(1)

جدران غريبة… استيقظتُ على فراشٍ لم يعتد ظهري التقلُّب عليه. قبل أن تُصبح أجفاني في كامل انفتاحها، سمعت المرأة الطيبة تستقبل أمي.

لا مفرَّ، نزلت من فوق السرير، وقفت. ملابسي مُكرمشة، فردتُها، وانتهيتُ من دعك عيني. الآن جسدي مستعد للخروج.

بلا حديث، لَمحتني أمي، انتفضت وكوَّمت ذراعاها جسدي بشدة، كان الاحتضان أكثر حرارةً من المرة الماضية.

تلك المرّة، جاءت بعدما سمعنا رجل أمن البوابة ينادي: «المسافرون على طائرة [ونطق اسم البلدة التي تنتظر وصولي] يتفضلون بالدخول». قالها بعد أن التقطنا أنا وأمي وأختي وامرأة عمي بعض الصور، لم يكن عمي حاضرًا في كلِّ الصور معنا، بسبب ذهابه من حينٍ لآخر لمعالجة سيارته المركونة بالقرب منَّا، لم ترحم مطبات الطريق السيارة من الاصطدام، كذلك الشتاء القارس كان مزعجًا للغاية.

نظراتُ أمي وأختي وعمي وامرأته كانت تودعني، لهفة حزينة من أمي وأُختي. أصدقُ المشاعر تفترشُ بوابات المطارات. السماء بدأَت تشوِّش مشاعرنا بمائها مرَّةً أُخرى، ماءٌ يرافقه قطع ثلجٍ تضيءُ سواد الفجر.

أمسكتُ حقيبتي من يدها، جُرجرتْ معي بواسطة عجلاتها الصغيرة. دموعٌ ممتزجة بماء السماء، في عيني أمي وأختي التي تراقب خطواتي، حتى ابتلعني العمران من أمامهما.

(2)

الخامسة فجرًا، بدايات شقشقة صباح يوم الجمعة. جواز سفري صفحاته بيضاء، أنهيت عملية التفتيش، الحقيبة الكبيرة صاحبة العجلات ودعتني، بينما تشبثتْ أصغر منها بكتفي.

أخذت قلمًا وملأت استمارة السفر، لم أكن أعرف تلك الخطوة، لم أكن أعرف أي شيءٍ على الإطلاق. لكن، كان الأمر سهلًا. أنهيتها سريعًا، وساعدت بعضًا من المسافرين أيضًا، لنصطف طابورًا.

ضابط الجوازات رفيع، شاب ثلاثيني وجهه أبيض، فيه رائحة من الوسامة، شممتها عندما حدق في عيني مُتسائلًا: ما سبب الزيارة؟

أجبت بجملة واضحة وكاملة بلا فصلة: سياحة لمدة أسبوعين ومعي تذكرة العودة ومعي حجز الفندق.

رد سريعًا: مَعك كم مِن الدولارات؟

أجبت: 1500 دولار. كذبت كان معي 1499 دولارًا، بعد أن أعطيت أحد رجال التفتيش دولارًا واحدًا كنوع مِن الدخان.

ثم وضَّح لي أو ربما عقَّد الأمور: يلزمك 2000 دولار للسفر.

جادلته: لم تقل السفارة لي هذا الأمر. أكملت من تأليفي: قالوا لي يلزمك 1000 دولار فقط، وأنا معي 1500.

تأسَّف لعدم السماح لي.

تمسَّكت بحقِّي في السفر، تحججَّت بالعاطفة، وبدأت سؤاله: ما ذنبي؟ أيُرضيك أن تضيع عليَّ تذكرة السفر؟

قال لي: انتظر وسنتكلم بعد انتهاء الصف. والذي كان يتابع جدالنا بتركيز.

رأيت شابًّا جالسًا بجوار الصفِّ، ضخم الجسد ملامحه صلبة.

قال لي: تعالَ، اجلس، وبصوتٍ منخفض سبَّ الضابط، وأكمل: الضابط – وسبَّه مرَّةً أُخرى – لم يختم لي.

قلت: خير، سنُقنعه بعد انتهاء الصف.

رنَّ هاتفي وأسكته: لم أختم جواز السفر يا أمي، توجد مشكلة بسيطة، سأحلُّها مع الضابط، لا تتصلوا بي، سأخبركم حين يحدث جديد.

قالت: نحن في انتظارك بالخارج، لا تقلق.

لم أهتم بكلمات أمي الأخيرة، فقد تشتت تركيزي بفتاة، عودها ممشوق، شعرها مُجعد يتخلله خصلات مصبوغة باللون الأصفر المَحروق.

قالت لـي الفتاة: سأعطيك 500 دولار، أنا ذاهبة إلى دبي، في خلال دقائق، بعد أن أختم جواز سفري، سأشير إليكَ من بعيد، تأتي وأُعطيك المبلغ دون أن يرانا أحد، وبِدورك تُريه للضابط حتى يختم لك بالسماح، ثم سأنتظرك بعد البوابة لتردَّ المبلغ لي.

قلت لها بلهفة حب: اتفقنا. وبامتنانٍ أعطيتها جزيلًا من الشكر.

(3)

مَشت ونِن عيني يُراقبها من بعيد، تبين لي أن عودها ليس ممشوقا، أو فرنساويًّا كما ظننته.

وصلَتْ إلى شباك الضابط، ختمتْ جوازها بهدوء، برشاقة تعدت حاجز التفتيش.

تتبعتها لكنها، لم تنتظرني وذهبت. لم تعطني 500 دولار، تبدَّدَ الحلم مرَّةً أُخرى. في هذه اللحظة لو كُنت حبيبها وفارقتني لم أكن لأحزن مثل حزني وقتها.

عُدتُ إلى صديقي الجالس، سردت له خدعة الفتاة، فَبدوره سبَّها، هو محترف للسب، سيسبني شخصيًّا بعد دقائق. أظن ذلك. انتهى الصفُّ، وذهب الضابط إلى حجرته ونادانا بالإشارة.

ذهبنا، مِن عادتي التمهل، فكان حديثه الأول مع الشاب، تجادلا لمدة 5 دقائق، وأنا مستمع صامت، تحوَّل الجدال إلى المحايلة من الشاب، ثم إلى الرجاء، وما زال الضابط يرفض. حتى يئس الشاب وتمسمر مكانه وكأنه شُلَّ.

نظر الضابط لي، فجاء دوري.

بدأتُ بالقَسَمِ: والله لم يخبروني في السفارة أن السفر يحتاج إلى 2000 دولار، وأكملت أسبوعين فقط، 1500 دولار تكفي. لم أصمت، تابعت بلينٍ: حضرتك، أنا كَأخيك الأصغر منك، لا تُضيِّع عليَّ السفر والتنزُّه وحق التذكرة. وابتسمت.

ردَّ عليَّ الابتسامة، وقلَّب الدفاتر بيده، وأمسك ورقة وقرأها في سرِّه ثم تلا: بالفعل لا يوجد في اللائحة شرط 2000 دولار.

قلبي رقص، وأذني مُنصتة للبقية: انتظرني عند الشباك، سآتي على الفور وأختم لك جوازك للسفر.

أنا الآن في طريقي إلى الشباك، هاتفتُ أمِّي بكل ثقة وكأني دبلوماسي له تاريخ في السفر: قد حُلَّ سوء التفاهم. غادروا أنتم، مع السلامة.

ختم لي. شكرته ثلاث مرات، وتجاوزت بوابة التفتيش، لأنتظر في آخر صالةٍ قبل أنَّ نصعد إلى الطائرة. صوت الميكروفون يُنبه: الطائرة ستقلع الساعة الثامنة بدلًا من السابعة، وذلك بسبب الأمطار والثلوج المتساقطة بغزارة.

لا يهمني، إن شا الله تقلع العاشرة. قلتُ في بالي.

(4)

جلست أتطلع في الناس، لباسهم وأجسادهم، لم تعثر عيني على الفتاة التي خدعتني، ربما غادرت. أخرجت هاتفي الجديد، وبدأت في إرسال عدة رسائل نصية لأصدقائي لإخبارهم أن كل شيء يمكننا أن نصفه بأحسن حال.

وجاءت الثامنة، وصَعدنا إلى الطائرة، أغلب المسافرين ماركسيون دون أن يعرفوا، أقصد عمَّالًا، يكدحون هناك في مزارع القطن، الشِّتَل، محلَّات الجزارة، شركات البناء، وغير ذلك.

في أوَّل عشر دقائق، بعد الانتهاء من ربط حزام الأمان، التقطت بعض الصور، وجهي كان أبيض باردًا، يشع منه الاحمرار، وعسليتان عيناي، وشعري مُبتلةٌ خصلاته.

حلَّقنا في الهواء، وطُمئنا جميعًا. نغزني الرجل بجواري، ثلاثيني العمر، وابتسم وصادقني: ما اسمك؟

أخبرته.

وعن المكان؟

أعيش في الإسكندرية.

وبدوري لاستكمال المصاحبة: وأنت؟

ردَّ: إبراهيم، من كفر الشيخ، وأعمل هناك في محل للجزارة.

أجبت على سؤاله: لا أعمل هناك، بل سفري سياحة لمدة أسبوعين فقط.

وتحدَّثنا عن بعض الأمور الأُخرى، منها أني وضحت له أني أعرف أن العمالة المصرية هُناك تُقدر ببضع مئاتٍ من الآلاف، وأن أوضاعهم في المجمل غير جيدة.

حديثنا لم يدُم، عمَّ الصمت، قطَعه شرائح من الجبن الرومي والعصير الذي قدمته لنا مُضيفة مصرية شابة جميلة.

(5)

ممر طويل، نسير فيه إلى قاعةٍ واسعةٍ، لم ترَ عيني آخرها، اصطففتُ مرة أُخرى منتظرًا.

ضابط شاب أمسك جواز سفري وقال لـي: غرض الزيارة؟

قلت: سياحة لأسبوعين، وبيميني أعطيته تذكرة العودة وحجز الفندق.

تفوَّه: يمكنك أن تستريح هناك قليلًا، وأشار بيده.

حلَّ بلساني بداية قلقٍ: لا مشكلة.

ذهبت وجلست، وقلت: لا مشكلة، ربما سيسألوني عدة أسئلة، سأتجاوز كل ذلك، وأَعبُر بهدوء. هامستُ أذني بذلك.

تجوَّل من حولي عدَّة زائرين، يتحدَّثون الإنجليزية، شبابٌ وفتياتٌ، جميعهم يلبسون بنطالاتٍ وتنورات قصيرة، يضحكون بكل ثقة، لم يوقفهم أحد، سائحونَ ربما.

ضابط ينادي اسمي، ذهبت إليه، اصطحبني إلى غرفة، ليستجوبني ضابط آخر. قال بحزمٍ:

ما اسمك؟ كم عمرك؟ ماذا تعمل؟ هل أنتَ متزوج؟ من تعرف هنا؟ ما سبب الزيارة؟

كل الأسئلة، بهدوء أجابت عليها. لم يقل شيئًا آخر، فزَّ من جلوسه ومشى، ومشيت معه إلى غرفةٍ في آخر القاعة، لنستقر معًا أمام ضابط آخر. أعطاه جواز سفري، هذا الآخر نظر لي وقال: لن تدخل البلد، وختم على الجواز بأنه غير مسموح.

رددنا على بعض كثيرًا.

– كيف هذا؟

– غير مسموح.

– ما المشكلة؟

– أنتَ ممنوع.

– من حقي أن أعرف السبب؟

– لا أعرف.

سألته: ما الذي سيحدث؟

أجاب بانتصارٍ: هناك طائرة عائدة إلى مصر الساعة 3 عصرًا، ستعود بداخلها.

لم أرد. لاحظ هاتفي في يدي، ازداد بلاهةً وظلمًا وطلب مني أن أسلّمه الهاتف ليضعه في الأمانات وسوف يردُّ لي عند ميعاد الترحال.

قلت له سأُهاتف أهلي وأخبرهم بعودتي.

أوقفني عند الخروج من الغرفة، ليمنعني مُحذرًا: حدثهم هنا داخل الغرفة، ليس مسموحًا لك بالخروج.

بكلِّ غيظٍ وتيه، وقفت داخل الغرفة وأخبرتُ أخي أنِّي عائد. خوفًا عليها من القلق، اقترحت عليه ألَّا يخبر أمِّي إلَّا بعد وصولي، وهذا ما لم يفعله، أخبرته أيضًا أنِّي بخير، ولا أعرف سبب منعي من الدخول، ولكن خير.

(6)

هذا الضابط الميِّتة مشاعره رآني انتهيت، صمم على أخذ الهاتف، ناولته ما أراد، بعد أن تاهت عنِّي عبارات المقاومة والاحتجاج. لم يكتفِ، وجَّهني أن أدخل غرفةً أُخرى داخل الغرفة، لأستريح فيها.

نظرتُ من العَتَبَة، إذ أجساد مائلةٍ على الآرائك، وما تبقَّى منها مفروش على الأرض، وجوهٌ سمراء وخمرية وبيضاء، بقايا وَجبات غذاء تسدُّ النفس، وعلب عصير بائتة فارغة.

رجعت إليه: لن أدخل هذه الغرفة سأجلس هنا الساعات القادمة، في المكتب معك، أنا لست مُحتجزًا، صحت فيه بانفعال هادئ، هزَّ رأسه غير منتبهٍ لي، كان يتحدَّث مع أجسادٍ أُخرى.

جلست هشًّا في سكون، يدي عموديَّةً على ذقني، تخرقُ أحيانًا خصلات شعري الملفوفة. هؤلاء الحمقى يسألونني: سبب الزيارة؟ كررتُ لهم: سياحة، صاحب الكِرش الأبله أنهى الأمر بهذا الختم اللعين. ختم عدم المرور، هو لا يعرف أنَّه بذلك يقضي على محاولتي في الحب.

سبب الزيارة أنِّي أحبُّ امرأةً تسكُن في بلد هذا اللعين، جئت لكي أراها، لم أحسب في بالي تلك الكمائن المنصوبة لقلبي، فكرت أن أطلب الهاتف منه، وأرسل لها. لكن، ماذا سأقول؟ أحكي لها ما تعرَّضت له. أكتب أنَّ ضربة ختم هذا الخرتيت ليس أثرها على الورقة فقط.

تمر الدقائق. أَسرَني اليأسُ والحيرة. وقفت وسألت: الهاتف، قلت له سأحدث أهلي، جادلتُ رفضه وانتصرت وعاودت الجلوس.

تصفحت الهاتف، أتيت ببريدها الإلكتروني الذي يحوي حروف اسمها، بدأت أكتب:

عزيزتي
أتمنى أن تكوني بخير
أنا هنا في مطار البلدة التي تسكنينها، يحجبني هذا العمران عن رؤيتك، ويمنعني هذا الأبله من الوصول إليكِ، همي وعزائي في محاولتي الفاشلة.

هي لا تعرف أمر طلَّتي، وانقطع تواصلنا منذ عدَّة أشهر، أكتب لها أيضًا أنِّي أحبُّها، ستكون البَوحة الأولى. لا… لا… لن أكتب أبدا عبارةً كهذه، سأكتفي بهذا القدر، وفقط.

قاطعني نِداء الخنزير الذي ربما تكرهه زوجته: أعطني الهاتف، معك من مدةٍ كبيرة، لا أراك تتصل بأحد.

قاومته: أكتب رسائل.

وبسرعة، وبلا مبالاة، مسحت ما رسمت من مشاعري، وسلمت له الهاتف دون أن أُرسل.

بعد العصر، صعدت الطائرة التي قدِمت عليها صباحًا، ألا تحدث معجزة الآن؟ لم يمر الوقت هادئًا أبدًا. مُرحلون يتحايلون، فتياتٌ بعضهُنَّ جميلات يستخلصن أوراقهن، صخب يقتحمه هدوء، شاب طويل خمري اللون يلم حق تذكرة عودته، إذ هو محتجز منذ 11 يومًا، لانتظاره ثمن التذكرة الذي عصي على أهله دفعها. حكايات أُخرى. الأبله بدأ يبتسم لي، ابتسامة المنتصر.

عاتبتُ ضعفي: لماذا لم أثُر عليه، هل صعدتُ إلى قمة الاستسلام أمام أي سُلطة.

قالت لي المضيفة: اربط الحزام، وبصعبانية بليدة أضافت: أنتَ مرة أُخرى، رأيتك صباحًا واستنكرت: لماذا رحَّلوك؟

لم تنتظر إجابتي ومشت.

ليس عندي جواب من الأساس.

قال لي أخي عندما تعود بالسلامة اذهب عند قريبتنا، وبت عِندها هي في انتظارك. وفعلت.

صباح يوم السبت، بعد عِناق أمي الحار، وكأنني غبتَ سنين عنها، قالت السيدة صاحبة البيت: الحمد لله على سلامته، تتعوض إن شاء الله.

وأكملت وهي تتحرك من مكانها تسألني: نمت جيدًا؟ سأُحضر الفطور.

نظرت إليَّ أمي وهي تضحك، وكأنها انتصرت برجوعي إليها. وسألت مُطمئنة: احكِ لي، ما حدث؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.