الإمبراطورية العظمى مثل الكعكة العظمى، تُؤكل من أطرافها.
بنيامين فرانكلين

أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت بريطانيا هي الإمبراطورية الأكبر في التاريخ، تمتد عبر ست قارات على مساحة تزيد على 35 مليون كم2، تحكم حوالي ربع سكان العالم وكل المعطيات تقول، إن القرن العشرين سيكون قرنًا بريطانيًا صرفًا كما كان القرنان التاسع عشر والثامن عشر.

بعد أن أحكمت بريطانيا قبضتها على مصر والسودان قررت المُضي قدمًا نحو هدف أفريقي جديد، هدف أفريقي بمكون أوروبي كبير هو جنوب أفريقيا.


الصراع على مستعمرة الرأس

رغم أن أول بحار أوروبي يصل لجنوب أفريقيا كان البرتغالي بارتولومو دياز، فإن أولى المستعمرات الأوروبية في جنوب أفريقيا كانت هولندية في 1652م وهم من أسسوا مدينة كيب تاون، عرفت المنطقة باسم مستعمرة الرأس «cape colony».

ومع قيام فرنسا باحتلال هولندا في الحروب النابليونية عام 1795م تحولت جنوب أفريقيا إلى مستعمرة فرنسية، وبالتالي لعداوة بريطانيا. في 1806م قررت بريطانيا القيام باحتلال مستعمرة الرأس ودارت معركة شرسة بينها وبين القوات الفرنسية في كيب تاون، كان النصر حليف البريطانيين وأصبحت مستعمرة الرأس مستعمرةً بريطانية، ومنذ ذلك الحين عانى السكان الهولنديون من الحكم البريطاني كثيرًا بسبب قيام بريطانيا بجعل الإنجليزية اللغة الرسمية للبلاد، مع فرض القوانين البريطانية، ومن أهمها تجريم اقتناء العبيد وهو ما لم يكن معمولًا به من قبل هولندا.

قامت مجموعات كبيرة من الفلاحين الهولنديين بالهجرة شمالًا في عمق أراضي قبائل الزولو، بحثًا عن الاستقلال وتأسيس دولة هولندية خاصة بهم في عمق القارة الأفريقية. وبعد سلسلة من المعارك الجانبية القصيرة سواء بين الهولنديين وقبائل الزولو أو بينهم وبين البريطانيين، نجحوا في تأسيس جمهوريتين لهم في أقصى الجنوب الشرقي للقارة الأفريقية، شمالي شرق ما يعرف باسم جنوب أفريقيا حاليًا وهما؛ جمهورية جنوب أفريقيا والجمهورية الحرة البرتقالية، كانت أهم مدنهم جوهانسبرج وبريتوريا.

حرب البوير

بعد انتهاء حرب البوير الأولى 1881م تم توقيع السلام بين بريطانيا وجمهوريتي البوير الحديثتين، لكنه كان سلامًا غير مستقر، ومع اكتشاف الذهب بكميات كبيرة في ويتواترساند عام 1886م -والتي تقع في جوهانسبرج حاليا – رأت بريطانيا أن الذهب سيجعل جمهورية البوير جمهورية غنية وسيؤثر على سيطرة بريطانيا على ممرات التجارة الجنوبية وعلى سائر مستعمراتها في القارة الأفريقية، لكن كان لدى البوير مشكلة، فمواردهم البشرية والمادية محدودة لا تسمح لهم باستخراج الذهب بكميات كبيرة من أراضيهم فسمحوا للمهاجرين والعمال البريطانيين بالعمل في أراضيهم لاستخراج الذهب. ووجد وزير المستعمرات الإنجليزي جوزيف شامبرلين حصان طروادة الذي سيدخل منه للبوير ويسيطر على أراضيهم.

طالب شامبرلين بإعطاء المهاجرين البريطانيين في أراضي البوير الحقوق السياسية الكاملة ومنها طبعًا حق الانتخاب في الاستحقاقات السياسية. رفض رئيس جمهورية جنوب أفريقيا الطلب البريطاني بالطبع فهذا سيفقد البوير سيطرتهم على جمهوريتهم الجديدة والتي انتزعوها بصعوبة من بريطانيا، لكن شامبرلين كان مصممًا. وبدأ في حشد قواته على حدود جمهورية جنوب أفريقيا، رفض رئيسها باول كروجر التهديدات البريطانية وأمهل بريطانيا 48 ساعة لسحب قواتها وإلا فالحرب.

في 9 أكتوبر 1899م رفضت بريطانيا المهلة الجنوب أفريقية وبدأت الحرب، الحرب التي رأت أنها سهلة جدًا، فهي سيطرت على مصر 1882م بعد معركة قصيرة في التل الكبير، استمرت لنصف ساعة وفقدت خلالها 57 جنديًا فقط، بعدها كانت القوات البريطانية تسيطر علي القاهرة، احتلوا السودان في 1898م بعد معركة قصيرة في أم درمان، فقدوا خلالها 48 جنديًا فقط، وفي حين أن بريطانيا حاربت جيشًا نظاميًا في مصر عام 1882م كان الوضع هذه المرة مختلفًا، فهي ستحارب مجموعة من الفلاحين المسلحين بالبنادق فقط والذين لم يتلقوا أي تدريب عسكري، فقط ميليشيات غير منظمة لا غير!

حرب البوير كانت مختلفة، وفي 11 أكتوبر 1899م كان الهجوم الأول من نصيب البوير، اندفع البوير داخل الأراضي البريطانية ونجحت في حصار مدينة ليديسميث وكيمبرلي، فشلت كل المحاولات البريطانية لفك الحصار عن المدينتين وتلقت القوات البريطانية خسائر فادحة على مدار شهري نوفمبر وديسمبر. وفي يناير 1900م قررت بريطانيا أخذ الأمر على محمل الجد وبدأت في إرسال أكبر جيش في تاريخها خارج البلاد.

على مدار الشهور المتتالية أرسلت بريطانيا أكثر من 180 ألف جندي للحرب في جنوب أفريقيا، وأصبح البوير في وضع لا يحسدون عليه فالتفوق العددي البريطاني أصبح كاسحًا، وهم لا يستطيعون تسليح أكثر من 30 أو 40 ألف مقاتل على أقصى تقدير. وتلقى البوير هزائم متتالية في مارس وأبريل ومايو 1900، انتهت باحتلال المدن الكبرى لدولتهم، فتم احتلال بريتوريا وجوهانسبرج وبلومفونتاين.

وبحلول سبتمبر 1900م كان الجيش البريطاني يحتل كامل جمهورية جنوب أفريقيا ومعظم الجمهورية البرتقالية الحرة، لكن لم ينته الأمر بعد، لجأ البوير لحرب عصابات طويلة ضد القوات البريطانية، كبدت تلك الحرب القوات البريطانية خسائر فادحة، فكان الرد البريطاني قاسيًا جدًا.


المبالغة في رد الاعتبار «الأرض المحروقة»

حرب البوير الثانية
حرب البوير الثانية

اتبع البريطانيون سياسة الأرض المحروقة – لعل من رأى فيلم باتريوت، لميل جيبسون يتخيل الوضع بعض الشيء – فقاموا بحرق مزارع البوير وقتل مواشيهم وتسميم مياه الآبار ونقل عائلات البوير من نساء وأطفال لمعسكرات اعتقال كبرى تفتقر بالبطع لأبسط أساسيات الحياة، توفي في تلك المعسكرات 26 ألفًا معظمهم من النساء والأطفال.

بدأت سياسة الأرض المحروقة تجني ثمارها، وفي مارس 1902م استسلمت آخر مجموعات البوير المسلحة وتم توقيع اتفاقية فيرنجنج، التي بموجبها تم توحيد كامل أراضي ما يعرف حاليًا باسم جنوب أفريقيا في جمهورية واحدة تحت قيادة التاج البريطاني، مع دفع تعويضات للبوير وإعطائهم نوعًا من أنواع الحكم الذاتي.

انتهت الحرب بانتصار بريطاني حاسم، لكن ثمن النصر كان باهظًا وغير معتاد، كما أسلفنا، فالحرب تكلفت 211 مليون جنيه إسترليني، وهو ما يوازي 202 مليار جنيه إسترليني بمقاييس عام 2014م!

انتهت الحرب بمقتل 22 ألف جندي بريطاني وإصابة أكثر من 75 ألفًا آخرين. مثلت الحرب نقطة سوداء في تاريخ علاقة بريطانيا بمستعمراتها، فعكس فرنسا التي كانت تعاني دائمًا في معظم مستعمراتها الأفريقية، كانت بريطانيا تتمتع بسمعة طيبة في مستعمراتها سواء الأفريقية أو غيرها (تبقى الولايات المتحدة استثناءً بالطبع).

وبسبب أفعال بريطانيا غير الأخلاقية في حرب البوير انضم الكثير من المتطوعين الأجانب، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وهولندا وأيرلندا للحرب إلى جانب البوير. كما وضعت تلك الحرب أسس النظام العنصري الجنوب أفريقي، فالبوير (البيض) لم ينسوا للزولو (السود) وقوفهم بجوار البريطانيين في الحرب ضدهم.

انتهت الحرب لكنها دقت المسمار الأول في نعش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس والتي احتاجت لثلاث سنوات ومئات الآلاف من الجنود والخيول والعتاد العسكري حتى تخضع بضعة وثلاثين ألفًا من الفلاحين.

المسمار الثاني، في نعش تلك الإمبراطورية فدقّه الألماني كايزر فيلهلم بعدها بـ 12 عامًا، حينما أثبت لبريطانيا وفرنسا أنهما مجتمعين غير قادرين على هزيمة الجيش الألماني وأنهما بحاجة لعملاق جديد قابع على الناحية الأخرى من الأطلنطي كي ينقذهما، ولأول مرة منذ قرون بعيدة تضع قوة غير أوروبية قواتها في غرب القارة العجوز.

المسمار الثالث، والأخير دقه هتلر والحرب العالمية الثانية حيث لم تستطع بريطانيا وفرنسا مجتمعتان هزيمة ألمانيا النازية، بل على العكس تعرضا لهزيمة مذلة في غرب أوروبا صيف 1940 وأدى تسارع الأحداث لبزوغ قوتين جديدتين، الولايات المتحدة الأمريكية، التي ستقود العالم الغربي بدلًا من بريطانيا وستالين الذي أعطاه هتلر فرصة العمر لتكوين جيش أسطوري لا مثيل له (من حيث الحجم على الأقل)، وأفلت شمس الإمبراطورية البريطانية أخيرًا.