عام 1930 اعتلى عرش إثيوبيا الإمبراطور هيلا سيلاسي، صنع هيلا تاريخ إثيوبيا بوصوله للسلطة وبرحيله منها. ففي فترة حكمه تحولت إثيوبيا لدولة رائدة في أفريقيا، وتلعب دور الأخ الأكبر للعديد من المتنازعين الأفارقة، فوقف وسيطًا بين المغرب والجزائر في حرب الرمال التي دارت عام 1963، وساند النزعة الاستقلالية في كافة الدول أثناء حقبة الاستعمار الغربي لأفريقيا. وحين نفاه الإيطاليون للخارج مع احتلالهم لإثيوبيا، طاف المحافل الدولية ينشر قضية بلاده وينتزع لها الضغط الدولي.

عاد مرة أخرى للسلطة عام 1941 حين هاجم البريطانيون الإيطاليين ضمن معارك الحرب العالمية الثانية. بعد عودته ركزّ هيلا سيلاسي، أو قوة الثالوث كما يعني اسمه بالأمهرية، على التنمية الداخلية والإصلاحات الاجتماعية، لكن في الستينيّات حدثت محاولة انقلابية على هيلا أثناء زيارته للبرازيل، انتهت المحاولة بالفشل لكنها لم تخرج من عقل الرجل إذ تحوّلت سياساته للقمع بشكل واضح.

وعانت مناطق متفرقة من البلاد من مجاعات أدت إلى تأجج الغضب الشعبي تجاه الإمبراطور، خاصةً بعد إنفاقه لقرابة 35 مليون دولار للاحتفال بعيد ميلاده الثمانين، وانتشرت الصور له وهو يُطعم كلابه أفخم الأطعمة والمجاعة تفتك بالشعب، وأودت بالفعل بحياة 100 ألف مواطن. بجانب الجوع زادت البطالة وارتفعت الأسعار بصورةٍ لم تعرفها إثيوبيا من قبل.

في ظل هذا التردي بات انفجار الشعب متوقعًا، لذا في فبراير/ شباط عام 1974 خرجت الجموع الغاضبة تعلن احتجاجها، سقط القتلى من المتظاهرين ومن قوات هيلا التي حاولت قمع تلك الاحتجاجات. اُضطر هيلا لإصدار عدد من القرارات الإصلاحية، لكنها لم تكن على قدر رغبة المتظاهرين الذين لم يعد يرضيهم إلا رحيل هيلا ذاته.

الجيش يقمع الجميع

الجيش الإثيوبي يتربص بما يحدث، وقرر التدخل بقيادة أمان عندوم، فانطلقت مسيراته العسكرية من أسمرة. هيلا، أو كما أطلق على نفسه الأسد القاهر من سبط يهوذا المختار من الله ملك إثيوبيا، رضخ فورًا لمطالب الجيش، التي لم تكن رحيله كإمبراطور بل زيادة رواتب الجيش وتعيين رئيس حكومة جديد للبلاد. لم تنته الاحتجاجات واستمرت لأربعة أيام إضافية قام فيهم الإثيوبيون بإضراب شامل شلّ كافة مناحي الحياة.

اضطر الجيش الإثيوبي لتشكيل لجنة عسكرية منفصلة تُسمى دِرغ، في يونيو/ حزيران 1974 لتنفذ رغبات قيادات الجيش وتحاول في الوقت ذاته تهدئة المتظاهرين. أخذ نفوذ تلك اللجنة في الازدياد حتى ابتعلت الجميع، ومن ضمن من ابتلعتهم هو هيلا نفسه إذ أطاحت به في 12 أيلول/ سبتمبر 1974، ووضعته تحت الإقامة الجبرية ليكون بذلك آخر إمبراطور في إثيوبيا.

لم تكتف اللجنة بإسقاط هيلا بل استمرت لعدة أسابيع لاحقة، بمشاركة الجيش الإثيوبي، في اعتقال وإعدام العديد من أقارب وأصدقاء ورجال هيلا سيلاسي المقربين. أما هيلا شخصيًا فقد أعلن التلفزيون الرسمي وفاته بسبب التهاب البروستاتا، لكن لاحقًا حين سقطت دِرغ عثر المحققون عام 1991 على بقايا جثة هيلا سيلاسي مدفونةً تحت مرحاض القصر.

رحيل هيلا وسيطرة دِرغ وقائدها منجستو مريام لم يُحسن الأوضاع في البلاد، بل زاد من ترديّها، والأسوأ أن تلك الطُغمة العسكرية قد حكمت البلاد بالحديد والنار، وقتلت عشرات الآلاف من الشباب، وعُرفت تلك الحقبة باسم الإرهاب الأحمر. لكن إرهابها لم يقتصر على فترتها الزمنية فحسب، بل امتدت آثارها حتى يومنا الحاضر.

الإرهاب الأبيض ضد الإرهاب الأبيض

ألغى منجستو النظام الملكي، وأعلن أنه سوف يتصدى لكل عمليات الإرهاب الأبيض التي أعلن عنها معارضوه ومن بينهم الحزب الشعبي الثوري الإثيوبي، الذي يتشارك مع دِرغ ومنجستو في التوجه الاشتراكي الشيوعي. لكن الطرفين استخدما أساليب شديدة البشاعة ضد بعضهما، مثل الاغتيال السري والإعدامات بدون محاكمات واعتقال الآلاف. لتكون إثيوبيا بذلك قد وقعت في حرب أهلية يتحارب فيها الإرهاب مع بعضه، مع اختلاف في المصطلح فحسب، إرهاب أحمر من جهة الحاكم، وإرهاب أبيض من جهة المعارضة.

ويمكن القول إن إثيوبيا دخلت في سلسلة من حرب العصابات ضد الاتحاد الديموقراطي الإثيوبي، وجبهة تحرير شعب التيجراي. وفي نفس الحقبة واجهت البلاد محاولة للغزو من الصومال لاحتلال الأجزاء الشرقية من إثيوبيا. نجحت إثيوبيا في هزيمة الصومال بفضل المساعدات العسكرية الضخمة التي حصلت عليها من الاتحاد السوفييتي وكوبا وكوريا الشمالية، لدرجة أن إثيوبيا أصبحت من أفضل الدول الأفريقية تسليحًا.

ورغم أن لجنة دِرغ الحاكمة قد ملّكت الأراضي للفلاحين كما وعدت، فإن البلد كان مستنزفًا بفعل الحروب المستمرة، فانخفضت الإنتاجية الزراعية وارتفعت الأسعار بشكلٍ كبير. وفي أوائل الثمانينيات ضربت البلاد مجاعة شديدة دمرت معيشة 8 مليون إثيوبي، وفتكت بأرواح مليون منهم.

كشفت تلك الأزمة للإثيوبيين أنهم لم يعودوا يحتملون فشل الطغمة الحاكمة، لهذا بدأت سلسلة من عمليات التمرد في مناطق مختلفة. وبالطبع كان سبيل منجستو للتعامل معها هو القمع العسكري، لم تكن مجرد عمليات قمع للتظاهرات أو تفريق للمحتجين، بل دشّن منجستو العديد من العمليات العسكرية مثل عملية شيرارو وعملية لاش وعملية أدوا لضرب التمرد في مهده بسحق رموزه ونقاط تجمعهم.

الأقليّة تخدع الجميع، وتسيطر

أدرك رفاق منجستو أن كلفة الاحتفاظ به صارت باهظة، فأطاحوا به عبر التحالف مع ائتلاف من الثوار الذين تآلفوا في الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، بعد أن نجحوا عام 1991 في الدخول للعاصمة أديس أبابا بقوة السلاح. وتدخلت الولايات المتحدة في الأمر فقبل منجستو بوقف القتال وطلب اللجوء السياسي إلى زيمبابوي.

رحل منجستو، واستقلت إريتريا التي كانت خاضعة للوحدة بالقوة تحت حكم هيلا، وقامت جبهة الثوار بحلّ حزب العمال، ذراع منجستو السياسي، واعتقلت كافة مسئولي الحزب، وأدانتهم بالإبادة الجماعية، ومات من هؤلاء المسئولين 14 شخصًا في السنوات الطويلة للمحاكمات التي امتدت من عام 2006 حتى اليوم.

كانت جبهة الثوار واعدة، وبدا أنها سوف تُنهى سنوات القمع والقهر، وفي عهد ملس زيناوي قام التحالف بتبني إستراتيجيّة ناجحة تهدف للنمو الاقتصادي، والأهم أنها دعت لتجاوز الإثنيّة والعرقية وتبني ثقافة جديدة لحل المشاكل تقوم على الحوار والنقاش، ووضع نظام فيدرالي يحترم كافة مكونات المجتمع الإثيوبي ويضمن حق تقرير المصير للجميع.

لكن تلك الأحلام الوردية ظلت حبيسة العقول والأوراق ولم يُنفذ منها على أرض الواقع سوى قمع قادة المعارضة، وإضعاف قدرة الأقاليم وحكوماتها على تحقيق أي إنجاز سياسي مخالف لما تريده الحكومة المركزية، ولم تتمتع أي جهة إثيوبية بحكم ذاتي كما وعدتهم الجبهة خصوصًا إقليم أورميا الذي ظلّ لمدة عقد كامل يحاول الاستقلال دون فائدة.

والمفاجئ أن جبهة تحرير التيجري، والتي هي في الأصل أقلية إثيوبية، سيطرت على الحكم وعلى زمام الأمور لمدة 30 عامًا كاملة، ولم يُكسر هذا الاحتكار إلا بقدوم آبي أحمد في الأعوام الماضية لسدة الحكم.

إرث القمع لا ينتهي

لكن حتى بعد قدوم آبي أحمد وحصوله على نوبل للسلام لم تهدأ إثيوبيا، ولم تسترح من العزلة والفقر. لأنه بعد سقوط العدو المشترك بانت الانقسامات الداخلية بصورة فجّة، فتشرذمت الجبهة الديموقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية  إلى جبهات عدة منها، جبهة تحرير التيجراي، والحزب الديموقراطي الأمهري، وحزب الأورمو الديموقراطي، والحركة الديموقراطية الشعبية لجنوب إثيوبيا.

وهمّشت أقلية التيجراي، 6% من السكان، بقية العرقيّات بمن فيهم أمهرة، 25% من السكان. وخلقت تلك السيطرة الظالمة العديد من الصدوع في البنيان الإثيوبي، تزداد وضوحًا مع كل توسع تقوم به جبهة التيجراي، والذي يرافقه في نفس اللحظة تضييق على سلطات باقي العرقيات.

بلغ الأمر ذروة في قرار رئيس الوزراء ديسالين على سحب 120 كيلو مترًا مربعًا من أرض الأورمو المحيطة بالعاصمة أديس أبابا، تقول حكومة ديسالين إن الدافع الاستثماري تنموي، ويعتقد الأورمو أن تقليص أرضهم هو الدافع الأساسي.

هذا الإرث القديم لم يتجاوزه أحد، حتى آبي أحمد الحاصل على نوبل أدرك أنه لن يستتب له الأمر إلا بالتخلص من عرقية التيجراي. فبدأ حكمه بالتخلص من عشرات القادة من عرقية التيجراي، مثل رئيس أركان الجيش ورئيس جهاز المخابرات. ما أشعل غضب التيجراي وبدؤوا في سجال كلامي طويل مع آبي أحمد، وصل إلى حد الاشتباك العسكري والقمع الذي يشهده الإقليم في الفترة الحالية.

ومهما تكن نتيجة تلك الصراعات، فإن المنتصر فيها لن ينسى أن بقاءه مرهون بقمع الآخر، ما يعني أن هذا القمع قد لا يصل إلى نهاية.