قاع الذاكرة بشكل يومي.
  2. ظاهرة التلصص: والمقصود بها أن المشاهد يشارك في الفيلم وفي الوقت نفسه هو منفصل عنه، تلك المسافة التي تنشأ بينه وبين الفيلم تكون في آن واحد محبطة، كونها منقوصة وتفسد عليه تجربة التقمص، وأيضًا مدعاة للسرور كونها محتواة وآمنة داخل حدود الفيلم، فهو يعلم أن قضية الفيلم وقضايا الشر بها، كهجوم الكائنات الفضائية والكائنات الخارقة، لا تمس واقعه وتفوق قدرته، ومن أجل هذا يعيش المشاهد حقبة وحالة معينة فقط مع فيلم البطل الخارق، ولا تلازمه دائمًا بالضرورة، إلا في حالات شاذة.[3]

منافسة بين شخص ومؤسسة

حسنًا يمكن لهذا الصراع أن يتخذ شكلاً آخر، وهو شكل صراع الإنسان ضد المؤسسة، يكسب الإنسان ذاته وحضوره وربما هو أهم من مكسب المؤسسة الاقتصادي، فالمؤسسات دائمًا في حالة دينامية من الانهيار أو الانصهار والنجاح والفشل، أما اسم المخرج فهو ثابت.

فإذا قرأت كتب مُنظِّري السينما وأساتذتها وشُرَّاحها، ستجدهم يتناولون أسماء أشخاص بعينهم ويصنعون منهم مدارس سينمائية واتجاهات، ففي تلك الحالة ينسب الفيلم والعمل الفني لصاحبه، في مقابل أن الفيلم الآخر يُنسب لمؤسسة كبرى.

فبينما تتصارع مؤسسات مثل Sony وDisney من أجل الربح وتقديم السلعة الرائجة التي تناسب عصرها، تجد أن هناك تكاملاً وتبادلاً بين مخرج وآخر، فلا عجب حينما تجد تاركوفسكي وأنجلوبوليس تشاركا غرفة واحدة في فندق أثناء تصوير كل منهما لفيلمه وتبادلا الخبرات والنصائح، ولا عجب أن تجد أن هناك أشخاصًا تتأثر في حياتهم بالفعل بالرؤى والقضايا التي يتبناها برجمان وعباس كيارستمي وفيم فيندرز وكيوبريك وتروفوا وديفيد لين وغيرهم، حتى في لغة الحوار الدارجة، تجد أن الأشخاص حينما يتناقشون حول الأفلام تجدهم يسمون أفلام الأبطال الخارقين بأسماء مؤسساتها، قلما يتحدث أحد عن مخرجيها، في مقابل الحديث عن أفلام ونسبها لمخرجين بعينهم وأسلوبهم، لذلك لم يخطئ ثيو أنجلوبوليس حينما قال إن «أفلامًا قلة هي التي تترك بصمتها على تاريخ السينما»، فمن وسط مليارات الأفلام التي أُنتجت منذ أن التقطت عين الأخوين لوميير اللقطة الأولى، تجد أن الأكاديميات حين تنشر قائمة بأفضل الأفلام أو المخرجين في التاريخ تتفق دائمًا حول أسماء بعينها.

غالبًا أنت شاهدت رائعة أرنوفسكي Requiem for a Dream الذي حقق 3 ملايين دولار إيرادات والمركز 160 في شباك التذاكر، في رأيك ما الذي يبقيه حيًا حتى اليوم مقابل فيلم Mission: Impossible II الذي اكتسح شباك التذاكر في نفس السنة؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. أمين صالح (إعداد وترجمة)، “عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي: براءة التحديقة الأولى”، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، 2009، ص 210.
  2. سكيب داين يونج، “السينما وعلم النفس: علاقة لا تنتهي”، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، ص 21.
  3. المرجع السابق، ص 50.