لنعُد بالتاريخ إلى الوراء قليلًا حتى شهر أغسطس 2007، حيث بورما صاحبة الثروات الزراعية والتعدينية الكبيرة في مقابل فقر مدقع ومجاعات وانتشار لأمراض خطيرة بين المواطنين، والمجلس العسكري الحاكم برئاسة الجنرال السبعيني ثان شوي الذي رفع أسعار الوقود والأغذية 5 أضعاف، مما أثار احتجاجات شعبية واسعة.المؤسسة الدينية البوذية اعتُبِرت أكثر الفئات تضررًا من ارتفاع الأسعار في الشعب البورمي، برغم كونها الفئة الأكثر تنظيمًا في بورما بعد مؤسسة القوات المسلحة، حيث كانت تعتمد على الهبات التي صارت شحيحة بسبب الفقر السائد؛ لذا انضمت إلى الاحتجاجات لتتحول إلى ثورة كبيرة عُرِفت باسم (ثورة الزعفران)، وتحين الفرصة لفئات معارضة لينظموا عصيانًا مدنيًا ينتشر في البلاد المحترقة كراهيةً للنظام الحاكم.تأثير الثورة امتد في البلاد بعد انضمام الكثير من المدنيين إليها، بحكم احتلال البوذيين نسبة 85% من سكان البلاد وقيادة رهبان البوذية للاحتجاجات، وقد سبق للرهبان إثبات نفوذهم على الشعب في قيادتهم للثورة على الاستعمار البريطاني. وبينما نظام الجنرال تحت ضغط العصيان المدني، تنظر الأطراف المناصرة للديمقراطية بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في حظر تصدير بورما للياقوت الأحمر الذي تتحكم في 90% من حكم التجارة الدولية فيه، والذي يبذل النظام قصارى جهوده القمعية لرفع إنتاجيته لما يرده عليها من أرباح عظيمة. وزع مندوبو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في مجلس الأمن الدولي مشروع بيان لإدانة القمع من المجلس العسكري الحاكم في شهر أكتوبر، فحاولت الحكومة الصينية درء الضرر عن النظام البورمي الحليف قدر إمكانها، فرفضت إدانته في مجلس الأمن، وحاولت الضغط عليه للإقلاع عن القمع الوحشي، فأفرج النظام عن أعداد كبيرة من المعتقلين بلغت 692 مواطنًا؛ لكنه استمر في الإغارة على أديرة الرهبان البوذيين واعتقال أعداد أضخم كثيرًا ممن أفرج عنهم تخطت الألفي مواطن.إذن ما الحل للاحتجاجات التي لن تخمدها الاعتقالات، حتى وإن عرقلت مسيرها؟


قفزة قصيرة لبضع سنوات حتى نصل إلى العام 2012، حيث بورما لا تزال تحت الحكم العسكري. تظهر أنباء عن حادثة اغتصاب لفتاة بوذية في بورما على يد ثلاثة من طائفة الروهينجا، لينتقم البوذيون بقتل 10 مسلمين كانوا في زيارة للولاية، فيرد مسلمو الولاية بقتل 7 بوذيين، وتشتعل الاشتباكات فتسفر عن 54 قتيلًا من جانبي النزاع وتشريد 15 ألف مسلم وبوذي وحرق ما يقارب 2500 منزل ومحل تجاري ومعبد ومسجد في ولاية أراكان (راخين أو راكين).
لم تكن النزاعات الأهلية جديدة على الدولة البورمية التي تضم الكثير من الطوائف الدينية والأصول العرقية، حيث تعاني منه الدولة منذ إعلان استقلالها في 1948

لم تكن النزاعات الأهلية جديدة على الدولة البورمية التي تضم الكثير من الطوائف الدينية والأصول العرقية، حيث تعاني منه الدولة منذ إعلان استقلالها في 1948، لكن هذا النزاع كان الأكثر فتكًا بالمواطنين.ظهر ناشط مسلم يُدعى محمد نصر، وتناقل عدد ضخم من الوسائل الإعلامية تصريحاته عن أكبر حملة إبادة جماعية للمسلمين في ولاية أراكان، دون أن تنشر أي تأكيد لهذه التصريحات بالصور أو مقاطع الفيديو أو بأي وسيلة أخرى سوى المكالمات الهاتفية مع القنوات.ثم ظهرت الفتاة البورمية عائشة صلحي في عدة وسائل إعلامية أيضًا لتصرخ في ضمير العالم بأن اضطهاد الإسلام في بورما ليس وليد اللحظة، وأن البوذيين يخيِّرون المسلمين بين تناول لحم الخنزير وشرب الخمر أو الموت ذبحًا كالخراف، وأنهم يغتصبون شرف المسلمات بلا هوادة، حتى أن ابنة خالتها تقضي 3 سنوات في يد الجيش تتعرض خلالها للاغتصاب حتى أنجبت طفلين لا تعلم لهما أبًا.

انتشرت أنباء الحرب على الإسلام في بورما حتى قرر عدد كبير من مسلميها عدم الاحتفال بعيد الأضحى في ذلك العام، وكانت تركيا أول من التقط الخيط على الصعيد الدولي؛ حيث قالت رئاسة الشئون الدينية في بيان رسمي إن النزاع قتل أكثر من ألفين وشرَّد أكثر من 90 ألفًا من المسلمين، وذلك بعد تصريح للأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي في ذلك الحين، التركي أكمل الدين إحسان أوغلو، وإعرابه عن عميق انشغاله بالتقارير التي تتناول العنف ضد المسلمين في ولاية أراكان وأنحاء أخرى من ميانمار (بورما).

لنضع أنفسنا موضع الرئيس البورمي آنذاك ثين سين، ماذا لو انتقل الحديث عن الفساد الإداري في البلاد إلى «جعجعة دولية» – لطالما أثبتت عدم جديتها – حول اضطهاد ديني، وفي الوقت نفسه تكسب الحكومة ود البوذيين ذوي الأغلبية الشعبية بأن تأخذ صفهم ضد طائفة لن يأبه لها الشعب البورمي؟ لا سبيل أفضل من تحويل الحدث الدائر إلى معركة وهمية، سياسة تنصبّ خسائرها على المواطنين ليخرج النظام سالمًا من المعركة!السبيل إلى ذلك هي طائفة الروهينجا القاطنة ولاية أراكان، المحرومة من الجنسية البورمية منذ صدر قانون الجنسية في 1982، والتي تضم مسلمين ومسيحيين وأديانًا أخرى، وتكافح لإثبات أصلها العرقي والانصهار في أية دولة للحصول على حقوق المواطنة فيها، إلا أن كلًا من بنجلاديش وتايلاند وبورما اعتبرت الروهينجا دخلاء عليها، لا سيما بورما التي اعتبرتهم نازحين من بنجلاديش أثناء الاستعمار البريطاني.

تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش عن بورما لعام 2017 يدعم الربط بين ثورة الزعفران واضطهاد طائفة الروهينجا، فيعتبر أن الجيش البورمي يستمر في الهيمنة على المشهد.

هكذا يسكب الرئيس سين المزيد من الزيت على النار، ويصرِّحخلال لقاء مع المفوض الأعلى للأمم المتحدة للاجئين أنه: «ليس ممكنًا قبول الروهينجا الذين دخلوا بطريقة غير قانونية وهم ليسوا من إثنيتنا، والحل الوحيد هو إرسالهم إلى مفوضية اللاجئين لوضعهم في معسكرات تحت مسئوليتها». لم تتوانَ بعض الوسائل الإعلامية في تأصيل مصطلح «أقلية الروهينجا المسلمة» في سياق نشر هذا التصريح، برغم ذكرها لأنباء الخسائر المادية والبشرية في صفوف الطرفين في ولاية أراكان في نفس التقرير الصحفي! وظلت تروي قصة المسلمين المهجَّرين من بورما إلى بنجلاديش دون التفات إلى بقية الطوائف المنتمية للروهينجا، والتي تعرضت لنفس التهجير.تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش عن بورما لعام 2017 يدعم هذا الربط بين ثورة الزعفران واضطهاد طائفة الروهينجا، فيعتبر أن الجيش البورمي يستمر في الهيمنة على المشهد حتى بعد صعود أول حاكم مدني منذ عقود في 2016، تبعًا لدستور 2008 الذي ينزهه عن الرقابة المدنية، وأنه يتبع سياسة «فرِّق تسُد» ليستمر في الهيمنة. وإلى جانب ذلك، أشار إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار في 2015 لم يستثنِ جماعات الروهينجا المسلحة وحدها، بل شمل أقل من نصف العدد الإجمالي للجماعات المسلحة غير الحكومية في البلاد.وبرغم تبني تقرير المنظمة لفكرة اضطهاد الأقليات المسلمة في بورما، فإنه لم يذكر سوى تعرض مسلمي الروهينجا للاضطهاد في إقليم مانجداو بولاية راخين، في حين لم يذكر انتهاكات أخرى ضد مسلمي بورما الذين لا يقطنون ولاية أراكان بالأساس، حيث تقطن النسبة الأكبر منهم في العاصمة رانجون ومدينة ماندلاي بنسبة أكبر.


القضية اتخذت تعاطفًا دينيًا خالصًا، ونقل الكثيرون اتهامات لجماعة بوذية تعرف باسم «الماغ» بالفتك بالمسلمين، في حين لا يظهر في أي مرجع جماعة بوذية بهذا الاسم! ووصل الأمر إلى الادعاء بأن البوذيين يأكلون لحوم المسلمين في بورما، لتظهر في النهاية أن الصورة المتداولة لأكل اللحوم المزعوم هي في تايلاند لمجموعة إنقاذ صينية كانت تحصل على عينة من جثة لأغراض بحثية.
لن تنتهي الحرب الحقيقية أبدًا طالما لم نرَها على حقيقتها، وطالما لم نعِ أن الحكومة والجيش البورميين في أمسّ الحاجة لتصاعد الحديث دوليًا عن الحرب على الإسلام في بورما.

تبعه في ذات النهج الداعية الكويتي الشهير نبيل العوضي، الذي نشر مقطعًا مصورًا لزيارته إلى لاجئي الروهينجا في بنجلاديش، ليرصد أحوالهم ويقصّ على مشاهديه قصة جدة بورمية ظل حفيدها ذو الشهور الست يناديها يا جدتي بينما يقطع البوذيون جسده، وهي سابقة يجب أن تسجَّل باسم العوضي إذ اكتشف معجزة طفل يتحدث في هذه السن!وفي حين يقسم كثيرون، منهم الشيخ الفلسطيني كمال خطيب، بأن الحكومة البوذية تهدم المساجد لتحوِّلها إلى ملاهٍ ليلية، وأن السير بما وصفه بالملابس الإسلامية ممنوع في بورما، قدم صحفيون مصريون شهادات بالصور ومقاطع الفيديو ترصد وجود 5 مساجد في العاصمة البورمية ترفع الأذان خمس مرات يوميًا، وتضمين المساجد في الخرائط الإرشادية المقدَّمة للسياح.نعم، مؤسسة الجيش ترتكب جرائم العنف الجنسي والتعذيب وانتهاكات قوانين الحرب الدولية، لكن علينا أن نرى بوضوح أنها ترتكبها ضد الروهينجا – من مسلمين وغير مسلمين – وضد الجماعات المطالبة بالاستقلال وضد جماعات المعارضة للحكم الديكتاتوري وللجيش. لا حرب على الإسلام ها هنا، بل حرب على حقوق مواطني بورما وعلى الإنسانية وعلى مكافحة الفساد.لن تنتهي الحرب الحقيقية أبدًا طالما لم نرَها على حقيقتها، وطالما لم نعِ أن الحكومة والجيش البورميين في أمسّ الحاجة لتصاعد الحديث دوليًا عن الحرب على الإسلام في بورما في هذه الفترة، ماذا يضيرها أن تظهر جهات فتبتز مشاعر المسلمين وتجمع التبرعات الطائلة، أو انطلاق المظاهرات ضدها في أنحاء العالم، أو الحديث في المحافل الدولية عن الإدارة غير الديمقراطية في بورما، طالما أن الأمر يسمح للجيش بمزيد من نهب ثروات البلاد ويعطل الجماعات المناهضة للحكومة بعد قتال شديد بين الطرفين خلال 2016؟!الآن بالتحديد علينا أن نترك الحديث عن يد إسرائيل التي تضرب المسلمين في بورما، ونكف عن تداول عبارات أنقذوا بورما دون أن نعرف ممَ يجب إنقاذها، ونصم الآذان عن بيانات الجهات الدينية التي سارت وراء الادعاءات دون أن تعرف من هم الروهينجا حقًا، ومعهم من يقسمون ألا صراع في بورما من الأصل! يجب ألا نترك بورما فريسة للفساد الداخلي وطفيليات الاستغلال باسم الدين والساعين لنشر الإرهاب في دولة ممزقة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.