الولايات المتحدة وبحماقة، أعطت باكستان أكثر من 33 مليار دولار من المساعدات في السنوات الـ 15 الأخيرة، في حين لم يعطونا سوى الأكاذيب والخداع

كانت هذه أول تدوينة على موقع «تويتر»، لدونالد ترامب الرئيس الأمريكي مطلع العام الجديد. يعلن الانقلاب على باكستان، محملًا إياها 16 عامًا من الفشل الأمريكي في أفغانستان، مقبرة الخسائر المادية والبشرية للولايات المتحدة. غير أن الأمر أبعد من هذا، فالصراع الجيوسياسي على قارة آسيا بين الولايات المتحدة والصين وروسيا هو ما يخلخل الثوابت الراسخة لنظام ما بعد انتهاء القطبية الثنائية.


70 عامًا من التقلبات

لم يكن التعاون الباكستاني الأمريكي وليد الأمس، إنما هي شراكة بدأت عام 1947. وعلى ضوء القطبية الثنائية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انضمت باكستان إلى المحور الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ولعبت دورًا فاعلًا، في إسقاط الاتحاد السوفيتي.

بدأت أولى ثمار هذا التعاون بتوقيع البلدين اتفاقية في العام 1954 للمساعدة الدفاعية. نصت على تدريب واشنطن مجموعة من العسكريين الباكستانيين مقابل إنشاء أمريكا مجموعة استشارية للمساعدات العسكرية في إسلام آباد، واستمرت العلاقات بينهما في الصعود، لاسيما العسكرية، لتستأجر واشنطن عام 1956 المحطة الجوية في «بيشاور» للجيش الأمريكي لمراقبة الاتحاد السوفيتي.

لم تقف العلاقات عند هذا الحد، بل قامت إسلام آباد بإذابة الجليد بين الصين والولايات المتحدة التي دعمتها للحصول على القنبلة النووية لمواجهة غريمتها الهند، ومن هنا بدأت وتيرة العلاقات في التوتر لتفرض واشنطن في عام 1976 عقوبات على باكستان.

يتوقف التقارب والتباعد الأمريكي الباكستاني على مدى مواجهة أمريكا تهديدات حيوية في جنوب آسيا

عادت العلاقات مجددًا في عام 1979، مع الغزو السوفيتي لأفغانستان، لحاجة المعسكر الغربي لباكستان. فبدونها لن يمكن التصدي للتغول السوفيتي في منطقة جنوب آسيا، ولم تقدر الكتلة الغربية على خوض مواجهة مباشرة مع السوفيت، لتتحول باكستان إلى نقطة انطلاق لوكلاء أمريكا ضد السوفيت، حتى تم دحرهم في 1988. وخلال هذه الفترة حصلت إسلام آباد على مساعدات ضخمة، بلغت 4 مليارات دولار في 1987 فقط، ولتتحول إلى أكبر متلقٍ للمساعدات الأمريكية بعد دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وفي عام 1992، حينما كان الاتحاد السوفيتي ضمن ضحايا التاريخ، أدرجت أمريكا باكستان على قائمة الإرهاب، بسبب نزاعها مع الهند، واستمرت العلاقات في التذبذب، إلى أن جاء التدخل الدولي في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، واحتاجت أمريكا مجددًا إلى الصديق القديم، الذي لم يتعلم من دروس الغدر الأمريكي وفتح قواعده وبلاده مجددًا مقابل مساعدات مليارية بلغت منذ بداية التدخل وحتى عام 2011 أكثر من 20 مليار دولار.

يكشف هذا السرد التاريخي أنه طوال 70 عامًا ظلت إسلام آباد حليفًا أمريكيًا، تزداد حدة التقارب مع احتياج أمريكا لها، فنجحت في دعمها لإسقاط السوفيت بأفغانستان، ولجأت إليها لإسقاط نظام طالبان، لكن هذه المرة لم تستطع واشنطن إسقاط نظام بدائي ما زال يسيطر على حوالي 40% من أراضي أفغانستان رافضًا التفاوض مع الولايات المتحدة، ومعلنًا تمسكه بانسحابها الكامل من كابُل.


لماذا انقلب ترامب على باكستان؟

ليست هذه أول مرة يهاجم فيها ترامب باكستان؛ ففي أغسطس/آب 2017 أعلنها مصدر تهديد في استراتيجيته الجديدة لمنطقة جنوب آسيا، التي نصت على حسم حرب أفغانستان عن طريق إرسال مزيد من العسكريين والضغط على باكستان لإنهاء دعمها للجماعات المسلحة، مثل شبكة «حقاني» التي تتعاون مع حركة طالبان في مهاجمة القوات الأمريكية، وهدد بقطع المساعدات عن إسلام آباد.

وبالفعل أوقفت واشنطن مساعدات عسكرية بقيمة 255 مليون دولار لباكستان بداية الشهر الجاري، تلاها تعليق مساعدات أمنية للقوات الباكستانية، قُدرت بملايين الدولارات، لم تفصح واشنطن عن قيمتها، لكن طالبت وزارة الخارجية الأمريكية باكستان في بيانها يوم الرابع من يناير /كانون الثاني الجاري، «بتحرك حازم» ضد فصائل طالبان الموجودة في باكستان بجانب شبكة «حقاني».

لم تكتف واشنطن بذلك لتعلن في اليوم ذاته وضع باكستان على «قائمة المراقبة الخاصة»، التي تتهم إسلام آباد بارتكاب انتهاكات خطيرة للحرية الدينية. ووفق هذا التصنيف قد يتم فرض عقوبات على الدولة المشمولة بهذه القائمة، وبالتالي التمهيد لدخول مرحلة العقوبات، وليس فقط تعليق المساعدات. فترامب يريد مقابلًا لما تقدمه بلاده لغيرها من مساعدات.

لا ترجع العقوبات الأمريكية على باكستان لدعمها الجماعات المسلحة المناهضة لواشنطن، إنما يرجع جزء كبير منها إلى الضغط عليها لوقف تهديداتها لحليف ووكيل أمريكا الجديد، الهند، التي تعدها واشنطن لتكون رأس حربة في مواجهة صعود التنين الصيني. ولهذا حين أطلق ترامب استراتيجيته الجديدة لجنوب آسيا خرجت الهند لتعلن دعمها بشدة، لأن في ذلك فرصة لإضعاف غريمها التقليدي الذي خاضت ضده ثلاث حروب.

وتحاول الهند أن تحل محل باكستان في أفغانستان، بعدما فقدت أمريكا الثقة بحليفها التقليدي. فرفعت نيودلهي استثماراتها في كابُل إلى 3 مليارات دولار، وتريد أن تتبع استراتيجية لتطويق باكستان مستفيدةً من الدعم الأمريكي والحاجة إليها أيضًا. فواشنطن لا يمكنها الانسحاب دون تحقيق أهدافها بالتعاون مع وكيل قوي يحفظ مصالحها في هذه المنطقة التي تخشى الانقضاض الصيني عليها عن طريق باكستان.

كذلك جاء انقلاب ترامب على باكستان نتيجةً للتعاون المتصاعد مع روسيا، العدو القديم لإسلام آباد، فموسكو تريد تقويض الوجود الأمريكي في جنوب آسيا القريب منها، بالتعاون مع الصين وإيران وباكستان وتركيا، لذا خرجت موسكو سريعًا لتعلن رفضها لاستراتيجية ترامب الجديدة هناك، ورفضها الاتهامات الموجهة لباكستان، وكذلك فعلت الصين وتركيا.

تريد موسكو توظيف الأداة التي سقط بها اتحادها على يد الأمريكيين، فقد نالها نصيبها أيضًا من الاتهامات الأمريكية بتوجيه الدعم لحركة طالبان عسكريًا وماليًا، ولن يمكن لها تحقيق ذلك بفعالية دون التعاون مع باكستان.


صديقك وقت الشدة

تسارع الصين كل مرة في الدفاع عن باكستان ضد الاتهامات الأمريكية؛ آخرها كان رفضها لتصريحات ترامب، ولم يكتف الطرفان بذلك، بل وقعا اتفاقًا جديدًا من شأنه تقويض النفوذ الأمريكي في باكستان، وهو إعلان إسلام آباد استخدام اليوان الصيني في المعاملات المرتبطة بالاستيراد والتصدير والأنشطة الاستثمارية.

يأتي القرار بالأساس ليس ردًا على الخطوة الأمريكي فحسب، وإنما لدعم الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، وهو مشروع تبلغ كلفته 54 مليار دولار، تم إطلاقه في عام 2013 لربط غرب الصين بالمحيط الهندي، حيث سيمر الطريق من منطقة «شين جيانغ» الأيغورية في الصين إلى ميناء غوادر الباكستاني، ما يتيح للصين الولوج بسهولة إلى دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، وذلك ضمن مبادرة «الحزام والطريق»، التي تخشاها الولايات المتحدة، وتريد عرقلتها.

اقرأ أيضًا:الحزام والطريق: الصين ولعبة السيطرة على مفاصل العالم

لم يسارع كثيرون لإدانة الاتهامات الأمريكية لباكستان سوى الصين، تلاها الرئيس التركي «رجب أردوغان»، الذي اتهم واشنطن بالتدخل في باكستان وكذلك إيران، على خلفية الاحتجاجات الدائرة الآن في طهران ضد النظام، فتركيا تخشى من سقوط إيران حليفتها، وكذلك تتخوف من استهداف ترامب لإسلام آباد شريكتها أيضًا.

كذلك عقب إعلان ترامب الاستراتيجية الأمريكية في جنوب آسيا، سارع «قمر جاويد» -رئيس الأركان الباكستاني- إلى زيارة إيران في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. قيل وقتها إن الزيارة لتنسيق البلدين جهودهما في ضبط الحدود، لكن الأمر أبعد من ذلك، فكلاهما متضرر من الوجود الأمريكي في أفغانستان، ويعملان مؤخرًا بالتنسيق مع روسيا في جعل هذا الوجود مكلفًا لواشنطن وحلفائها.

وعرض الجانب الإيراني على الضيف الباكستاني مساعدتهم في إنشاء قوات شعبية على غرار الحرس الثوري لمواجهة ما أسماه بـ«الاستكبار العالمي»، ويقصد بذلك الولايات المتحدة، ولم يمنع توتر العلاقات الإيرانية السعودية باكستان من تعزيز علاقتها بطهران لارتباطهما بمصالح مباشرة.

ويلاحظ غياب ردة الفعل العربية أو الإسلامية -باستثناءأنقرة ذات العلاقات المباشرة مع باكستان- على الاستهداف الأمريكي، فهي عضو في التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب. فكيف تُتهم به دون وجود دعم لها ولو دبلوماسي؟ كيف صمتت السعودية وهي التي تزج باسم باكستان في كل تحالفاتها «الهشة»؟

التخلي السعودي الخليجي الواقع الآن مع باكستان ليس في صالحهم، فخروج باكستان من عباءتهم أو تقليل علاقتها بهم خطر عليهم، ويأتي في سياق تساقط الشركاء، كما جرى ويجري مع تركيا والسودان بخلاف قطر.


إلى متى؟

تخاذل حلفاء باكستان العرب عن دعمها في مواجهة أمريكا سيقوض العلاقات لصالح أطراف أخرى، بما يعني خروجها من الدائرة العربية

ما تخشاه الولايات المتحدة ليس الدعم الباكستاني للجماعات المسلحة، إنما تحول باكستان إلى وكيل وشريك لأعدائها ما يقوّض نفوذها في منطقة جنوب آسيا، التي اعتبُرت باكستان مصدر تهديد لها، بعد أن كانت الشريك والصديق طوال الأعوام والحروب السابقة.

قد تكون الخطوة الأمريكية أداة للضغط على باكستان لوقف تعاونها مع روسيا والصين في جنوب آسيا، في ظل صراع جيوسياسي على هذه المناطق، فالولايات المتحدة تدرك أنه لا حل لورطتها في أفغانستان دون باكستان كما فعلت من قبل في خروج الاتحاد السوفيتي، ولن تستطع الهند أن تحل محل إسلام آباد في هذا الأمر، خاصة في ظل التنسيق الواضح مع خصوم واشنطن.

ليس من المستبعد أن يستمر الجفاء الأمريكي الباكستاني لكنه لن يصل إلى مرحلة اللاعودة، فكلاهما بحاجة إلى الآخر. كذلك من المرجح أن تتدخل السعودية لإنهاء التوتر أو على الأقل لإدارته، فهي لا تقدر على فقد شريكٍ جديد خلال هذه المرحلة الحرجة، رغم رفضها دعمها في حرب اليمن، التي تقترب من عامها الثالث، وسط اتساع دائرة الفشل والخسائر.

ولم يقتصر رد فعل باكستان على الانقلاب الأمريكي تجاهها بتعميق علاقتها بالصين، إنما وجهت رسالة عسكرية لواشنطن وحليفتها الهند بأنها لن تنصاع لهما، لتعلن باكستان إجراء تجربة ناجحة على صاروخ «حربة» بحري مجنح كروز، قادر على إصابة الغواصات والسفن والأهداف على سطح البحر والأرض، وهو مطور محليًا.