الحزن: ثِقَلٌ يَجثُم على الصدر يمنعك من التعاطي مع الحياة بشكلٍ طبيعي متوازن، هذا الثِقَلُ فور جثومه يعبث بكل موازينك، يدفعك دفعًا للجنون، تفقد المعنى الحقيقي للحياة كبدايه تشعر معها برغبة جامحة في العزلة وعدم مواجهة البشر أو التعاطي معهم بأي شكل من الأَشكال، لكن الرغبة وحدها لا تصلح كسلاح لتنفيذ هذا الانقلاب على حصنك الآمن فتعمل هذه الرغبة عمل السوس الذي يَنخِرُ الخشب رويدًا رويدًا حتى يصل إلى مقصده ولو بعد حين، وما أن يصل إلى مقصده هذا حتى يكون رأب الصدع دَربٌ من دروب المستحيل، فتبدأ رحلة السقوط البطيء في الفخ.

الفخ، ترى واقعك مغايرًا كأنما تراه للمرة الأولى، واقعٌ يخالف رغباتك وتطلعاتك بل ومقاييسك المعتادة في الحياة، واقعًا ترفضه، تغلبك بعض المشاعر السلبية التي تحبسك عن أي مشاعر أخرى قد تساعدك في مواجهة حزنك، يقتحمك الإحباط أولًا فترى أن كل ما تقوم به غير ذي نَفع فلا طائل من محاولاتك ولا جدوى من ادعائك القوة، شعورٌ يأخذك إلى اليأس كمرحلة متقدمة بعد الإحباط، اليأس من أي خطوة لتغيير الواقع الذي ترفضه من قبل، اليأس الذي يقعدك عن محاولة الخروج من المتاهة مرات ومرات، اليأس الذي يأكل الأمل كما تأكل القطة أولادها.

كثرة المقاومة ضد تيارٍ عالٍ قد تصيبك بالإجهاد ولو كنت قرب خطوة من الانتصار، فليست كل المقاومة صحيحة الأسلوب والطريقة أو قوية الدافع بما يكفي

الإحباط، اليأس، العزلة، الكسل، الغضب، التشتت، التسرع، فقدان الرغبة، فقدان الروح؛ كلها أعراض جانبية للحزن، الحزن وحده يفعَل كل ذلك، كل ذلك وأنت ربما لا تدري ماذا يحدث لك وبالتالي لا تدري كيف تتعامل معه.

الخروج، يحاول الجميع الخروج من دائرة الحزن المغلقة بينما القليل والقليل فقط من يحاول التعامل معها بتجرد وحيادية، أن يتقبل تلك الدائرة بما لها وما عليها، كثرة المقاومة ضد تيارٍ عالٍ قد تصيبك بالإجهاد ولو كنت قرب خطوة من الانتصار، فليست كل المقاومة صحيحة الأسلوب والطريقة أو قوية الدافع بما يكفي.

الاعتراف بالهزيمة في معركة ما قد يكون أول خطوة نحو الانتصار في الحرب، ليس في ادعاء القوة دائمًا قوة، والتشبث بالصمود الأسطوري في مواجهة الصعاب ليس سلاحًا كافيًا كي تصمد حقًا، يقول محمد حسن علوان في رائعته «سقف الكفاية»: «لقد تعلمتُ أن الاستسلام للحزن أحيانًا أشجع من مقاومته، بعض الأحزان لم تأت لتقاتلنا، بل لتعتصم حول جراحنا أمام الأقدار» فربما خطوة للوراء تساعدك على المُضِي ألف خطوة للأمام.

لا توجد لافتة في مقتبل السفر تخبرك أي الطرق أسهل، أي الطرق أيسر، أي الطرق صحيح أصلًا، كل دروس الحياة التي تعلمتها قد لا تفيدك في حربك الخاصة مع الحزن، كلٌ منا له أسلوبه وسلاحه وحصنه الخاص في مواجهة تلك الحرب، وحين نؤمن بذلك سوف نؤمن أيضًا أن أسلحة الآخرين الذين نجو من المعركة ربما لا تلائمنا وأن تجارب الآخرين قد لا تنطبق علينا، وأنّا وجب علينا اختراع أسلحتنا الخاصة ولو من العدم، لن يعيرك أحدٌ سلاحه.

ربما لم أجد متسعًا في الحديث كما وجدت في الحديث عن الحزن، لا أدري لم الحديث عن الحزن يغالب كلماتي في الآونة الأخيرة؟! ربما لأني غريق بحره منذ أعوام لا أرى حتى قشة اتعلق بها، ربما، وربما لأن الحزن أضحى طابعًا أساسيًا في وجوه الجميع، لست وحدي، ربما، رغم ذلك تعلمت معه دروسًا لم أكن لأتعلمها لولاه.

تعلمت أن الحزن ليس بالضرورة يحمل كل هذا السوء الذي نظن، الإنسان عدو ما يجهل وربما جهلنا بماهية الحزن تفقدنا صلابة جدار المقاومة، خارطة الطريق التي تدلك على مسلك آمن للخروج، أو اتفاق الهدنة للتعامل مع الأمر كما هو.

ماذا لو عرفنا الحزن حقًا! الحزن لا ينبغي أن يكون أمرًا سيئًا، يجب أن يكون أمرًا معتادًا، جزءٌ طبيعي من الحياة له حجمه ومساحته التي تخصها به، السيئ في الأمر أننا لا نستطيع التعامل معه، ولكن، ماذا لو استطعنا؟ هل كان الحزن يأخذ منا كل هذا الجهد في مواجهته؟ لا يمكن.

تعلمت أن الحزن وقت وسينقضي، مهما طال عليه الأمد، وقت وسينقضي، طول الوقت أو قصره يعتمد عليك في المقام الأول ثم على ما يحيط بك؛ إن كان خيرًا فخير وإن كان شرًا فشر، كل المصائب مهما تعاظمت يخفت ضجيجها وإن بقي، يخفت أنينها وإن بقي، كلٌ يمضي طالما تمضي أنت في طريقك.

الحزن ليس بالضرورة يحمل كل هذا السوء الذي نظن، الإنسان عدو ما يجهل وربما جهلنا بماهية الحزن تفقدنا صلابة جدار المقاومة

تعلمتُ أن الإنكار جزء من الداء فطالما تنكر أن الأمر لا يحدث أو غير صحيح فلن تظل في موضعك كما تأمل، الحياة تمضي شئت أم أبيت ووقوفك في موضعك لا يعني إلا تخلفك، خياران لا ثالث لهما، أن تمضي في مسيرك أو أن تتخلف فالتخلف هنا عقابه الإنكار الذي قد تصُدُك عن الحياة ما لم توقفه.

تعلمتُ أننا لا نُقَدِّر أنفسنا حق قدرها لأننا لو فعلنا حقًا لكان لنا شأن آخر، أفضل بالتأكيد، رحم الله عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين حين قال لابنه يعلمه؛ فعلمنا جميعًا من بعده (رحم الله امرأ عرف قدر نفسه) ونفسك التي وهبك الله إياها أغلى وأجمل من أن تهينها بحياة كَدِرة، اعرف قدر نفسك وأعطها حقها، ولما كان قول ربنا سبحانه في الكتاب المبين سورة الأعراف: (وَلَا تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) حق فأحق بنا ألا نبخس أنفسنا أشياءها.

أخيرًا، الحزن وإن كان معولًا للهدم فهو أيضًا حجر للبناء، خيارك أنت، ولكل خيار طريقه الصعب، وآثارٌ قد تمتد طَوال العمر فانظر ماذا ترى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.