للتاريخ روايتان، تخرج إحداهما للنور، وتبقى الأخرى في ذاكرة أصحابها من الأنفار وذاكرة البلدان، لا تُمحى لكن قلَّ من يذكرها. ولكن، هل يختلف الحاكم والمحكوم في نظرتهما حول التاريخ؟

هذا ما يُقرِّره خالد فهمي في كتابه «الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة»، والذي ترجمه «شريف يونس»، وصدر عن «دار الكتب والوثائق القومية» عام 2005. حيث اعتمد فهمي بدايةً على ما سماه «المسكوت عنه» في كتب المؤرخين، فيعتمد في كتابه هنا على نظرة الأنفار أو الناس العاديين وليس ما تدوِّنه السلطة ومؤرخوها.

فقد كان القرن التاسع عشر مسرحاً لكثير من التغيرات التي أحدثت فارقاً في تاريخ مصر الحديث، وذلك بعد تولي محمد علي باشا حكم البلاد، فأخذ على عاتقه إجراء العديد من الإصلاحات –اتفقنا أو اختلفنا عن الغرض منه- التي ما زلنا نشهد آثارها حتى اليوم.

كان الطب من تلك الجوانب التي حازت اهتمام الباشا، والذي رأى أهميته بعد عدة حوادثٍ كادت تُهدِّد عرشه.

رأى خالد فهمي أن الاعتماد على رواية المؤرخين الاعتيادية لتناول تلك المرحلة من حياة المصريين أمر يعتريه الكثير من القصور، وتحوم حوله الكثير من الشكوك، فأخذ يؤرِّخ للحقبة التي ظهر فيها نظام الطب الحديث بمصر وكذلك تطور النظام القضائي، ولكن هذه المرة اعتماداً على رؤية الأنفار أنفسهم لا السلطة، كونهم المادة الأساسية التي صارت مسرحاً للتجارب المختلفة، ويستند في ذلك كله إلى الوثائق المحفوظة بدار الوثائق القومية المصرية.

لماذا اهتم الباشا بالطب في مصر؟

يعزو المؤلف فهمي ذلك الاهتمام الذي أبداه الباشا بهذا الجانب في حياة المصريين للصورة التي أراد أن يُصدِّرها لسفرائه الأوروبيين، الذين احتاج تأييدهم في مشروعه الانفصالي عن الدولة العثمانية. فكان الاهتمام برفاهيات المصريين جزءاً من الطريق الذي سلكه محمد علي لإظهار التغيير الذي أحدثه في المنطقة التي باتت تحت حكمه.

لسنا هنا في موضع يجعلنا نُقيِّم سياسات الباشا وأهدافه، أو الحكم عليها سلباً وإيجاباً، لكننا نتيّقن أن رفاهيات الشعوب قد لا تكون هدفاً في ذاتها، وإنما قد لا تعدو كونها وسيلةً لتحقيقِ هدف أكبر، هدف قد يحدّ من حرية البشر ويُضيِّق الخناق عليهم، فكأن الرفاهية جزء من قبضة السلطة، بها قد تفتك بالأنفار بعد التمكن منهم.

علاقة الجيش بنشأة الطب الحديث

اعتمد الجيش المصري في تكوينه على التجنيد الإجباري للذكور، وكان الجيش في بداياته سيئ السمعة، فعمد كثير من المصريين إلى الهرب فراراً من التجنيد الإجباري في جيش الباشا، مما تسبَّب في حالةٍ من التفكك الأسري والاجتماعي في المجتمع المصري، وأفضى ذلك كله إلى اتجاه كثير من النساء لبيع أجسادهن، فانتشرت الدعارة التي وجدت سوقاً خصباً وسط جنود الباشا، وهذا ما أدى إلى انتشار مرض الزهري الذي امتد حتى صار وباءً لا يُمكن تجاهله.

فكان الأمر وكأنه حلقة مُفرغة، يأتي التجنيد الإجباري، يهرب الناس فتتفكك الأسر، تتجه بعض النساء للدعارة فيُصاب الجنود!

إضافة للزهري كان الجدري مرضاً قاتلاً كاد يفتك بالدولة الحديثة، ويؤثر سلباً على قوة الباشا وجيشه، وبالتالي يُزعزع سلطته، ومن هنا كان الاهتمام بالطب أمراً لا مفر منه.

وعليه، فإن التغيير السريع الذي أحدثه الباشا، حتى وإن كان قد شكّل في مجمله قوة كبرى للدولة المصرية في ظاهرها، إلا أنه قد أودى بكثيرٍ من التفاصيل المُكوِّنة للمجتمع المصري، فتفكّكت كثيرٌ من الأسر، ولجأ الرجال للهرب، واضطرت النساء لإحداث إصابات شتى في أجساد أبنائهن لمنعهم من التجنيد، واضطر بعضهن لبيع أجسادهن، فكان المجتمع في أسفله يعاني من حالةِ اضطراب لم تجد من يعني بها أو بتأريخها، مع أنها قد تُشكِّل تاريخاً منسياً لمصر الحديثة.

كيف تعامل الأنفار مع التطور الطبي؟

كان تأثير الطب الحديث على العامة واضحاً جلياً، فقد صارت أجسادهم مادةً للتجربة، وكذلك أنماط حياتهم، مما جعل الفترة التي تلت ظهور الطب الحديث بمصر تختلف تماماً عن الفترة التي تسبقها.

عزف العامة في البداية عن التعامل مع «اسبتالية القصر العيني» التي أُنشئت حديثاً، وذلك لأنها فيما ذكر فهمي –وعلى عكس المشهور في كتب التاريخ- كانت سيئة السمعة، من حيث العناية والنظافة، فكان الأنفار يُفضِّلون العلاج في بيوتهم، وكان ذلك نتيجة لبعض السياسات المتبعة في إدارة النظام الطبي حينها.

همّش النظام الطبي الحديث المريضَ، ولم يكن لحديثه قيمةً تُذكر في غالب الأحيان، بعد استحداث النظم الطبية التي تُمكّن الطبيب من مخاطبة الجسد دون الحاجة لحديث المريض.

ومع ذلك فقد تغلغل الطب الحديث في جسد المجتمع المصري، وصارت الدولة مُتحكمة في أجساد البشر، وذلك بعد استحداث بعض النظم الخاصة بتسجيل المواليد والوفيات، وكذلك نظام الكشف عن أسباب الوفاة الذي اتصل بالتطور الموازي في النظام القانوني.

بدأ الطب التقليدي في التراجع شيئاً فشيئاً لحساب الطب الحديث، حتى مع محاولات الأنفار الالتفاف حول هذه السلطة الحديثة.

كانت محاولات الالتفاف تلك مؤشراً مهماً على الطريقة التي يرى بها الناس العاديون إصلاحات الباشا، وكيف أن الطريق لم يكن مُمهداً، وأن الإصلاحات ذاتها لم تكن بتلك الكفاءة التي حاول مؤرخو الباشا تصديرها.

أجساد النساء: هدف الباشا صعب المنال

أحكم الباشا سيطرته على أجساد الرجال بالنظم المذكورة وكذلك بإجراءات الالتحاق بالجيش، فبقيت أمامه معضلة كبرى وهي أجساد النساء، وكانت أجسادهن خطوة مهمة في طريقه نظراً لتأثيرها العميق على سلطته، فكما أسلفنا كانت سبباً رئيسياً في انتشار الزهري بين جنوده، ومن هنا كانت بدايات البحث عن طريقةٍ لإحكام القبضة على أجسادهن.

بدأ الباشا في إنشاء مدرسة للقابلات، تعنى بالنساء وبالصحة العامة لهن، وكانت خطةُ حالمة تهاوت على وقع عزوف المصريين عن إلحاق بناتهم بتلك المدرسة، فلجأ الباشا للاعتماد على بعض النساء اللاتي قد اشتراهن من السودان، وكذلك بعض اليتيمات اللاتي صرن نواةً لإنشاء المدرسة.

لم تكن المهمة سهلة في بداياتها، وكان الإخفاق يُحيط بها من كل جانب، نظراً لقلة خبرة النساء في المجال الطبي وكفاءتهن، وكذلك قلة أعدادهن، وكانت سنين طويلة حتى استتب الأمر واستقر قليلاً.

بإحكام سيطرته على أجساد النساء، باتت أجساد الأحياء جميعهم في قبضة السلطة الحاكمة، تتخذ ما أرادت منها مادةً للتجارب، تُحكم القبضة شيئاً فشيئاً، فتزيد قوة الباشا بازدياد سيطرته على أجساد الأحياء والحدّ بينها وبين الأمراض والأوبئة.

الطب والقانون ومصر الحديثة

وجد الطب الحديث مكاناً له في جسد القانون الحديث بمصر، فكان عضواً فاعلاً، أسهم بشكل غير مسبوق في تغيير النظام القضائي بالدولة الحديثة، فمن خلال الطب الشرعي وتشريح جثث الموتى حدثت نقلة عظيمة الأثر في نظام القضاء الحديث.

كانت العلاقة بين الشريعة وأجساد الموتى من الأشياء التي ما كان للدولة الحديثة تجاهلها في طريقهم نحو جعل التشريح عاملاً فعّالاً في النظام القضائي، فكان على الدولةِ بدايةً أن تُقنع رجال الدين بعدم تعارض التشريح لأجل العدالة مع الدين الإسلامي، واستتب لهم الأمر في النهاية.

يُوضِّح لنا ذلك الجانب تحديداً السلطة والقوة التي حازها رجال الدين في تلك الحقبة، فقد كان لهم من القوة ما كانت تخشاه الدولة، فكان رأيهم يُوضع في الحسبان دوماً، وكانت كلمتهم مسموعة، سواءً في أروقة السلطة أو بين الناس العاديين، وهي القوة التي تنبأت الدولة بخطرها فأخذت على عاتقها مسئولية التخلص منها شيئاً فشيئاً، حتى تم تهميش رجال الدين بشكل كامل، وفقدوا قوتهم وسلطتهم، وهو الأمر الجلي حال المقارنة بين بدايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.

رؤية الأنفار للقانون الحديث

رأى المصريون في نظام القانون الحديث ملجأ، ويظهر ذلك في عدد من القضايا التي تناولها الكتاب، فبدا أن ذاك النظام قد حظي حينها بسمعة طيبة، جعل الأهالي والناس العاديين يُقدِمون إليه في كثيرٍ من الحوادث التي قد مروا بها.

وكان تعاملهم مع القانون وتقبلهم له مختلفاً عن تعاملهم مع الطب الحديث، وقد يرجع ذلك لعدة أسباب منها: اهتمام النظام القضائي بتحقيق العدالة، والعمل على ذلك بأشكالٍ شتى، ومحاولاتٍ عدة لرفع التمييز أحياناً بين طبقات المجتمع، فشكّل ذلك كله حالةً من القبول للنظام الذي جرى تطويره واستحداث عدة مؤسسات ترفع من كفاءته.

ختاماً، بدا أن التغيير بالصدمة وفرض الأمر الواقع كان نهجاً تتخذه الدولة في سعيها نحو التحديث، لم ينته الأمر بانتهاء عصر الباشا، لكنه استمر وبقي ركناً أصيلاً في جسد الدولة.

فلم يأبه الباشا برؤية الأنفار، ولم يولِ اهتماماً برد فعلهم، فقد فرض عليهم سلطة أبويةً لا يُسمع فيها صوت غير صوت الدولة، ولا يُتغنى فيها بنشيد غير نشيد الدولة، ولا يُوصف بالولاء فيها من عارض سياسات الدولة.

لا يمكن أن يُرفض التحديث في ذاته، لكن الرفض يكون دوماً للطريقة التي يتم به، وكذلك للجدوى المنتظرة فعلاً، لا تلك التي تُرافق الوهم. للحاكم رجاله، وللسلطة مؤرخوها، لكن نعلم تمام العلم أن رواية الأنفار وتأريخهم لا يُنسى.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.