ليس ثمة شك أن اللقاء الذي جرى في الرياض، 23 كانون الثاني/يناير، بين وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، ورئيس الهيئة العليا للتفاوض، د رياض حجاب، كان بالغ الأهمية من جهة دلالته على حقيقة ما وصل إليه موقف إدارة أوباما من الأزمة السورية. تمثل الهيئة العليا للتفاوض، التي ولدت من مؤتمر لقوى المعارضة السورية، عقد في الرياض في كانون الأول/ديسمبر، أكبر قطاع ممكن لتنظيمات المعارضة السياسية والعسكرية. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة، وأغلب الدول التي تؤيد ثورة الشعب السوري، دعت المعارضة السورية دائماً لتوحيد صفوفها، تعتبر الهيئة العليا للتفاوض تطوراً بارزاً في مسيرة الثورة السورية. وقد سبق لواشطن بالفعل أن رحبت بمؤتمر الرياض وولادة الهيئة العليا للتفاوض. أكثر من ذلك، أن الهيئة لا تمثل القطاع الأكبر من قوى المعارضة وحسب، بل وإرادة هذه القوى واتفاقها على الانخراط في مسار الحل السياسي التفاوضي للأزمة السورية. إضافة إلى ذلك كله، جاء لقاء كيري وحجاب قبل أيام فقط من انطلاق عملية التفاوض بين المعارضة والنظام السوري في جنيف، بإشراف من الأمم المتحدة.

كان المتوقع أن يحمل اللقاء تطمينات لقوى المعارضة السورية، سيما أن الفترة السابقة على بدء عملية التفاوض حفلت بالتصريحات والتصريحات المضادة من الأطراف المعنية بالعملية، كما بقدر ملموس من الغموض، سواء في موقف مبعوث الأمم المتحدة لسوريا، أو موقفي روسيا والولايات المتحدة، الراعيين الأساسيين للعملية. ولكن اللقاء، طبقاً لمصادر المعارضة السورية، كان ربما الأسوأ في تاريخ علاقة المعارضة السورية مع المسؤولين الأمريكيين. قال كيري في اللقاء، في إشارة إلى مسائل الخلاف حول العملية التفاوضية وأهدافها، أن واشنطن لا تعترض على المقترح الإيراني حول المفاوضات؛ أن للمبعوث الأممي دي ميستورا الحق في دعوة من يريد من السوريين كمستشارين له؛ أن ليس ثمة جدول زمني سيبحث لرحيل بشار الأسد؛ أن الهدف من العملية هو التوصل لحكومة وحدة وطنية وليس هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات؛ أن من الضروري بدء المفاوضات، حتى قبل أن يتوقف القصف السوري؛ وأن عدم ذهاب المعارضة إلى جنيف سيؤدي إلى وقف الدعم الأمريكي للمعارضة.

عكس حديث كيري تراجعاً كبيراً في الموقف الأمريكي من عملية التفاوض وأهدافها، ليس فقط عن ما كانت تأمله المعارضة السورية، بل أيضاً عن ما وقع عليه الأمريكيون في إعلان جنيف الأول، الصادر في حزيران/يونيو 2012. أثار حديث كيري وإنذاره للمعارضة السورية ردود فعل غاضبة في أوساط قوى المعارضة، ولابد أنه استدعى تدخلاً ما من الدول المؤيدة للثورة السورية والصديقة للولايات المتحدة، مثل تركيا والسعودية وقطر. وهذا ما أدى إلى صدور بيان توضيحي من المبعوث الأمريكية لسورية، مايكل رتني، في 26 كانون الثاني/يناير، ادعى أن بعضاً من سوء الفهم شاب اللقاء بين كيري وحجاب، نجم ربما عن سوء الترجمة! أعاد رتني التوكيد على أن هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات هي، من وجهة نظر واشنطن، الطريق الوحيد لحل الأزمة؛ وأن واشنطن لا توافق عل رؤية بعض الجهات الأخرى (يقصد، على الأرجح، إيران وروسيا) لحكومة الوحدة الوطنية. الحقيقة، بالطبع، أن كيري قال بالتأكيد ما فهمه حجاب وزملاؤه، وأن ما عبر عنه وزير الخارجية الأمريكية لم يكن المؤشر الأول على التراجع في الموقف الأمريكي من الأزمة السورية، بل سبقته تراجعات في توافقي فيينا الأول والثاني، تشرين الأول/اغسطس وتشرين الثاني/نوفمبر 2015.

ليس من الواضح بعد ما إن كان هناك مفاوضات جدية ستبدأ بالفعل، وتستمر، في جنيف بين وفدي المعارضة والنظام، أو إن كانت جنيف ستحقق أي تقدم يذكر نحو التوصل لحل سياسي للأزمة السورية. فبالرغم من أن صلابة موقف الهيئة العليا للتفاوض حسم الخلاف حول من سيمثل المعارضة في المفاوضات لصالح الهيئة، فإن عقبات أخرى لم تكن قد ذللت، حتى بعد أيام من الموعد المقرر لانطلاق المفاوضات في 29 كانون الثاني/يناير. تحدثت رسالة الدعوة التي وجهها دي ميستورا للهيئة العليا للتفاوض عن «إقامة حكم ذي مصداقية»، ولم تشر إلى «هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات»، التي وردت في بيان جنيف 2012. كما أن رسالة الدعوة تجاهلت كلية إجراءات بناء الثقة، التي يفترض، طبقاً لقرار مجلس الأمن، أن تطبق قبل انطلاق المفاوضات، بما في ذلك فك الحصار الذي يفرضه النظام على مدن وبلدات سورية، ووقف قصف المدنيين.

ثمة انطباع بأن دي ميستورا يسعى إلى مجد شخصي، وأن همه الرئيسي إطلاق العملية والتوصل إلى حل ما، بغض النظر عن مطالب وحقوق ومعاناة الشعب السوري. ولكن المسألة، في الحقيقة، ليست دي ميستورا، بل الموقف الأمريكي. لم يكن لمشروع التفاوض في جنيف أن يوضع موضع التنفيذ، ولا لقرار مجلس الأمن أن يصدر، بدون التوافق الأمريكي ـ الروسي في فيينا. وفي حين أن روسيا لا تخفي، سواء في تدخلها العسكري المباشر في سوريا أو في تحركاتها السياسية، سعيها إلى دعم نظام الأسد والحفاظ عليه، بصورة أو أخرى، فقد كان من المفترض أن تدافع الولايات المتحدة عن مطالب الشعب السوري وقواه المعارضة، وتعمل بجدية كافية من أجل تحقيق عملية انتقال ديمقراطي، حر في سوريا. ولكن تطورات الأزمة السورية لا توحي بأن هذا هو بالفعل ما تدفع إليه إدارة أوباما. القول بأن هناك مؤامرة أمريكية ـ روسية لوأد الثورة السورية، ليس صحيحاً. ولكن الواضح في سوريا، كما في قضايا أخرى في الشرق الأوسط، أن سياسة إدارة أوباما لا تكاد تشبه ما كانت عليه في 2011.

ربما كان خطابا أوباما في القاهرة واسطنبول، بعد شهور قليلة من تسلمه مقاليد البيت الأبيض في 2009، أفضل مؤشرين إلى ما كانت إدارته تعمل على تحقيقه في سياساتها تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي. حمل الخطابان رسالة تصالحية لا تخفى، بعد ثماني سنوات من سياسة الحروب التي تبنتها إدارة بوش الابن. وبالرغم من أن الخطابين استبطنا وعياً بأن أنظمة الحكم الديكتاتورية تساهم في تفاقم الأزمات في الشرق الأوسط، لم يدع أوباما صراحة إلى تحول ديمقراطي شامل في المنطقة؛ بل بدت لغته أكثر انسحابية منها إلى المقاربة الأمريكية التدخلية المعتادة. في 2011، فوجئت إدارة أوباما باندلاع حركة الثورة العربية، كما فوجىء كثيرون؛ وفوجئت بصورة أكبر بانتشارها السريع من تونس إلى مصر، ومنهما إلى عدد واسع من الدول العربية. يقدر لإدارة أوباما، وللدور الذي لعبته وزيرة الخارجية السيدة كلينتون في التطور السريع لمقاربتها من الحركة العربية الشعبية ودعوتها إلى دعم مطالب الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد. ولكن، ومنذ 2003 على الأقل، بداية ولاية أوباما الثانية، عاد الغموض ليكتنف السياسة الأمريكية وحقيقة موقفها من عملية التحول والانتقال الديمقراطي في المنطقة.

واجهت إدارة أوباما منذ 2013 وضعاً يزداد تعقيداً في الشرق الأوسط: انقسام فادح بين أصدقائها في تركيا والخليج حول الموقف من عملية التحول الديمقراطي؛ انقسام لا يقل فداحة بين السعودية وإيران، ليس حول سوريا وحسب، بل وطائفياً أيضاً؛ انقلاب في مصر، وتطور الثورة السورية إلى حرب أهلية، وانهيار العملية الانتقالية في ليبيا واليمن؛ والتصاعد الهائل في قوة تنظيم الدولة الإسلامية، ومن ثم اتساع نطاق سيطرته في العراق وسوريا. لم يكن لدى إدارة أوباما الاستعداد لتحمل التكلفة المتزايدة لتبني سياسة إيجابية في الشرق الاوسط؛ وبدلاً من أن ترمي بثقلها إلى جانب قوى التحول الديمقراطي، اختارت أن تجعل أولويتها تحقيق هدفي الاتفاق النووي مع إيران، ثم محاربة الإرهاب، وبتكلفة قليلة نسبياً.

ليس ثمة أمل في تحول إيجابي في السياسة الأمريكية، لا تجاه سوريا ولا في أي من دول الثورة العربية الأخرى. الأمل، أن تمارس دول المنطقة، الحليفة للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، ما يكفي من الضغط لمنع انحدار الموقف الأمريكي إلى ما هو أسوأ؛ سيما أن هذه الدول قبلت، من البداية، تحمل أعباء الحرب على الإرهاب، بدون أن تحصل من واشنطن على أي مقابل يذكر.