يقولون إنك ما إن تنزل على الأراضي اللاتينية حتى تتلمس عبق الحضارة العربية في التراث المعماري اللاتيني، وتعرف -دون إخبار من أحد- أن العرب مروا من هناك. لكنك إن لم تسافر خارج القطر العربي مثلي فطريق تلمسك يبدأ من مطالعة صحف صباح الجمعة الثالث عشر من مايو/ آيار لهذا العام 2016م، والتي تداولت باهتمام بالغ خبر تولي «ميشيل تامر» -اللبناني الأصل- رئاسة البرازيل فترة توقيف البرلمان للرئيسة «ديلما روسيف» بعد اتهامات متكررة بالفساد، ومن المفترض أن تستغرق مساءلة روسيف 180 يومًا يكون فيها ميشيل على رأس السلطة كونه يشغل منصب نائب الرئيس.

وُلد ميشيل تامر بالبرازيل، ونشأ فيها وحاز جنسيتها، لأبوين لبنانيين مهاجرين من بلدة بعتبورا اللبنانية، حصل على الدكتوراه من الجامعة البابوية الكاثوليكية بمدينة ساو باولو البرازيلية، وخدم في عدة مناصب قبل أن يقوم بمهام الرئاسة البرازيلية، من أهمها أنه عُيّن سكرتيرًا للأمن العام وعمل كمُدّع عام للدولة كذلك، وانتُخِب لـ 6 فترات متتالية في مجلس النواب البرازيلي.

أصبح مؤخرًا -مطلع القرن الحالي- رئيسًا لحزب الحركة الديمقراطي والذي تحالف عام 2007م مع حزب العمال الذي ينتمي إليه لولا دا سيلفا الرئيس البرازيلي السابق، وديلما روسيف الرئيسة الموقوفة عن العمل من قبل البرلمان. ومع وصول روسيف للسلطة في 2011م، أصبح ميشيل نائبًا لرئيس الجمهورية. ويواجه ميشيل تهمًا بالفساد أخطر وأكبر بكثير من تلك التي تواجهها روسيف ويُتوقع أن يخضع هو الآخر للمساءلة في وقتٍ لاحق.

ليس تامر أول عربي ذي أصول شامية يصل إلى سدة الرئاسة في أمريكا اللاتينية، فقد سبقته قائمة طويلة تضم كلًا من أنطونيو سقا -الفلسطيني الأصل- في السلفادور في الفترة ما بين 2004 و2009م، إلى جوليو سيزار طورباي -اللبناني الأصل- في كولومبيا 1978-1982م. بل وشغل كرسي الحكم في الإكوادور وحدها ثلاثة رؤساء من أصول عربية-لبنانية هم -على الترتيب- خوليو ثيودور سالم كرئيس مؤقت في عام 1944م، ومواطناه: عبدالله بوكرم 1996-1997م، وجميل معوض في الفترة 1998-2000م. وشغل كارلوس منعم -ذو الأصول السورية- رئاسة الأرجنتين لعشر سنوات كاملة في الفترة ما بين 1989م و1999م.


إذن، لماذا مرّ العرب من هناك؟

http://gty.im/491866192

ميشيل تامر وديلما روسيف

تاريخيًا بدأت هجرة العرب لأمريكا اللاتينية مع أفول دولتهم في الأندلس، وكان أول العرب المهاجرين هم أولئك الذين سكنوا الأندلس، وهُجِّروا قسرًا بعد سقوط الأندلس إلى المستعمرات الإسبانية الحديثة في أمريكا اللاتينية، كانت هذه نقطة البداية.الموجة الثانية من الهجرة العربية لأمريكا اللاتينية بدأت مع منتصف القرن التاسع عشر وكان قوامها مسيحيو بلاد الشام -لبنان وسوريا وفلسطين-، النازحون جراء الاقتتال الطائفي بين المسيحيين والدروز في لبنان، وتبعهم المزيد من الشوام الهاربين من التجنيد الإجباري ثم المجاعة التي ضربت البلاد جراء حصار قوات التحالف للسواحل السورية إبان الحرب العالمية الأولى. بجانب الحصار الذي فرضته قوات التحالف، كانت الدولة العثمانية تصادر الأغذية لتعبئة الجيش العثماني المشارك في الحرب.الموجة الثالثة والأخيرة جاءت مع اكتشاف النفط -خمسينات القرن الماضي- في فنزويلا؛ الأمر الذي دفع كثيرًا من السوريين خاصة للهجرة إليها.

بدأت الهجرة العربية إلى أمريكا اللاتينية قسرًا بعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس، إذ أرسلهم المحتلون إلى المستعمرات الإسبانية في أمريكا اللاتينية للعمل هناك.

عندما حطَّت الجاليات العربية المهاجرة أقدامها على القارة الأمريكية، كانت الأخيرة تعاني غياب جميع مظاهر المدنية الحديثة. ولذلك ارتبط التواجد العربي منذ بدايته ببناء الحضارة اللاتينية، وازدهر المعمار العربي الإسلامي وبقي شاهدًا حتى الآن على العرب. حتى اللغة الإسبانية الأكثر استخدامًا بين أبناء القارة جرى إدخال العديد من المصطلحات العربية عليها ودمجها باللسان العربي. الحضور الأهم للعرب في أمريكا اللاتينية ارتبط بتأسيس حركات النضال السياسي والثوري ضد المحتل الغربي والمستبدين من أبناء القارة.ما ساعدهم على البروز في عدة قطاعات كانت أهمها السياسة، استمرار زيادة أعدادهم واستقدامهم للعديد من عوائلهم العربية الأصل. وتبلغ نسبة العرب من بين سكان القارة اللاتينية 5%، ما يعادل بين 25 إلى 30 مليون نسمة، وأوصلتهم بعض التقديرات إلى 40 مليون. وتُعد البرازيل أكثر الدول اللاتينية احتواءً للعرب المهاجرين، ولهم فيها نشاط سياسي كبير، حتى أن تمثيلهم في مجلس الشيوخ البرازيلي يبلغ حوالي 15%، بينما تربو نسبة حضورهم في مجلس النواب عن 20%. وتمتلك الجالية العربية في ساو باولو قناة تليفزيونية ووكالة أنباء خاصة بهم.بعد البرازيل، تأتي الأرجنتين كثاني أكبر دولة حاضنة للعرب المهاجرين بواقع 1.2 مليون شخص من إجمالي عدد سكانها البالغين 38 مليون. ورغم أن نفوذهم الاقتصادي ضعيف، إلا أن نفوذهم السياسي متوسع للدرجة التي جعلت كارلوس منعم السوري الأصل رئيسًا للجمهورية لعشر سنوات متصلة.أما فنزويلا التي تأتي في المرتبة الثالثة بين أكثر الدول اللاتينية احتواءً للعرب المهاجرين بواقع مليون نسمة، فتمتاز عن غيرها من دول القارة في أنها الدولة الأوفر حظًا من حيث استضافة المهاجرين العرب المسلمين بنحو 400 ألف مسلم. تشيلي في المرتبة الرابعة بواقع 600 ألف مهاجر من أصل عربي، منهم قرابة نصف مليون فلسطيني. وعليه فإن التواجد الفلسطيني في تشيلي يُعد التجمع الفلسطيني الأكبر في العالم خارج الحدود الفلسطينية. وتقل الجاليات العربية تدريجيًا في باقي البلدان كالمكسيك وباراغواي وبيرو.


العرب يحكمون أمريكا اللاتينية

السلفادور: أنطونيو سقا

دعنا نبدأ من الشمال نزولًا، من أعلى نقطة في القارة شمالًا، السلفادور، والتي جاء على رئاستهاأنطونيو سقا الفلسطيني الأصل، بعد أن فاز في انتخابات الرئاسة لعام 2004م على منافسه «شفيق جورج حنضل» الذي يشترك معه في نفس الأصول الفلسطينية، بل يعودان إلى ذات المدينة، بيت لحم.

http://gty.im/85740865

سقا مسيحي من الطائفة الكاثوليكية؛ إلا أن أصول عائلته كانت مسلمة قبل أن يتحول جده «موسى علي صالح» إلى المسيحية.

الرئيس اللاتيني الوحيد الذي شارك القوات الأمريكية في مهام احتلال العراق بعد الغزو عام 2003 كان من أصل عربي فلسطيني!.

مرورًا بالسياسات التي اتبعها سقّا، فإنه احتضن سياسة الاقتصاد الحر على الشاكلة الأمريكية؛ ما جعله حليفًا مفضلًا لحكومة الولايات المتحدة في 2004م. كما تلقى مساعدات اقتصادية من الدول الغربية كإسبانيا لتطوير المناطق التي تعاني من الفقر في بلاده، ونجحت هذه المساعدات في تجفيف منابع الفقر نسبيًا في السلفادور. ونتيجة لهذا التقارب مع الولايات المتحدة، كان سقّا الرئيس اللاتيني الوحيد الذي أرسل قوات جيشه لتتواجد جنبًا إلى جنب مع القوات الأمريكية في العراق عام 2004م، ورحلت قواته عن العراق في 2009م، نفس العام الذي غادر فيه سقّا السلطة إذ لا يسمح الدستور في السلفادور بالترشح لفترتين رئاسيتين متواليتين. وقد عاد سقا بالفعل لينافس في انتخابات 2014م إلا أنه لم يحالفه التوفيق.

هندوراس: كارلوس روبيرتو فلورس

على الحدود الشرقية للسلفادور تقع جمهورية هندوراس والتي أتى على رئاستهاكارلوس روبيرتو فلورس في الفترة بين 27 يناير/ كانون الثاني 1998م، وذات اليوم من عام 2002م. تنحدر عائلة كارلوس من أصول عربية/ فلسطينية، وله تاريخ سياسي مشرف بدأه كوزير للدولة لمدة عامين ثم رئيسًا للبرلمان الهندوراسي لأربع أعوام قبل أن يتركها ويترشح في انتخابات الرئاسة لعام 1997م ويتوّج رئيسًا على هندوراس.

http://gty.im/51982121

وقعت في العام الأول من حكمه -في الثاني والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 1998م- كارثة طبيعية هي «إعصار ميتش»، دمّرت كلًا من هندوراس ونيكارجوا وجواتيمالا والسلفادور وجنوبي فلوريدا. وناشد كارلوس المنطمات الدولية لدعم إعادة إعمار هندوراس وبالفعل نجح في مهمة إعادة الإعمار.

كولومبيا: جوليو سيزار طورباي

كولومبيا إحدى بلدان القارة، حكمهاجوليو سيزار طورباي أو خوليو سمير طورباي كما كان بالعربية. حكم كولومبيا لأربع سنوات كاملة بدأت في السابع من أغسطس/ آب 1978م لتنتهي في ذات اليوم من العام 1982م. وكان الرجل قد نشأ في كولومبيا لأبوين لبنانيين، وكان أبوه رجل أعمال مهاجر من ضيعة تنورين اللبنانية، كوّن ثروة كبيرة فور هجرته لكنها تبددت جميعها أثناء حرب الألف يوم وهي حرب أهلية شهيرة دارت أحداثها في كولومبيا 1899م.أشهر الحوادث التي مرت بها إدارة الرئيس سيزار، ما قامت به حركة 19 إبريل المتمردة -وهي حركة تمرد كولومبية ناجمة عن حروب العصابات- من اقتحام لسفارة جمهورية الدومنيكان واحتجاز 16 سفيرًا أجنبيًا بداخلها لمدة 61 يومًا متواصلة. السفراء كانوا ممثلين عن دول أجنبية كالولايات المتحدة الأمريكية وبيرو وفنزويلا والمكسيك وإسرائيل. لم يستجب سيزار طوال الشهرين للضغوطات المحلية من قيادات الجيش للتدخل العسكري ولم يرضخ لعناوين الصحف اللاذعة في شتى أنحاء العالم، وأخذ على عاتقه مسئولية المفاوضات المباشرة مع المتمردين للحفاظ على الأرواح، وتوصَّل مع المتمردين في نهاية المطاف إلى إعطائهم الأمان للسفر إلى كوبا إضافة لمليون دولار، وكانوا قد طلبوا في أول المفاوضات مع الحكومة 50 مليون دولار. كان هذه أبرز الاختبارات التي عصفت بحكومة سيزار والتي تجاوزتها إدارته بأقل الخسائر الممكنة.

الإكوادور: ثلاثة رؤساء لبنانيون

الحدود الجنوبية لكولومبيا متاخمة للإكوادور والتي تعاقب عليها ثلاثة من الرؤساء من أصول عربية.أولهم جوليو ثيودور سالم الذي ولي رئاسة الإكوادور مؤقتًا لثلاثة أيام فقط، بدأت في التاسع والعشرين من مايو/ آيار 1944م وانتهت في الحادي والثلاثين من ذات الشهر، وكان ذلك بعد خلع الرئيس كارلوس ألبرتو باحتجاجات شعبية لفشله في إعادة الأمن للشارع الإكوادوري بعد الحرب التي خاضها وخسرها أمام بيرو 1941م.عبدالله بوكرم محامي وسياسي وُلد بالإكوادور، وكان والده لبنانيًّا مهاجرًا. نشأ عبدالله كرياضي حتى أنه تولى رئاسة نادي برشلونة الإكوادوري، وشارك في السياسة حتى وصل إلى كرسي الحكم في العاشر من أغسطس لعام 1996م إلا أنه لم يجلس في الرئاسة سوى أربعة أشهر إذ عزله مجلس الشيوخ الوطني متهمًا إياه بعدم الأهلية العقلية لإدارة شئون البلاد، وهو ما اعتبره أنصاره مؤامرة حيكت ضده، لكنه بأي حال عُزل من منصبه بهذه الطريقة. جدير بالذكر أنه كان قد فاز في انتخابات الرئاسة أمام جيم نيبوت مرشح الحزب المسيحي في كل المحافظات -21 محافظة- إلا واحدة؛ وكان أول مرشح على رئاسة الإكوادور يفعلها.

ثلاثة رؤساء من أصل عربي/لبناني تعاقبوا على رئاسة الإكوادور، لم يُتم أي منهم مدته الرئاسية، أحدهم حكم لثلاثة أيام والثاني عُزل لعدم أهليته العقلية!.

وفي أول انتخابات رئاسية بعد عزل بوكرم، أتى مواطنه ذو الأصول اللبنانية أيضًاجميل معوض، ومارس مهامه كرئيس للإكودور في العاشر من أغسطس 1998م. وكان معوض قد ترشح للرئاسة قبل عشرة أعوام من وصوله للحكم، لكنه حينها حلّ خامسًا في انتخابات الرئاسة لعام 1988م.الظروف الاقتصادية للبلاد كانت في أسوأ حالاتها قبل وصوله للسلطة جرّاء انعدام الاستقرار السياسي في البلاد. تواصَل الانحطاط الاقتصادي إبان فترة حكم معوض حتى اضطر لخفض 60% من الموازنة العسكرية للبلاد وأعقبها إقرار استخدام الدولار بديلًا عن العملة المحلية للإكوادور.هذا التدهور أودى بشعبية الرجل التي بلغت 60% في أكتوبر/ تشرين الأول 1998م إلى 6% فقط في يناير/ كانون الثاني 2000. واضطر معوض للتنحي، أو للدقة: عُزل، من منصبه بعد أسبوع من المظاهرات التي عمّت شوارع الإكوادور والتي أعقبها تحرك عسكري قاده لوسيو جوتييرز.

http://gty.im/51636215

جميل معوض رئيس الإكوادور 1998م-2000م

جمهورية الدومينيكان: جاكوبو آزار

حكم الرجل -اللبناني الأصل- جمهورية دومينيكان لمدة 42 يومًا، بعدما انتحر الرئيس الدومينيكي أنطونيو جوزمان، وكان جاكوبو نائبًا له.

الأرجنتين: كارلوس منعم

الرئيس اللاتيني الأشهر من بين الرؤساء ذوي الأصول العربية كان كارلوس منعم، وهو أكثرهم بقاءً في الحكم؛ إذ حكم الأرجنتين لعشر سنوات كاملة بدأت في الثامن من يوليو/ تموز 1989م وانتهت في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول لعام 1999م.
كارلوس منعم، الرئيس الأرجنتيني
كارلوس منعم

ولد منعم لأبوين سوريين مهاجرين من مدينة يبرود السورية إلى الأرجنتين، تدرب في المحاماة، وناصر الزعيم الأرجنتيني المنفي في إسبانيا بيرون، وتظاهر ضد الديكتاتورية ولأجل السجناء السياسيين.

ارتد عن الإسلام واعتنق المسيحية عندما أراد الترشح لرئاسة الأرجنتين، لأن دستور البلاد يفرض أن يكون الرئيس مسيحيًا.

جاء للرئاسة بانتخابات 1989م، وأنجزت حكومته الكثير من الإصلاحات الاقتصادية، وكان الاقتصاد الأرجنتيني قبل مجيئه يعاني نسبة تضخم هائلة، فقلص كارلوس النفقات الحكومية واعتمد على تخصيص بعض القطاعات الحكومية لجذب الاستثمارات الخارجية. وأعاد علاقات بلاده مع بريطانيا كما سوى أزمته الحدودية مع تشيلي. كان له قبل وبعد الرئاسة تاريخ سياسي حافل، إذ انتُخب كحاكم على محافظة «لاريوخا» -مسقط رأسه- لثلاث فترات امتدت الأولى من 1973-76م، والثانية والثالثة من 1983-89م. وحتى بعد أن خرج من السلطة انتخب كسيناتو في الكونجرس الأرجنتيني في 2005م عن محافظته «لاريوخا».وقد أصدرت محكمة أرجنتينية في يونيو/ حزيران 2013م حكمًا بالسجن في حقه سبع سنوات، بعد إدانته بتهريب السلاح إلى الإكوادور وكرواتيا خلال الفترة بين 1991م و1995م في انتهاك لحظر مفروض من الأمم المتحدة.

وكان منعم قد اعترف بتوقيع موافقات رسمية لتصدير الأسلحة إلىفنزويلا وبنما، لكنه قال بأنه لم يكن يعلم أنها ستنتهي في الإكوادور وكرواتيا، البلدين الخاضعين لحظر دولي على تصدير السلاح في ذلك الوقت.

ميشيل تامر إذن تاسع الرؤساء اللاتينيين من أصول عربية، ومن المفترض ألا تطول فترة بقائه في الحكم إلا إذا أُدينت ديلما سيلفا في مساءلتها عن وقائع الفساد. وحتى إذا أُدينت، فإن ذات المصير ينتظره.

المراجع
  1. 1
  2. 2
  3. 3
  4. 4
  5. 5
  6. 6