تقدم إضاءات بدءًا من اليوم، الجمعة، 21 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى مدى شهر، تغطية متواصلة للانتخابات الأمريكية المقررة في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني. ويمكنكم متابعة تلك التغطية عبر هذا الوسم: الانتخابات الأمريكية 2016.


سيغادر الرئيس الأمريكي باراك أوباما المكتب البيضاوي في يناير المقبل، وأكثر العرب لا يكنون له امتنانًا خاصًا. الرئيس الذي قابل كثير من العرب والمسلمين انتخابه بترحاب بسبب روابط معنوية توسموها في رئيس أسمر البشرة، وذي أسلاف يدينون بالإسلام، وقضى جزءًا من حياتِه في إندونيسيا، يغادر قريبًا وقد استطاع أن يحقق ما لم ينجح فيه كثيرون، ألا وهو الجمع بين سخط الجماهير العربية المناهضة للولايات المتحدة بالفطرة، وسخط أكثر النظم العربيّة التي لم تعجبها سياساته في المنطقة، خصوصًا تقاربه الأخير مع إيران، في الوقت الذي تمد فيه هذه الأخيرة حبال نفوذها ومرامي نيرانها إلى أكثر من قطر عربي، وتهدد دولًا عربية لطالما اعتبرت نفسها حليفة دائمة للولايات المتحدة.

فكيف جرى كل ما جرى؟ وكيف انتقل أوباما من متفائل يلقي خطابًا تاريخيًا في جامعة القاهرة، وترمقه عيون كثير من العرب بتفاؤل طالما حذر منه مراقبو سياسات الولايات المتحدة، إلى متشائم منسحب من المنطقة ويائس منها؟


أوباما والعرب: من خطاب القاهرة إلى الثورة السورية

أولًا: مرحلة التفاؤل، أو «خطاب القاهرة»

في عام 2009، ألقى أوباما خطابًا تاريخيًا في جامعة القاهرة، تحدث فيه عن الإسلام والغرب، والتاريخ والحاضر المليئين بسوء الفهم، وعن المشترك بين الإسلام والولايات المتحدة، وتعرض بدبلوماسية ماهرة لكثير من نقاط الاختلاف التاريخية، ومن بينها القضية الفلسطينية، والتطرف والعنف، والسلاح النووي في المنطقة، والحريات الدينيّة.

كان الخطاب محاولة لترميم ما يمكن ترميمه من الدمار الذي ألحقه غزو العراق بالمنطقة، من إشعال لفتيل الطائفية، وتحويل العراق إلى ساحة مثالية لاستقطاب وإنتاج الجهاديين، وإعطاء إيران اليد العليا في العراق وتهميش السنة فيه.

في الخطاب، فرق أوباما بين غزو أفغانستان الذي اعتبره «ضرورة»، وغزو العراق الذي اعتبره «اختيارًا»، ووعد بإخراج القوات الأمريكية من العراق. وفضلا عن أن الخطاب كان إعلان نوايا حسنة بالدرجة الأولى، وكان الجميع بالتالي بانتظار سياسات تفصح عن هذه النوايا، إلا أن المنطقة كانت على موعد قريب مع الربيع العربي، الذي سيغير الحسابات ويقلب الموازين.

ثانيًا: مرحلة الربيع، أو مرحى لثوار تونس وميدان التحرير

سجلت ذاكرة العرب مرحلة إجهاض الربيع العربي تحت عنوان: الولايات المتحدة لا تؤيد الديموقراطية إلا حين تكون نتائجها لصالحها

في خطاب مقتضب، بعد ستة شهور من اندلاع الثورة في تونس، امتدح أوباما الربيع العربي، وسرد أمثلة مما هتف به المتظاهرون العرب من تونس إلى صنعاء. كان الربيع العربي اختبارًا حقيقيًا للغرب على مستويي السياسة والفكر على السواء. سياسيًا، كان على الغرب التعامل مع ثورات شعبية تنادي بالحريّة وترفض الاستبداد، ولا تتبنى شعارات دينية واضحة، وإن ساهم فيها الإسلاميون. لكن هذه الثورات كانت في الوقت نفسه، احتجاجًا ضد حلفاء راسخين للغرب، مثل مبارك وزين العابدين بن علي. بالتالي، وجد الغرب نفسه أمام ثورات تنطلق من قيم لطالما ادعاها الغرب لنفسه وعاب على الشرق تجرده منها، لكنها تهدد مصالحه وسياساته وحلفاءه.

لذا، كان الربيع العربي وما تبعه فرصة لإعادة طرح الأسئلة الصعبة التي كان العرب يوجهونها للغرب وللولايات المتحدة، خصوصًا إبان حملة «نشر الديموقراطية» التي أعلنتها إدارة بوش، واستفتحت بها غزو العراق، ومن هذه الأسئلة: ما موقفكم لو أنتجت الديموقراطية نخبًا تعادي إسرائيل والمشروع الصهيوني؟ وما موقفكم لو أنتجت الديموقراطية نخبًا وأحزابًا لا تؤمن بالقيم الليبيرالية التي تصرون على مماهاتها مع الديموقراطية؟ وما موقفكم لو أنتجت الديموقراطية نظمًا معادية للمشروع الغربي ككل في المنطقة؟

بدا بالفعل أنّ الربيع العربي سيأتي بالإسلاميين إلى الواجهة، وسيعتقد كثيرون أن هذا كان السبب الأهم لإجهاضه. ومع أن الانقلاب على محمد مرسي – وهو بداية تحول مسار الربيع العربي بعيدًا عما قام لأجله – تواطأت عليه الكثير من القوى الإقليمية التي هددها وصول الإسلاميين إلى السلطة، إلا أن تغاضي الإدارة الأمريكية عن نتائج الانقلاب، ثم التعامل معه كأمر واقع، وكونه يصبّ بوضوح في مصلحة إسرائيل، يدفع كثيرين للاعتقاد أن الأيادي الأمريكية لم تكن بعيدة عنه.

ومهما كان حجم حضور الولايات المتحدة في إجهاض الربيع العربي بدءًا من الانقلاب في مصر، فذاكرة العرب سجلت إجمالًا هذه المرحلة تحت عنوان عريض لطالما آمن به العرب تفسيرًا للسياسة الأمريكية في المنطقة: الولايات المتحدة لا تؤيد الديموقراطية إلا حين تكون نتائجها لصالحها.

ثالثًا: مرحلة التورط، أو لعنة بنغازي

حتى قبل ترشحه للرئاسة، كان أوباما متوجسًا من تبعات التدخل العسكري في بلد عربي. يظهر هذا جليًا فيما نقله عنه الصحفي الأمريكي جيفري غولدبيرج، في المقابلة المشهورة في مجلة «أتلانتيك» بعنوان «عقيدة أوباما».

ففي خطاب ألقاه عام 2006، عندما كان ما يزال عضوًا في مجلس الشيوخ عن ولاية إلينوي، كان أوباما متحفظًا جدًا إزاء فكرة غزو العراق من دون وجود دليل على خطر مباشر يشكله صدام حسين على الولايات المتحدة، ومن دون دعم دوليّ كبير، ورأى أن غزوًا من هذا النوع سيزيد التدهور في المنطقة، وسيزيد من قدرة «القاعدة» على تجنيد الأنصار. بالتالي، فقد كان لأوباما مخاوفه التي رسختها حرب العراق، وكان مستعدا نفسيا للتوجس من أي تدخل عسكري في المنطقة.

غير أن تداعيات الثورة الليبية، وتهديدات القذافي الصريحة بغزو بنغازي وذبح الثائرين عليه فيها كالفئران، استدعى إجراءات مخالفة لموقف أوباما المبدئي بعدم التدخل إلا في حال وجود تهديد مباشر لأمن الولايات المتحدة. وحتّى رغم حصول التدخّل، إلا أنه كان ضمن قواعد جديدة أراد أوباما ترسيخها، وأهمها اضطلاع الحلفاء الذين يهمهم الأمر بدور معقول في الحملة، وعدم تحمل الولايات المتحدة الجزء الأكبر أو الوحيد من مسؤولية التدخل، وهو المبدأ الذي سماه أوباما: «القيادة من الخلف».

لكن حذر أوباما لم ينفع، وأصبحت هواجسه حقائق، فالمحللون والخبراء لم يتنبهوا لكثير من تعقيدات الوضع الليبي والتركيبة القبلية المؤثرة بقوة، وكان أن سقط الديكتاتور وقتل، غير أن البلاد دخلت من بعده في حالة فوضى ما تزال قائمة إلى اليوم، وأصبحت بالفعل بيئة مناسبة لاستقطاب وتجنيد الجهاديين، وما تزال «لعنة بنغازي» تلاحق هيلاري كلينتون بالذات، حيث كانت إحدى عرابيها المهمين.

رابعًا: مرحلة التعلم المفترض من الدرس، أو لن نصنع عراقًا آخر في سوريا

الولايات المتحدة ما تزال في نظر كثيرين مسؤولة بشكل أساسي عن التغاضي عن النفوذ المتعاظم لروسيا وإيران في المنطقة

حين قصف النظام السوري غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي، وتسبب في استشهاد 1400 سوري من بينهم المئات من النساء والأطفال، كانت الأحداث كلها تمضي في اتجاه ضربة عسكرية للأسد، وكان هذا منسجمًا مع تصريح أوباما بأن الأسد اخترق «خطًا أحمر»، وكان الجميع يستعدون لضربة عسكرية موجهة للأسد في آخر أغسطس/آب من عام 2013.

غير أن تجربة سلفه في العراق، وتجربته الخاصة في ليبيا، تمكنتا من أوباما في النهاية، وجعلتاه يغير رأيه في الساعات الأخيرة، ويكتفي لاحقًا بالاستعانة بروسيا في تسليم النظام السوري لسلاحه الكيماوي.

لكن ما كان أوباما يخشاه إن وقع التدخل العسكري، حصل بالفعل من دون تدخل، فسوريا ليست أفضل حالًا من العراق أو ليبيا، بل هي واقعة في فوضى عارمة، ووجد فيها تنظيم داعش فرصة ذهبية للحشد والتجنيد، وفوق ذلك، يوجد سفاح لا يقل دموية عن القذافي، ويقوم كل يوم بالجرائم التي تدخل التحالف الدولي بمشاركة الولايات من أجل منعها في ليبيا.

كل ما بإمكان أوباما أن يفخر به هو أن هذه الوضعيّة لم تكن نتيجة لتدخل عسكري من الولايات المتحدة، لكن الولايات المتحدة ما تزال في نظر كثيرين مسؤولة بشكل أساسي عن التغاضي عن النفوذ المتعاظم لروسيا وإيران في المنطقة، وعن غض الطرف عن إرهاب الجماعات الشيعية، وعن اختزال ثورة السوريين من أجل الحرية والكرامة في خطر داعش على أمن الولايات المتحدة، والتعاطف مع أحلام الأكراد في دولة قومية، فيما تسيل أنهار الدم السوري غزيرة بلا رادع.

خامسًا: مرحلة تغيير قواعد اللعبة، أو استصلاح إيران

شكل الاتفاق المبدئي بين إيران والولايات المتحدة صدمة لكثيرين في الولايات المتحدة والمنطقة، وما يزال أوباما يُنتقد داخليًا من أطراف متعددة لإبرامه هذا الاتفاق، ولم تخف إسرائيل والنظم العربية قلقها من الاتفاق وتداعياته المحتملة.

كان هذا الاتفاق طريق أوباما إلى كسب سخط الأنظمة العربية بعد أن كسب سخط الشعوب، فدول الخليج، وعلى رأسها السعودية، أصابها اختلال توازن شديد إثر الاتفاق، فالسعودية التي لطالما اعتبرت نفسها حليفًا دائمًا للولايات المتحدة، ولطالما قدمت نفسها باعتبارها خصم إيران اللدود في المنطقة، والمكافئ السني لتغول محتمل للدولة الشيعية القوية، وراعية للاعتدال – أي عدم المعاداة الفجة لإسرائيل – في المنطقة في مقابل تعنت إيران وحلفائها، وجدت نفسها فجأة مضطرة للتعامل مع وضع جديد تتقاسم فيه المنطقة مع إيران في أحسن الأحوال، في ظل وجود إيراني على حدودها الجنوبية وعمقها الشمالي، وفي ظل حليف مصري يغازل إيران ولا يمحض السعودية الولاء الذي تتوقعه من حلفائها في أزمنة الرخاء.

وأخيرًا، جاء رفض مجلس الشيوخ الأمريكي لفيتو أوباما على قرار يمنح الأمريكيين حق مقاضاة حكومات يشتبه في تورطها في هجمات أدت لمقتل أمريكيين، وليس سرا أن المقصود الأساسي هو السعوديّة. ورغم اعتراض أوباما المعلن على القرار، إلا أنه سيترك الإدارة بعد أشهر قليلة، ومن غير المتوقع أن يذكره العرب، حكامًا ومحكومين، بامتنان من أي نوع.


ما بعد أوباما: «الليبيرالية التدخلية» أم «الانعزالية»؟

تبقى أسئلة هامة مرتبطة بمرحلة أوباما وما بعدها بخصوص العرب وقضاياهم، أهمها: هل تشكل مواقف أوباما تغيرًا مستدامًا في استراتيجية الولايات المتحدة تجاه المنطقة؟ أم أنها تعكس بدرجة كبيرة تفكيره في المنطقة وسياسته تجاهها، وهو ما يعني بالتالي احتمال تغيّر كبير في استراتيجية الولايات المتحدة بعد رحيله، بعيدًا عن الخط الجديد الذي اختطه لعلاقة الولايات المتحدة بهذه المنطقة القلقة من العالم؟

بعض المنطلقات التي بنى عليها أوباما استراتيجيته تجاه المنطقة هي حقائق استراتيجية ثابتة يمكن – ونتوقع – أن تشكل أساسًا لسياسة طويلة الأمد. مثلًا، الاكتشافات الهائلة في الزيت الصخري في الولايات المتحدة، وتطور تقنيات استخراجه، وتراجع قيمة النفط بالنسبة لاقتصاد الولايات المتّحدة، وبالتالي تراجع قيمة الخليج بالنسبة لأمريكا من هذه الناحية؛ كلها حقائق استراتيجيّة راسخة، وستدخل في حسابات أي رئيس قادم للولايات المتحدة.

لكن بعض المنطلقات التي استند إليها أوباما في رسم سياسته تجاه المنطقة، خصوصًا في سوريا، تبدو أقل ارتباطًا بموقف استراتيجي متفق عليه في واشنطن، وأقرب إلى كونها اجتهادًا سياسيًا من أوباما، يخالفه فيه كثيرون، من بينهم أعضاء في إدارته، وهذا الموقف بالتالي مرشح لتقلبات كبيرة حسب خلف أوباما.

مبادئ أوباما من قبيل القيادة من الخلف، أو ترك منطقة ما لتفاعلاتها، أو التدخل عبر دعم حلفاء ووسطاء، أو المراقبة والعمل الدبلوماسي، كلها تتعرض لنقد واسع في الولايات المتحدة، ويتهم أوباما بأن تبنيه لهذه المبادئ سبّب فراغات تملؤها قوى أخرى، كبرى وإقليمية، وأدى لتراجع موثوقية الولايات المتحدة في العالم، واهتزاز اطمئنان حلفائها لها، وبالتالي خسارة حلفاء مهمين مثل تركيا.

بالتالي، ستفصح استراتيجية الرئيس القادم عما إذا كان أوباما رئيسًا عظيمًا استشرف تغيرًا ضخمًا في العالم وتصرف بمقتضاه بحكمة نادرة، أو ما إذا كان رئيسًا ضيق الأفق مبالغًا في مخاوفه، وأدى ضعف مبادرته وقصر نظره إلى خسارات استراتيجية ضخمة سيعمل سلفه بكل جهد لتداركها وتعويضِها، إن لم يعان من الارتهان لها.


كلينتون: الحصان القديم

هيلاري كلينتون كانت من أهم عرابي التدخل العسكري في ليبيا، وانتقدت الأسد مرارًا، وأبدت علنًا عدم قبولها باستمرار الأسد في السلطة. يمكن بسهولة تصنيف كلينتون ضمن «الليبيراليين التدخليين Liberal Interventionists» الذين يؤمنون بدور أساسي لتدخل الولايات المتحدة، بما في ذلك عسكريًا، من أجل ضمان مصالحها وسيادتها العالمية وقيمها الليبيرالية.

حسب هذا التوجه العام، يمكن توقع حضور أكبر للولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك التدخل العسكري، في ظل إدارة كلينتون. لكن تبعات حرب العراق التي ما تزال تتداعى، وكون كلينتون ما تزال منتقَدة بشكل كبير بسبب انفلات الوضع في ليبيا، وكونها شديدة التأثر باتجاه الرأي العام، كلها ستجعل من توقع سياسة واضحة العالم من قبلها تجاه المنطقة أمرًا صعبًا.

بشكل عام، تمثل كلينتون الاتجاه التقليدي للسياسة الخارجية الذي انتهجته الولايات المتحدة في العقود الأخيرة قبل أن يخرقه أوباما، والتوقع العام هو أن تستعيد كلينتون هذا الاتجاه بمكوناته المتمثلة في ضرورة البقاء في القيادة، وعدم ترك القضايا لتفاعلاتها، والتدخل الفعال والنشط للحفاظ على النفوذ الأمريكي، وإدراك أن كون الولايات المتحدة القوة الكبرى في العالم يعني بالضرورة اضطلاعها بأعباء أكبر وتحمل خسارات محتمَلة.

تمثل كلينتون إيمان الولايات المتحدة بأنها القوة العظمى، لا قوة عظمى، وتمثل بالتالي النفس الإمبراطوري الذي تخلى عنه أوباما لصالح التفكير في الولايات المتحدة كقوة كبرى، لا كإمبراطورية.


ترامب: انعزالية عالية الضجيج

ستفصح استراتيجية الرئيس القادم عما إذا كان أوباما رئيسًا عظيمًا تصرف بحكمة نادرة، أو ما إذا كان رئيسًا ضيق الأفق مبالغًا في مخاوفه
يبدو ترامب انعزاليا عالي الضجيج، بمعنى أنه ليس صاحب أجندة إمبراطورية، والمحرك الذي يدفع مواقفه الخارجية هو القضايا الأمريكية الداخلية

أما دونالد ترامب فيبدو توقع سياسته أمرًا أكثر إشكالًا، فالرجل بلا تاريخ سياسي، ولا يمكن أخذ أكثر تصريحاته السياسية على محمل الجد، وهو قادم من خارج مؤسسة الحكم تمامًا، وهو ما يحاول مؤيدوه وقادة حملته الترويج له باعتباره ميزة تُحرره من التفكير والتحرك وفق تقاليد المؤسسة وما يكتنفها من بطء وضعف في الفاعلية. لكن لهذه الميزة المفترضة وجهًا آخر، هو عجز الرجل عن فهم توازنات المؤسسة ومكوناتها وطريقة تفكيرها وسلوكها، وبالتالي عجزه المحتمل عن اللعب على هذه التوازنات وعجزه كذلك عن إقناع المؤسسة أوبعض مكوناتها بتأييد سياساته وتوجهاته.

لكن بنظرة مجملة، فترامب يبدو – للمفارقة – أقرب لبعض مبادئ أوباما في السياسة الخارجية من كلينتون، ومن ذلك ضجره من التحالفات غير المتكافئة التي تدخلها الولايات المتحدة وترتب عليها تكاليفَ باهظة يتحملها دافع الضرائب الأمريكي، وإيمانه بضرورة أن تدفع الدول الأخرى الأثمان المترتبة على تحالفها مع الولايات المتحدة وتمتعها بحمايتها.

ومن ذلك استعداده للتغاضي عن دور روسي في المنطقة، وفوق ذلك إعجاب ببوتين لا يخفيه ترامب، ويربطه كثيرون باستثمارات اقتصادية للأخير في روسيا. صرح ترامب بوضوح أنه ليس مؤيدًا للأسد وحلفائه في روسيا، لكنهم يحاربون «داعش»، وهذا ما يهمه. لا يبدو ترامب مهتمًا بـ «داعش» إلا من باب قدرته على استثمارها داخليًا للتخويف من مسألة الأمن والإرهاب والهجرة وما يسميه «الإسلام الراديكالي».

يسيء كثيرون فهم حديث ترامب عن داعش وانتقاده لتخاذل أوباما عن سحقها، وتهديده بعمل عسكري، لم يفصح عن ماهيته، ضدها، على أنه ميل اليمين الأمريكيّ المعتاد للغزو والتدخل، لكنه في الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك. نميل في الحقيقة إلى أنه لولا خدمة «داعش» لأهداف ترامب الانتخابية الداخلية لما حظيت هذه المنطقة بأي اهتمام استثنائي لديه.

في السياق نفسه، ينبغي تسجيل أن ترامب ناقد بشدة للاتفاق مع إيران، ويرى أنه فرّط بكثير من المكاسب التي كان يمكن تحصيلها، لكن هذا النقد هو الآخر مدفوع بأجندات داخلية، مرتبطة بأمن الولايات المتحدة والتخوف من امتلاك أعدائها للسلاح النووي، أكثر من ارتباطه برؤى إمبراطورية تؤمن بسيادة الولايات المتحدة وحضورها العالمي في موضع القيادة في سائر الملفات محل النزاع.

بالتالي، يبدو ترامب انعزاليا عالي الضجيج، بمعنى أنه ليس صاحب أجندة إمبراطورية، والمحرك الذي يدفع مواقفه الخارجية هو القضايا الأمريكية الداخلية. القضايا الخارجية تثير اهتمام ترامب في إحدى حالتين: الأولى هي إمكان استخدامها لدعم خطابِه التخويفي من الإرهاب والإسلام والراديكالي والهجرة، وهذا ينطبق على داعش وإيران وكوريا الشمالية، والثانية هي إمكان استخدامها لإلقاء اللوم على الخارج في المشاكل الاقتصادية في الولايات المتحدة من قبيل البطالة وتردي الأجور وتراجع النمو، وهذا ينطبق على المكسيك والعمالة القادمة منها، والصين، والاتفاقيات الاقتصادية المعولمة. خارج هذين الاعتبارين، لا يمتلك ترامب رؤية استراتيجية لدور الولايات المتحدة في العالم.

إذن، كلا المرشحين يختلفان مع سياسة أوباما تجاه المنطقة في نقاط، ويخالفانها في أخرى، وبالتالي فالتغيير وارد جدًا في السياسات من المنطقة، لكنه لن يكون تغييرًا في اتجاه واحد متسق، والملاحظة الأكثر حضورًا هي أن العرب يحضرون في هذه السياسات المتوقعة متأثرين أكثر من حضورهم بصفتهم حلفاء أو لاعبين أساسيين.