في مجتمعٍ أمي خالٍ من العلوم التطبيقية فضلاً عن العقلية، توفي رسول الله تاركاً إرثاً شفاهياً يحتكم إليه المسلمون كلما اختلفوا؛ تجنباً لأي ابتداع أو تغيير «للمحجة البيضاء» التي تركهم عليها حتى لا يضلوا، وسرعان ما تم جمعها وتدوين النص التأسيسي (القرآن)، ثم أُلحقت به (السنة) مشكّـلةً خط الدفاع الثاني للدين، لتبدأ بذور فكرة الاحتكام للماضي ولو بصورة غير واضحة لقرب العهد وتشابه الأحوال.

لكن المسلمين لم يكتفوا عند ذلك الحد ليمتد التدوين -وبالتالي ترسيخ سلطة الماضي- للمزيد من تراث السلف الصالح من صحابة وأهل مدينة وتابعين ثم فقهاء.. لتظهر في المحصلة فكرة النظر في الماضي السلفية الميّالة بطبعها لتهميش العقل ودوره في مقابل تأصيل مركزية النقل واتباع السلف. فالعرب لم يعرفوا مفهوم العقل Reason بمعنى الملكة العقلية الواعية، لأن «العلوم العقلية لم تظهر في الملّة إلا بعد أن استقر العلم كله صناعةً بالعجم وتركتها العرب» [مقدمة ابن خلدون، ص748] كما قال ابن خلدون.


العقل في القرآن

مشتقات العقل في القرآن (يعقلون، تعقلون، يعقلها، نعقل، عقلوه… إلخ) بلغت تسعاً وأربعين مرة، ليس منها الجذر نفسه «عقل» ولا مرة واحدة! وبالعودة إلى معاجم العرب [لسان العرب، فصل العين المهملة]، نجد معناه (أي العقل) هو المنع أو الربط فحسب، وما دون ذلك توسع.. فالعقل (يربط) صاحبه عن الخطأ. وقد سميت الدية عقلاً لأن الإبل تؤخذ في الديات معقولة (مربوطة) بفناء دار المقتول. واليوم يربط رجال الخليج العقال ليثبت عمّتهم ويمنع سقوطها. إلى غير ذلك من التوسع الذي لخصه ابن دريد بقوله: «كل شيء منع من شيء فهو عقل» [الاشتقاق، ص298].

«والعقل بهذا المعنى لا يدل على المعرفة النظرية، أو العلم المجرد» كما تقول د. فريدة زمرد أستاذة الدراسات المصطلحية، و يؤكد زميلها د. البشير فالح أن: «العقل في القرآن باعتباره ذاتاً وجوهراً لا وجود له، ولكنه موجود باعتباره (وظيفة) وفاعلية يقوم بها الإنسان». لذلك ارتبط العقل بالقلب والصدر بدلاً عن الرأس، رغم أن ابن خلدون يقول إن «الفكر من الدماغ».. بل يحدد موقعه بالضبط «في البطن الأوسط من الدماغ» [المقدمة، ص736]، لكننا نجده دائمًا في القلب: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا»، «لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا * فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ». وفي السنة كذلك «واعقل عقل قلبك» «وليعقل قلبك» « قد أفلحَ من جعلَ اللَّهُ قلبَه واعيًا» [سنن الترمذي 2860، حلية الأولياء 2/328، حلية الأولياء 5/246] . فعدم ورود العقل اسماً ولا مصدراً يدل على أنه مفهوم وظيفي وفاعلي وليس مفهوماً ذاتياً أو جوهرياً.


التطور الدلالي للعقل

تحميل كلمة العقل لهذا المصطلح لم يتم إلا بعد ترجمة كتب فلاسفة اليونان التي بدأها أبو جعفر المنصور في القرن الثاني الهجري. يقول د.البشير: «فقد تُرجم المفهوم اليوناني اللوغوس logos إلي العربية واختاروا له مقابلاً في العربية هو «العقل» عسفاً وانتحالاً دلاليًا»، فكانت نتيجته ظهور المعتزلة بإعلانهم «العقل أول الأدلة». ولاحظ السيوطي مبكراً هذا الخلل فقال: «لم ينزل القرآن ولا أتت السّنة إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال، لا على مصطلح اليونان، ولكل قوم لغة واصطلاح» [صون المنطق، ص15].

في هذا السياق يمكننا فهم قول الشافعي: «ما جهل الناس واختلفوا إلا بتركهم مصطلح العرب وأخذهم بمصطلح أرسطو» [صون المنطق، ص15]، «وحكمي فيهم أن يُضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة» [سير أعلام النبلاء 10/29]. فاعتماد المعتزلة للعقل كحجة قائمة بذاتها كان سابقة لم يعرفها الفقهاء، ولا حتى أهل الرأي الذين لمجرد بُعدهم عن مصدر الحديث كانوا مضطرين للقياس عليه، بعكس المعتزلة الذين اعتزل مؤسسهم (واصل بن عطاء) مجلس الحديث نفسه طوعاً واحتكاماً للعقل. فسُموا معتزلةً لذلك.

واستمر التنقيب في تراث اليونان ستة قرون لاحقة حتى بلغ مداه في عهد المأمون الذي اعتنق الاعتزال نفسه وحمل الناس عليه بالقوة، فازدهرت العلوم العقلية والفلسفة من جهة، وازداد تشنيع الفقهاء عليها من جهة أخرى. فيقول ابن الصلاح: «الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة» [فتاوى ابن الصلاح، 1/210].


العقل يفرض نفسه جزئيا

تحت هذا الضغط العقلي بدأ الفقهاء بمهادنة العقل ورد شيء من الاعتبار إليه، فنجد ابن الجوزري الحنبلي مثلاً يقول: «كل حديث يخالف المعقول فاعلم أنه موضوع» [الموضوعات، ص106]، وهي عبارة تبدو صادمة لكنها ليست سوى مراضاة للعقل وترفّع عن ذمّه الذي أصبح مشيناً في “عصر العقل» ذاك.

والتظاهر بتقديم العقل هذا كان شائعاً ونجده حتى عند الغزالي حين يقول: «الشرع لم يتبين إلا بالعقل» [معارج النفس، ص73] ويتحدث كثيراً عن فضله في كتاب إحياء علوم الدين [باب شرف العقل]، بل يؤلف كتاب «القسطاس المستقيم» محاولاً استخراج قواعد المنطق من القرآن، لكنه يعود ليلتف على نفسه لأن «العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر» [الاقتصاد في الاعتقاد، ص10]. «فالعقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه» [المستصفى، ص6].

ابن تيمية كذلك واصل مشوار رد الاعتبار للعقل بنفس التحفظات قائلا إن «دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم» [مجموع الفتاوى، 19/160]، وهي عبارة تكفي لبيان شيوع ذم العقل بين مسلمين، مما اضطر ابن تيمية رغم حنبليته لأن يكتب «درء تعارض العقل والنقل»، مبيناً فيه أن «العقل الصريح لا يخالف النص الصحيح»، وهو نفس موقف تقديم النقل على العقل، ولكن بكلمات ألطف.


العقل والدين اليوم

محاولات المفكرين الإسلاميين المعاصرين -حسنة النية- باستنطاق القرآن لمفردة العقل بمعناها الحديث Reason في سبيل دفع احتقار السلفية للعقل، هي محاولات غافلة عن سياق نزول القرآن الذي غاب فيه هذا المفهوم أصلاً، وامتداد للموقف الاعتذاري السابق. وهو موقف فضلاً عن «إعجازيته» يحمل لغة القرآن الخطابية إلزامات اللغة الفلسفية الثقيلة. وقد لاحظ ابن رشد ذلك بأن «طرق التصديق لأكثر الناس هي الخطابية، والخطابية، أعم من الجدلية…وكان الشرع كل مقصوده الأول العناية بالأكثر» [فصل المقال، تقسيم المنطق والبرهان، ص56].

بينما الاعتراف بغياب مفهوم العقل في القرآن، وبالتالي في الدين، يصونه عن ميدان الجدل والشكوك، فالدين دائما يطالب أتباعه بالإيمان، والإسلام بالذات يعرف نفسه أنه الاستسلام والانقياد لله، والصحابة لمّا آمنوا بالرسول لم يطلبوا منه حجاج عقلية، والأنبياء ليسوا فلاسفة ولا كتبهم بلغة أهل المنطق والفلسفة. وهذا ما انتهى إليه حجة الإسلام الغزالي بتأكيده على ذاتية الإيمان والمعتقد الديني في آخر حياته قائلا: «فلقد تعثرنا في أذيال هذه الضلالات مدة لشؤم أقران السوء.. ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المجردة والتقسيمات المرتبة فقط بعد عن الإنصاف» [جواهر القرآن، ص61. فيصل التفرقة، الفصل العاشر، ص75].

هذا الموقف نفسه ما حدا بالشيخ عبد الباري الندوي، أستاذ الفلسفة الحديثة في الجامعة العثمانية، للقول [الدين والعلوم العقلية ص63، 65، 72]:

إن العقل يعجز عن إثبات الدين كما يعجز عن إبطاله، ولا يشكل ذلك عاراً للدين أو عيباً له، وإنما هو دليل على استقراره، وميزته.. ولم يلحق بالدين ضرر من عداوة الحكماء والفلاسفة مثل ما لحق به بسبب أصدقائه الجهلاء وهم المتكلمون، وهم لا شك أعداؤه الحقيقيون، وإني أقول ولا أخاف في ذلك لومة لائم، إن الجزء الكبير من علم الكلام يستحق أن يُحرق كلياً وعلى الأكثر يستحق أن يكون في متحف ليكون عبرة ودرسا للآخرين. فإن علم الكلام عدو مبين للدين، وإن أنصار الدين الأغبياء من المتكلمين هم أشد خطراً وعداءً من أعداء الدين الحكماء من الملحدين والماديين.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.