تثبت الحقائق عبر الزمان أن أفق الخيال يكون في أعظم اتساعاته في المراحل العمرية الصغيرة. نجد الأطفال في أعمارٍ أقل من 10 سنوات يملكون مخيلات جبارة، قادرة على خلق سيناريوهات وأشياء تكاد تناطح المستحيل في سماء اللا منطقية. كنا جميعًا نملك مثل هذه المخيلات الواسعة التي صورت لنا أننا نستطيع الطيران ذات مرة، أو أن هناك فانوسًا يمكن بحكه إخراج مارد يحقق جميع أمانينا. لم تكن هذه الأماني وقتها أكثر من يوم إجازة إضافي من الدراسة في غير الموعد المعتاد، أو نزهة غير متوقعة الحدوث.

بنينا منذ صغرنا قصصًا وألفنا مجلدات من الأحلام. آمنا بكل ما ذُكر نصًا أو إيحاءً في الأفلام الكارتونية، أو حتى ما ورد إلى خيالاتنا بصدفة عابرة. أذكر أني قرأت ذات مرة عن أحد الأطفال في اليابان قد وافته المنية لأنه اعتقد لوهلة أنه يستطيع الطيران؛ فقفز من فوق أحد المباني المرتفعة. وبالرغم من أن كل أحلامنا قد اختلفت باختلاف البيئات التي نشأنا فيها، لكننا جميعًا بالتأكيد تمنينا ذات مرة أن نملك في مدينتنا أحدًا ما مثل سوبرمان أو بات مان. تمنينا لو كان هناك حجر فضائي يمكنه تحويل أي منا إلى ذلك الخارق الذي يضمن تحقيق كل أحلامنا الكبيرة.

بشكلٍ أو بآخر، فإن بطل طفولتنا قد تجسد في «محمد صلاح»، لكن كان ذلك بعد أن تخطينا مراحل الخيال الطفولي، وتحولت أحلامنا إلى شيء أكثر تعقيدًا من ذي قبل.


الكنز يكمن في الرحلة

يَحكي الجميع قصة المصري المحترف «محمد صلاح» منذ اللحظة التي فشل فيها في الانتقال إلى الزمالك -كما أُشيع- لكن يغفل كل هؤلاء أن الرحلة لطالما تمر بمنحدرات وبمرتفعات مادامت مستمرة، ولا يمكن أن تصل إلى منصات التتويج العُليا أو ما قد حققه «صلاح» مؤخرًا، إلا بعد السقوط في منحدر ضخم. الحقيقة أن الفشل في الانتقال للزمالك لم يكن السقطة القوية التي ضربت رحلة «صلاح» نحو ما هو فيه الآن، فقد كانت منحدرًا بسيطًا عابرًا، لكن الفشل الحقيقي، أو بالأحرى السقوط، كان في النتائج السلبية التي كللت وجود «صلاح» داخل لندن رفقة تشيلسي.

المصريون وقتها فقدوا كل الثقة في «محمد صلاح»، وبدأ الكثير في تعظيم آخرين مقارنة بـ«صلاح»، مثل «محمد زيدان» و«أحمد المحمدي»، ومن قبلهم جميعًا «أحمد حسام ميدو». الأخير أيضًا كان كثير التصريحات حول «صلاح» وشئونه، كان دائم النصح في عدة نقاط يجب على «صلاح» تعديلها من أجل تحقيق مسيرة أفضل أوروبيًا. الإجمال أن رحلة «صلاح» داخل تشيلسي كانت مليئة بالنصائح، والنصائح فقط. سوء أداء ونتائج سمحا للجميع بالتدخل والتعديل والنقد لمحاولة فرض الآراء أو ادعاء العلم ببواطن الأمور: تلك المهمة قام بها الجميع، من أصغر مصري مُطلع على الشئون الكروية، وحتى كبار المحللين والخبراء، سواء في مصر أو غيرها. الأمر الآن مختلف بلا جدال.

بعد الانفجار الذي حققه «صلاح» في سويسرا داخل صفوف بازل، كان عليه الاختيار بين الانتقال إلى ليفربول وبين الانتقال إلى تشيلسي. وقتها اختار «صلاح» تشيلسي بعد مكالمة من «جوزيه مورينيو»؛ لينهال عليه الجميع بالنقد والذم في القرار. ظنوا أنه كان عليه الانتقال إلى الركن الأحمر من الميرسيسايد لأن الفرص في اللعب هناك أكبر. «صلاح» بعد سنين عدة قدم الرد بدون كلام.

بالنظر إلى اختيارات «صلاح» في فترات الانتقالات نجده قد قرر الذهاب إلى تشيلسي وفيرونتينا وروما ثم ليفربول. إذا ما اتخذنا معيارًا آخر في الرؤية فسنجد أنه ارتاح للتدرب تحت ولاية كُل من: «مورينيو» و«مونتيلا» و«رودي جارسيا» و«سباليتي» وأخيرًا «يورجن كلوب». المعيار الأخير يبدو أقرب للمنطقية في الحكم. «صلاح» يختار دائمًا المدرب الذي يشعر أنه سيقدم معه أداءً أفضل. سيتعلم ما هو جديد. لا يهم المشاركات العديدة ولا يهم ما قد يقال عنه، لا يهم إذا ما كان ذلك الانتقال جاذبًا للأضواء أم لا. هنالك خطة، وَضح فيما بعد أنها كانت مُحْكَمة، وقد نفذها «صلاح» بكامل أبعادها.

«صلاح» يُحسن الاختيار. تحلى خلال رحلته الطويلة منذ المقاولون العرب وحتى التحرر الكبير في ليفربول، ومرورًا بكل الانكسارات والانتصارات، بالشيء الوحيد الذي افتقده «ميدو» ومن قبله ومن بعده الكثيرون: حسن إدارة المسيرة الاحترافية وجودة الاختيار.

الجميع حين حاول نقد «صلاح» أهمل الجانب التطويري في عقل اللاعب. لم يُنظر للرحلة ببُعد آخر أو بمنظور مختلف غير الأسماء الرنانة للفرق أو عدد المباريات التي يشارك فيها ذلك الشاب الصغير حينها. لكن ذلك الشاب قد رأى ونظم رحلته بشكلٍ أفضل كثيرًا من كل ناقديه ومحللي أدائه ذوي الأعمار السنية التي تفوقه بعشرات السنين، وما يحدث في ليفربول في هذه الأثناء ما هو إلا نتاج كل هذه القرارات الرائعة.


الفارق بين ليفربول وبين ليفربول

رفقة «سباليتي» تطور «صلاح» جدًا في الجانب التكتيكي ومرونة تأدية المطلوب في مراكز عدة. لوتشيانو كذلك بارع في تطوير الجوانب الدفاعية عند لاعبيه، في الحقيقة هو يعتقد أن ذلك هو الأساس في أي لاعب يتدرب معه. «صلاح» كان قد استعد لخوض رحلة تكتيكية دسمة مع «سباليتي» بعد اللعب مع «مونتيلا» الذي يعد أحد أكثر المدربين حبًا للشباب وفي فريق بضغوطات ليست بالضخمة مثل فيرونتينا. التجربة في فلورنسا مهدت الطريق نحو رحلة أصعب في العاصمة كانت مثمرة هي الأخرى. من بعدهما ظهر «صلاح» بالنسخة التي كانت محفزة لفرق عدة من أجل التعاقد معها. فلماذا اختار «صلاح» في النهاية الانتقال إلى ليفربول الذي كان قد رفضه ذات مرة؟

بتحليل بسيط يمكنك اكتشاف قدر التغيير الذي حدث في ليفربول بين الفترة التي رفض فيها «صلاح» الانتقال إلى هناك والفترة التي وافق فيها على عرض الريدز غير المغري بالمرة إذا ما قورن بالأرقام التي تُصرف في هذه الأثناء. لم يكمن ذلك التغيير في الفوز بالبطولات بكل تأكيد، لكن في وجود المخضرم «يورجن كلوب». فرص التطور إجمالًا مع «مورينيو» كانت أكبر كثيرًا منها مع «بريندان رودجيرز»، ومن بعد ذلك فإن فرص التطور الهجومي لا مثيل لها مع كلوب.

بعد الرحلة في إيطاليا وتطوير الأدوار الدفاعية على أكمل وجه مع «سباليتي» وداخل دوري هو الأقوى في الجوانب الدفاعية، كان على «صلاح» النظر إلى الجانب الآخر من التطور في إمكانياته الفردية، وهو الجانب الهجومي. تاريخ المدير الفني الألماني حافل في تطوير الشباب من عدة نواحٍ، تعد الناحية الهجومية أبرزها. وبعد مرور 21 مباراة يمكن إدراك الفارق في قدرات «صلاح» النفسية والهجومية مع «يورجن» لو تمت مقارنتها بما قبل ذلك في إيطاليا.

محمد صلاح, ليفربول, يورجن كلوب, أهداف صلاح,
مقارنة إحصاءات صلاح الهجومية في المواسم الثلاثة الأخيرة، المصدر: www.squawka.com

يعتمد «كلوب» على ديناميكية كبيرة في الخط الهجومي لكل الفرق التي يتولى قيادتها. دخول «صلاح» داخل هذه الديناميكية سمح له بالحصول على فرص أكثر خلال كل 90 دقيقة يشارك فيها بقميص الريدز، مع جمع تلك النقطة التكتيكية بجانب الدفعة النفسية الكبيرة التي يحصل عليها «صلاح» وزملاؤه من الخطوط، ستكتشف أن قرار «صلاح» بالاتجاه نحو ليفربول بعدما رفضه في أول مرة كان قرارًا صحيحًا في كل مرة.


شخصية البطل الخارق

اعتلى «صلاح» قائمة هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز لفترة ليست بالقصيرة، وما يزال ينافس على لقب هداف البريمييرليج مع منافس هو الأصعب في العالم في هذه الأثناء. وبجانب معاناة «صلاح» لفترات طويلة مع سوء إنهاء الفرص التي تتاح له؛ فإنه عانى النقد في نقاط أخرى، كان أبرز ضعف شخصيته وافتقاده للكاريزما.

منذ اللحظة الأولى لميدو في حديثه عن «صلاح»،تحدث عن كون «صلاح» يحتاج لأن يطور الجانب الشخصي لديه، لا يمكن أن يظل بكل هذا الخجل في الملعب وفي التدريبات وبين زملائه في الغرف الخلفية. تلك النقطة تحديدًا أكدها أسطورة تشيلسي «فرانك لامبارد» بعد التطور الكبير الذي أظهره «صلاح» في ليفربول، حيث أكد أن «صلاح» تطور في جنبات «ميلوود» جدًا في الجانب الشخصي وعلى صعيد استحقاق اللعب.

المصري محمد صلاح أثناء تسلمه جائزة شبكة BBC كأفضل لاعب إفريقي لعام 2017، مع يورجن كلوب المدير الفني لنادي ليفربول الإنجليزي.

استفاد الفرعون المصري كثيرًا من تلك الدفعة الممنوحة من قبل «كلوب» الذي يحب لاعبيه جدًا ويستطيع التعامل معهم نفسيًا تمامًا مثل مونتيلا، بل أكثر. التطور التكتيكي وكذلك ضبط الجانب النفسي والشخصي عند كل لاعبيه في كل الأوقات، وهو ما ساعد نجم ليفربول في كسر التابوه السيئ حوله: بأنه ضعيف الشخصية أو غير قادر على قيادة أي فريق كبير سواء من الملعب أو خارجه.

ما حدث خلال مباراة الكونغو التي صعد بها «صلاح» ورفاقه في المنتخب المصري إلى كأس العالم بعد غياب تخطى ربع القرن، وقيادته وتشجيعه لزملائه من أجل النهوض مرة أخرى بعد ذلك الهدف المميت في الدقائق الأخيرة. يؤكد أن «صلاح» بات شخصًا مغايرًا تمامًا لذلك الخجول الذي كان يتوارى في تدريبات تشيلسي.


«سوبر صلاح» بطل الشعب

محمد صلاح، يورجن كلوب، ليفربول، BBC
محمد صلاح، يورجن كلوب، ليفربول، BBC

تخيل لو نظمت مدينة «جوثام» استفتاءً شعبيًا على الرجل الأحق بقلب سكان المدينة، هل سينازع «بات مان» على هذا اللقب أحد؟ بالطبع لا. وإذا كان عدد سكان هذه المدينة يصل إلى 100 مليون نسمة؛ فإن فرص سيطرة بات مان على اللقب إذا انتشر عالميًا تكاد تتخطى الـ90 بالمائة. وهو ما يحدث مع «محمد صلاح»، بطل الشعب المصري.

حصل صلاح على لقب أفضل لاعب إفريقي لعام 2017 والممنوحة من البي بي سي بتصويت الجماهير، وكذلك حصل على نسبة تتخطى الـ95% من الجانب المتاح للتصويت الجماهيري في جائزة الكاف للاعب العام. بجانب فوزه بتصويت أفضل صاحب قدم يسرى متفوقًا على ميسي شخصيًا. إذا ما كان التصويت متاحًا بين صلاح وبين أي لاعب آخر على أي لقبٍ مهما كان، فإن فرص فوز صلاح تتخطى الـ90% في كل مرة.

استخدام المصريين للتصويت من أجل التعبير عن حبهم لأسطورتهم محمد صلاح بات فرض عين على كل مصري يمكنه الدخول عبر شبكة الإنترنت العالمية. ستتهم بالخيانة العظمى إذا كان قرارك غير «صلاح»، حتى لو كان قرارك أقرب للواقع منهم جميعًا، لا يهم. أثبت حبك لصلاح أولًا وللمنطق أهل يُزكوه.

لم يعد «محمد صلاح» مجرد مُحترف مصري يحقق نجاحات لم نتوقع حدوثها طوال أعمارنا. لم يحقق أحلام طفولتنا، بل رفع ذلك السقف إلى حد السماء، وهو ماضٍ في طريقه لتحقيق كُل هذا، الآن نتخيل «صلاح» يحصل على الدوري الإنجليزي رفقة ليفربول، ثم يتجه ليوقع لريال مدريد في صفقة تتخطى الـ100 مليون يورو، كل ذلك بعدما يُحرز هدفًا حاسمًا في نهائي كأس العالم، ليمنح اللقب لمصر. حد الأحلام معه قد وصل لدرب من الجنون، لكنه يستحق أكثر.

علينا الآن أن نتفاخر بين أبناء العالم بأسطورتنا تلك، ونحن مُغمضو الأعين مُتخيلوه يحقق كل ما يجول في خواطرنا من مستحيلات الأحلام. نحلُم بذلك ونحن مؤمنون تمام الإيمان بأنه سيحققه ولو أنكر الناكرون؛ فلكم أنكروا من قبل وحقق.