بعد مشاهدة العديد من أفلام الجاسوسية أو Spy Thrillers، ربما تتساءل عن ماهية حياة هؤلاء الجواسيس؛ ماذا يحدث في حياتهم عندما لا يُطارِدون الأعداء، أو يتخلصون من مراقبة السلطات؟ كيف يبدون في منازلهم؟ هل هم مجرد وحوش أو حيوانات متعطشة للدماء؟ هل حب الوطن والوطنية مبرر كافٍٍ لمثل تلك الأفعال؟ وهل فعلاً كل شيء متاح في الحب والحرب؟

يجيب على ذلك Joe Weisberg، الضابط السابق في المخابرات الأمريكية CIA، والذي درس التاريخ الروسي في جامعة Yale العريقة، وقام بتأليف مجموعة من قصص الجاسوسية، ومنها مسلسل «The Americans»، الذي فاز بما يزيد عن 30 جائزة، من بينها جولدن جلوب وإيمي، وحصل على تقييم 8.4/10 على موقع IMDB.

في عام 2010، ألقت المباحث الفدرالية FBI القبض على عشرة جواسيس من روسيا، فيما عُرف بعد ذلك بـ Operation Ghost Stories. هؤلاء العشرة عاشوا في أمريكا لعقود كعملاء نائمين أو Sleeper Agents، يختبئون أمام الناس ويعيشون كأي أمريكي طبيعي، يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، بعضهم أنجب أطفالاً، وبعضهم تقلّد وظائف لفترة طويلة، ومن بينهم الزوجان ريتشارد وسنثيا ميرفي، المستلهم من قصتهم مسلسل The Americans.

عائلة طبيعية جدًا

عائلة من أربعة أشخاص، ليس لهم أصدقاء، وليسوا قريبين من أحد، الغموض صديقهم والخصوصية رفيقهم. أب وأم وطفلان في مقتبل فترة المراهقة. يعمل الزوجان معًا في وكالة للسفر، يقومان بتسهيل وحجز رحلات الإجازة لخارج البلاد، ويقودان حياة عادية للغاية، وروتين ممل يجعلهم على قمة الطبقة الوسطى، لكن هذا الهدوء في حياتهم يهتز عندما تنتقل عائلة جديدة للسكن أمامهم، على رأسها عميل في المباحث الفدرالية FBI، لماذا؟ ما دخلهم بالمباحث الفدرالية؟ حسنًا، هم جواسيس لصالح دولة أجنبية.

في منتصف السبعينيات والثمانينيات، وفى قمة التوتر السياسي أثناء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، يعيش الزوجان فيليب وإليزابيث في حي أمريكي بشكل طبيعي، ويمارسان عملهما في الصباح، لكن حينما يحل غطاء الليل، يتحولان إلى جواسيس لصالح الاتحاد السوفييتي داخل الأراضي الأمريكية، أو ما يُسمى بـ Sleeper Agents، يُطلق عليهم في المسلسل The Illegals، وهم مجموعة من الجواسيس تم زرعهم داخل الولايات المتحدة وتدريبهم على محاكاة الحياة هناك، على أن يقوموا بالتجسس لصالح بلادهم لـ 20 عامًا أو أكثر، بينما تستمر حياتهم بشكل عادي كمواطنين في أمريكا، لكن بالطبع لا تسري الأمور طبقًا للخطة، وتبدأ حياتهم في الانقلاب رأسًا على عقب تدريجيًا.

أهم ما يميز المسلسل في رأيي، البراعة في تنفيذ فكرة العائلة العادية والحياة الطبيعية، والمشاكل التي تعاني منها العائلة في الحياة اليومية، والكفاح من أجل التعامل مع أطفالهم المراهقين، الأب يلعب الهوكي مع ابنه أمام المنزل، ثم يتناقشون عن صعود أمريكا للقمر ويفخرون بالإنجاز كعائلة أمريكية وطنية، ثم يُطارد الأعداء ليلاً ويغتال مسئولين مُعاديين. تذهب الأم لتعد طعام الغذاء، بينما تحتجز أحد الاشخاص في صندوق السيارة. أمّا عن الخروج في منتصف الليل أو مغادرة المنزل فجأة وعلى عجالة، فيوجد دائمًا زبون ما لوكالة السفر قد تأخرت رحلته، أو فَقَدَ حجز الفندق خاصته ويجب عليهم مساعدته. يصفهم أحد شخصيات المسلسل بـ:

هي امرأة جميلة، ولديها طفلان وعائلة عادية، لا يمكنك أن تشك فيهم أبدًا.

لكن ورغم ذلك يوجد دائمًا حاجز بين عائلة الجواسيس والمُشاهِد، بالرغم من أنهم يظهرون كأشخاص مثاليين، لكن لا يمكنك أن تتخلص من إحساس الشك تجاههم، كلما نظرت في وجه فيليب أو إليزابيث، ترى أن شيئًا ما خاطئًا، يوجد سر ما خلف تلك الابتسامات والملامح الطيبة، تشعر أنهم يخدعونك ويضحكون على ذلك داخلهم.

يظهر ذلك بالأخص مع فيليب، حيث قدم الممثل الويلزي «ماثيو رايس» دورًا مميزًا، دون أن يتكلم أو يقوم بأي أداء مفتعل، فحتى قبل أن تتعرف على جرائمه أو العمليات التي قام بها، لا تشعر بالاطمئنان تجاهه أبدًا، ويظهر على غير حقيقته، حتى صوته يثير الريبة، ولكنته الثقيلة تمامًا مثل شخصيته في المسلسل، حيث اللهجة الأمريكية ليست لغته الأم أو حتى الإنجليزية، وربما يعود ذلك لحسن اختيار الممثل للقيام بالدور، أو ربما تكون صدفة.

يصفه جارهم الجديد من الـ FBI في الحلقة الأولى:

يعجبني هذا الرجل، لكن لا أعلم، هناك شيء ما خارج عن المألوف بخصوصه، لكن أعتقد أنه رجل جيد.

بعيدًا عن تحيز هوليوود

تمتلك هوليوود وصناعة الفن بشكل عام في أمريكا، رصيدًا متزايدًا من التحيز والمبالغة في الأعمال التاريخية، خاصة في حقبة الحرب الباردة، حيث تتعامل هوليوود مع خرافات هذه المرحلة عوضًا عن التعامل مع الحقائق التاريخية، أو على الأقل الأحداث الأقرب إلى الواقع. حيث يمكن أن يقوموا بتغيير الحقيقة بالكامل من البداية، فلابد أن يكون الاتحاد السوفييتي هو الشر الأعظم الذي يريد تدمير العالم، وأي ضابط أو عميل روسي هو وحش كاسر لا يمكن التعامل معه.

هذا المبدأ هو نتاج بروباغندا الحكومة الأمريكية للتنكيل بكل معارضيها، وكل من يخرج عن طوع قواعدهم، مثل القوائم السوداء في هوليوود في الخمسينيات، والتي وُضعت لمنع الفنانين والكُتّاب والمطربين من العمل، إذا شكّوا أنهم شيوعيون أو متعاطفون مع السوفييت، واستمر نفس النهج تقريبًا طوال الحرب الباردة بشكل أو بآخر، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكن ذلك أدى لزيادة الإشاعات والخرافات، التي كان بعضها حقيقة أو أفظع حتى، وأصبحت جزءًا من الرؤية العالمية لتلك الحقبة التاريخية بالخصوص.

لكن ما يتجاهله كل ذلك ويهتم به المسلسل، أن الروس أو السوفييت بُشرٌ مثلنا، وبالرغم من وحشية دولتهم والخطر والرعب الذي مثّلوه للعالم، إلا أنهم كانوا بشرًا، يعانون من نفس المشاكل ويعيشون تحت مظلة الحرب والخراب، وأن نفس البروباغندا التي كانت أمريكا تُروِّج لها، كانت روسيا تقوم بها فتنقل للناس معلومات خاطئة عن العالم الخارجي، معتمدة على قصور وسائل اتصال العامة بالعالم الخارجي في عصر الشيوعية.

ويعرض المسلسل الصراع الداخلي دخل الشخصيات الروسية، بين الانفتاح وتقبل التغيير في شخصية فيليب، والتشدد والوطنية والولاء الأعمى عند إليزابيث، فبينما يريد فيليب في الحلقة الأولى تسليم نفسه والتعاون مع الـ FBI، مقابل حصانة ومبلغ كبير من المال يُمكِّنهم من بداية حياة جديدة، تظل إليزابيث متمسكة بعملها وتهدده بإبلاغ الروس عنه. وقد تكيّف فيليب على الحياة في أمريكا إلى حد أقلق زوجته وجعلها ترسل تقارير تُحذِّر منه، فهي ما زالت محافظها على هويتها ورافضة الاستسلام والرضوخ أمام إغراءات الحياة الحرة.

ورغم طبيعة عمل الزوجين، التي تتطلب التعاون المستمر، إلا أنهما يقعا في براثن خلافات ومشكلات تتعلق بأمور حياتية بحتة. خلافات لا يمكن أن تتصورها تحدث لجواسيس قتلة يعملون على إسقاط أكبر دولة في العالم، لصالح دولة أخرى كان الشعب فيها جواسيس على بعضهم لصالح الحكومة، لكنهم في النهاية بشر. يعملون من أجل بلادهم وليسوا بالضرورة أشرارًا، ربما فقط أغبياء أو تعرّضوا لغسيل مخ أو مضطرون لإنقاذ أنفسهم، وهم في النهاية ضحايا حروب ضارية وسياسات دول، أنتجت شعوبًا تكره بعضها وتتمنى زوال الآخر تمامًا. ويبدو أن المسلسل قد نجح تمامًا في إيصال هذه المشاعر وتلك الأفكار.

أن تعيش بوجهين أو عشرة

إن معضلة العيش بوجهين أو التظاهر أمام الناس والمعاناة في صمت، قد تم مناقشتها من قبل في عديد الأفلام والمسلسلات، لكن لأول مرة نرى الوضع من وجهة نظر جاسوس في دولة أخرى، مُجبر على طمس شخصيته وإخفاء مشاعره والعيش كشخص آخر، بغض النظر عن رأيه أو مشاعره، بمعنى آخر يعيش هذا الشخص مثل الروبوت.

تخيل كيف يتمكن هذا الشخص من عيش حياته اليومية، ومواجهة غيره من الناس بدون أن يملك حتى رفاهية أن يغضب، حتى لا يكشف غطاءه أو يلفت الانتباه إليه.

تُلخِّص إليزابيث حالتها في المسلسل قائلة:

انضممت للمخابرات في سن الـ 17، كنتْ طفلة لا أعلم شيئًا، ولم يكن لدي أي حبيب من قبل، وبعمر الـ 22، وجدت نفسي في بيت غريب مع رجل غريب في بلد غربية.

وكان من المفترض أن تعيش إليزابيث حياتها بشكل عادي كأن شيئًا لم يحدث، مع الأخذ في الاعتبار تلك التدريبات القاسية التي تعرّضت لها، وتدريبها على استخدام الجنس كسلاح، مع رجال ونساء من مختلف الأعمار والأشكال.

وبين وجه شخص روسي يحب بلاده ويكره أمريكا، إلى وجه أم وأب يعيشون من أجل أطفالهم، إلى وجه عائلة أمريكية عادية. يعيش الزوجان في صراع نفسي مستمر، يضعهم دائمًا على حافة الخطر.

لكن ذلك لا يكفي، فعمل الجواسيس يتطلب التنكر والقيام بشخصيات مختلفة، من أجل التقرّب من بعض الموظفين أو المسئولين المهمين، وأحيانًا يستمر هذا التنكر لشهور أو سنوات، يعيش خلالها الشخص حياة أخرى بوجه آخر، حتى في النهاية ينسى نفسه وتختفي شخصيته من الوجود.

خلال 6 مواسم من المسلسل، تم صنع 120 تنكرًا مختلفًا لفيليب وإليزابيث، بمعنى أنهما قد عاشا تقريبًا بـ 120 شخصية مختلفة في المسلسل. الأمر قد لا يكون واقعيًا بدقة، لكنه على الأقل يناقش قضية تحدث بالفعل.

هذا العدد المهول من الشخصيات المختلفة والتنكرات، يعد من السمات المميزة للمسلسل، وأحد أهم نقاط قوته، حيث أضاف الأصالة والبراعة للعمل، وعرض رؤية مختلفة تمامًا لفترة الثمانينيات الذهبية في الولايات المتحدة، رؤية أقرب للواقع من الأفلام القديمة التي دائمًا ما تُبالغ، وتُقدم تلك الحقبة بشكل خاطئ، حيث قامت المسئولة عن المكياج والتنكرات katie Irish، بالاطلاع على صور قديمة وشكّلت الشخصيات والتنكرات عليها، لذلك يختلف المسلسل كثيرًا عن الفكرة المعتادة عن مثل تلك الفترة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.