نعيش حاليًا حالة الانقسام الداخلي في مجتمعاتنا أكثر من أي وقت مضى، أصبح أسهل شيء تتداوله المجتمعات العربية بشكل خاص هو تخوين بعض أطياف المجتمع من قبل السلطة. وبمرور الوقت تصبح فلسفة التخوين جزءًا من هوية الشعب نفسه، ليقوم هو بمهمة خلق الانقسامات الطائفية، والعرقية، واللغوية، وينشغل بكل تلك الحروب الجانبية، ولا يتنبه إلى معركته الحقيقية من أجل الحرية؛ الحرية التي تسرقها الحكومات والدول الديكتاتورية.

أصبحت فلسفة التخوين جزءًا من هوية الشعب نفسه، ليقوم هو بمهمة خلق الانقسامات الطائفية.

سياسة «فرق تسد» ليست وليدة هذا العصر، بل هي نتاج عصور قديمة، لكنها لا زالت تتكرر حتى اللحظة في مختلف المجتمعات بسبب الطبيعة البشرية التي لا تتغير. ومن جهة أخرى، بسبب غياب وعي المجتمعات بخطورة تلك الظاهرة على تماسكها وقدرتها على بناء ذاتها ووعيها ضد طغيان الأنظمة الظالمة، ترسخت هذه السياسة في الذاكرة المجتمعية لمختلف الشعوب بشكل أو بآخر لعدة أسباب: أبرزها غياب فكرة دور المجتمع وتغليب دور السلطان في الفقه السياسي تاريخيًا. أما في العصر الحديث، ارتبطت فلسفة الانقسام بالتأثير المدمر الذي تركه الاحتلال الأوروبي للدول العربية بعد سقوط تركة الرجل المريض كما أطلق على الدولة العثمانية حينها. وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على استعادة الشعوب العربية حريتها، إلا أنها حتى الآن لا زالت تعاني من زحفها الطويل نحو الحرية والذي لم يثمر نتيجة واضحة حتى الآن.

الثورة الأخيرة التي فجرت بركان الغضب لدى الشعوب العربية حرّكت الراكد، لكنها لم تأت بماء جديد؛ إذ أن بثور العنف وبذور الانقسام والطائفية لا زالت متخللة لذاكرة تلك الشعوب، ومن هنا أخذت المشاكل القديمة تكرر نفسها، وعادت المعارك التاريخية مجددًا للحاضر، واستمرت فلسفة فرق تسد في حكم القرن الواحد والعشرين. يناقش الكاتب الأسترالي ج.م. كوتزي في روايته «في انتظار البرابرة» هذه القضية بشكل عميق تدفعنا لأن نعيد التأمل في فكرة الانقسام الداخلي، كما تدعونا لأن نتأمل أعداءنا الذين نصنعهم، بينما نترك أعداءنا الحقيقيين ليصنعوا الحروب بيننا وبين أعدائنا من أبناء جلدتنا.

في سياق روايته، يتحدث كوتيزي عن القاضي الذي فضل خلق واقعين لنفسه حتى يتمكن من مواصلة العيش: واقع يرضي إمبراطورية ما وراء البحار، وواقع يرضي ضميره. الواقع الأول عاش فيه طيلة عمره حتى جاوز سن الحكمة بكثير، بينما واقعه الآخر بقي حبيسًا في أرففه وأدراج خزانته، وأوراقه الصفراء. وكلما جاء الجنود بمجموعة جديدة من الرعاة أو الصيادين يعود القاضي إلى نفس النقطة، ويسأل نفسه إن كانوا حقًا هم البرابرة الذين تبحث عنهم الإمبراطورية. عندما جاء العميد جول وبدأ يحقق مع الرعاة الذين قبض عليهم الجنود بتهمة الاختباء خلف الشجرة، سأل القاضي نفسه أكثر من مرة إن كانت تلك تهمة حقيقية!.

وعندما قتلوا الواحد تلو الآخر في جلسات التعذيب، بقي القاضي رهين السؤال، ولم يمتلك شجاعة الإجابة؛ لأنه كان يعلم أن ثمن الإجابة مخيف، لكن موت الضمير بدأ يؤرقه خصوصًا بعد أن مات طفل لامرأة راعية أُخذت مع الرعاة الذين اشتبه بهم الجند بأنهم برابرة. وذات يوم عندما غادر العميد جول مع الجنود ليلاحقوا البرابرة إلى خلف السهول والجبال حتى يحموا الإمبراطورية حاول القاضي أن يثنيهم دون فائدة، وعندما عادوا بمجموعة من القبائل الرحّل الذين كانوا بمثابة غنيمة ثمينة للعميد جول، الذي سيثبت للإمبراطورية مدى فائدته وقدرته على حمايتها من وراء البحار، تم تعذيب البرابرة أمام الشعب حتى يدرك أن البرابرة موجودون حقًا. وفي جلسات التعذيب الطويلة كان عددهم يتناقص، وكل يوم يطل القاضي ويشرف من طرف خفي على تلك المحاكمات، وتبتدئ جولة الحرب بين واقعه الظاهر وواقعه الباطن، ودائمًا ما ينهزم لواقعه الذي رسمته الإمبراطورية.

تم تعذيب البرابرة أمام الشعب حتى يدرك أن البرابرة موجودون حقًا.

لم يكن من السهل عليه أن يقف وحيدًا أمام فراغ الإجابة للفتاة البربرية التي أصبحت عمياء من التعذيب. بعد أن يأس العميد جول من استخراج أي أجوبة من البرابرة الذين حبسهم، قرر أن يطلق من تبقى منهم، لكن تلك الفتاة بقيت في المدينة التي أسرتها وسرقت نور عينيها، بقيت لأن قومها لم يستطيعوا أن يأخذوها، وبقيت لأنه لم يعد معها أحد، قالت للقاضي ذات يوم أنها رأتهم قبل أن تفقد بصرها كيف قتلوا والدها، وكلف فعلوا بالآخرين، وحتى تلك اللحظة لم تكن تعرف تلك الفتاة الريفية أي تهمة تحمل، لكنهم أخبروها أكثر من مرة أن تهمتها الوحيدة هي أنها تنتمي للبرابرة.

في موسم ذلك الشتاء قرر القاضي أن يقوم بعمل لا ينتمي لواقعه الذي يكرهه، قرر أن يعيد الفتاة إلى قومها، وشدّ الرحال بثلاثة جنود وأوصلها بعد مشقة إلى أحد القبائل البعيدة التي ستتولى أمر إيصالها لأهلها، ولأول مرة يشعر باقترابه من الإجابة على أسئلته القديمة، لكن بمجرد أن عاد كان العميد جول بانتظاره، وهناك أمره بالاعتراف بأمر خيانته للإمبراطورية وبتعاونه مع البرابرة. كان القاضي يعلم أن مثل هذا اليوم سيأتي، فالعميد جول لم يكن يحب الأسئلة الكثيرة التي كان القاضي يطرحها، كما أنه شعر بقلة حماسة القاضي للمحاكمات الواسعة التي كانت تدين البرابرة، كان يجب أن ينقذ الإمبراطورية من خطر القاضي نفسه، وقف القاضي حينها لأول مرة في صف ضميره، وأخبره أنه لم يقم بشيء سوى أنه قام بدور إنساني بسيط، لكنه لم يكن يعلم أن مثل تلك الإجابة ستدخله عوالم أخرى لم يكن يتخيلها، ومن تلك اللحظة فقد القاضي كل شيء، حتى كرامته، حتى رغبته في الأشياء، وجد مختلف الأجوبة على أسئلته القديمة لكنها كانت مُرّة، مرة بطعم التعذيب والإهانات التي وجدها، حتى عندما كان يحاول أن يوعي الناس لم يكن أحد ليسمع له، وكأن الإمبراطورية سرقت منه حتى هيبته.

حارس السجن مانديل الذي كان أشبه بعبد للقاضي في السابق، أصبح هو المشرف الأساسي على تعذيبه، وأمام مختلف أشكال التعذيب التي كان يتلقاها القاضي كان يسأل نفسه حول حقيقة شعور مانديل، ولطالما حاول أن ينقذ ضميره دون فائدة. بسبب الخوف لم يعد الناس يخرجون للمزارع أو الآبار، ماتت الحقول، وأصبح الناس جوعى يأكلون من المحاصيل التي خبأوها سابقًا، وطلبت الإمبراطورية منهم التبرع بمحاصيلهم تلك للجيش الذي يبحث عن البرابرة فزادت معاناة الناس، فر بعضهم إلى حقول مجاورة، وعندما وجدهم الجنود ظنوهم برابرة!.

حلم القاضي بعودة الأيام الطبيعية إلى المدينة، بحيث يتمكن الأطفال من اللعب في الشوارع العامة، ويذهب الناس إلى الحقول ليزرعوا، ويتحركوا بكل أمان بعيدًا عن فزاعة البرابرة، لكن الواقع كان غير ذلك. الجنود الذين لم يجدوا برابرة لم يعودوا يبحثون عنهم في الحقول المجاورة، بل أصبحوا يعتدون على سكان المدينة نفسها لأن البرابرة لم يصلوا بعد.

تحمل هذه الرواية جملة من العناصر الفنية، أبرزها عمق الفكرة، والبناء القصصي الشيق، والوصف الإبداعي، وإن كان الوصف مبالغًا فيه، لكن لا يمكننا أن نحكم تمامًا على هذا الجانب نظرًا لأن الرواية مترجمة عن لغة أخرى. توظيف الشخصيات والحبكات وتسلسل الأحداث، كل هذه العناصر زادت من القيمة الفنية لهذه الرواية التي بتنا نشهد فصولها في واقعنا؛ إذ أن البرابرة الذين لم يأتوا إلا بعد أن تمت صناعتهم في بعض المجتمعات، وأصبح واقع الدولة هو الأساس الذي ينبغي أن يتبعه الجميع، وبقي واقع الضمير مهمشًا، خائفًا من تهمة دعم البرابرة، ولهذا استمر الظلم وانتهاك حقوق الآخرين بتهمة الاختلاف، أيًا كان نوعه، سواء اختلاف اللغة، أو الدين، أو المنطقة، أو البلد. كل تلك الأسباب جعلت مجتمعاتنا مفخخة بالخوف من البرابرة، البرابرة الذين لا يوجدون إلا في عقول الأنظمة الظالمة.