قد يكون التقاعد هدفًا وملجأ بعد رحلة عمل طويلة، يفتقد فيها المرء للراحة وإمكانية الاستمتاع بالوقت كيفما يشاء. لكن في بعض الأحيان قد يصبح التقاعد مأزقًا وفترة عصيبة؛ فعلى الرغم من كونه أحد الأمور الهامة، إلا أن الكثيرين يؤجلون التفكير في كيفية قضاء تلك المرحلة بالطريقة الصحيحة. فهم ما أن يلبثوا الوصول إليها حتى يبدأ عالمهم في الانقلاب رأسًا على عقب، وذلك لاعتيادهم قضاء وقتهم بطريقة معين على مدار أعوام كثيرة، واكتسابهم لصورة ذاتية مرتبطة بشكل كبير بمركزهم في العمل، فكيف لهم أن ينتهي كل شيء بين عشية وضحاها دون بديل؟

مما لا شك فيه أن العمل يحدد ملامح هويتنا الشخصية، حتى بعد التقاعد، فقد يعرّف المرء نفسه على أنه (مدير سابق، ضابط سابق… إلخ). إذن، فهوية العمل تصبح لصيقة بهويتنا الشخصية، وعندما يتقاعد المرء فهو يخسر ذلك الجانب الهام.

لكن المثير في الأمر أن تلك التغيرات لا تبدأ بوصول الفرد مرحلة التقاعد، فهناك عدد من المؤشرات التي تشير إلى ما إذا كانت تلك الفترة ستكون جيدة أم مأزقًا، وهذا ما أشارت له عدداً من الدراسات التي ستناولها في هذا المقال.

تشير دراسة ترصد أهم الآثار النفسية للتقاعد، أن تلك الخسارة تكون ذات طابع أشد بالنسبة لهؤلاء ذو المراتب العليا في أعمالهم؛ حيث يمثّل التقاعد لهم خسارة لهذه المكانة ويجعلهم يشعرون أنهم أصبحوا (لا أحد). الأمر ذاته يحدث بشكل أكبر للرجال الذين تشكّل وظائفهم هويتهم، ففي بعض الأحيان قد نترك مناحي أخرى في حياتنا تضمر فقط من أجل بناء ورعاية هذا الجزء؛ هوية العمل.

فجوة الهوية وإعادة الهيكلة

في دراسة هامة قامت بها الأستاذة الجامعية «تيريزا أمابيل» وفريقها البحثي بجامعة أكسفورد، والتي ركّزت على مدى تأثير التقاعد على الصورة الذاتية والهوية للأفراد المتقاعدين، توصّلت إلى أن المتقاعدين يمرون بمرحلتين رئيسيتين: محاولات سد فجوة الهوية وإعادة هيكلة حياتهم.

بالنسبة للجانب الأول، تشير الدراسة أن بعض المتقاعدين المحترفين استطاعوا أن يتركوا هوياتهم السابقة وركّزوا اهتمامهم على خلق هوية أخرى بعيدًا عن عملهم السابق، بينما عانى آخرون من الإحساس بفقدان الهوية، وآخرون ما زالوا يبحثون عن هوية جديدة تتناسب مع حالتهم بعد تقاعدهم عن العمل. ذلك ما يُطلق عليه محاولة سد فجوة الهوية أو الحفاظ على هوية ما قبل التقاعد خلال فترة التقاعد. تشمل طرق سد هذه الفجوة، على سبيل المثال، أن يقوم الفرد بإعادة إحياء أو استخدام هوية كان قد تركها لعدة سنوات، مثل أن يقوم مدرس سابق للدراما بالالتحاق بمسرح عام مجتمعي، أو أن يستخدم مدير تنفيذي سابق مهاراته الإدارية في العمل التطوعي في مؤسسة خيرية.

من ناحية أخرى، تشير نتائج الدراسة لأهمية إعادة هيكلة حياة المرء بعد التقاعد، والتي تقوم على إعادة تقييم حياته واكتشاف عدد من محاولات الاندماج الجديدة التي يمكن إضافتها لبناء حياة جديدة. يشمل ذلك التفكير جيدًا بما يريد الاحتفاظ به من علاقات، واهتمامات، وأدوار، والتزامات محتملة.

ففي المراحل الأولى للتقاعد، والتي ينعتها الباحثون بـ المرحلة الانتقالية والتي يحدث بها انفصال المرء عن بيئة العمل وبداية مرحلة جديدة من حياته، يتكبّد المتقاعد عددًا من الخسائر؛ خسارة أصدقاء العمل والشبكات الاجتماعية، وفقدان الوضع المهني، وتغيير الصورة الذاتية، مما يستوجب عليه العمل على بناء هيكل آخر لاستعاضة ذلك البناء، فيحتفظ به بما يريد ويمحو كل ما يود التخلص منه.

كذلك تعتمد إعادة الهيكلة على إيجاد سياقات أو أدوار ذات معنى وخلّاقة، وحتى ينجح ذلك، تشير الدراسة أن الأفراد الذين قاموا بذلك هم من استطاعوا أن ينسحبوا نفسيًا من بيئة عملهم بسلاسة، من خلال تطبيق أو تحقيق أو نقل إبداعهم الذي كان مٌركّز بشدة على بيئة العمل لمكان آخر، سواء كان تطوعي أو عمل مدفوع الأجر، قبل وصولهم مرحلة التقاعد.

كذلك تشير الدراسة لمرور المتقاعدين بما يسمى بـ «الزخم الوجودي»، وهو ينتج عن مرور الشخص بأحداث ذات أثر نفسي شديد على الفرد، كوفاة زميل أو المرور بأزمة صحية أو مرحلة انتقالية هامة كالتقاعد. من خصائص هذه الفترة أن يبدأ المرء في البحث عن معنى حياته أو التأمل في كافة أحداثها ككل، كمنْ يبحث عن معنى جديد لقصة حياته. فهو يحاول إعادة تفسير معاني الأحداث الماضية، وإعادة صياغة ظروف الحياة الحالية، ومراجعة أولويات الحياة والقيم والأهداف للمستقبل.

هل من بديل لقطار العمل السريع؟

في حوار سابق لها مع هارفارد بيزنس ريفيو، تقول البروفيسورة أمابيل، أن اقترابها من التقاعد كان أحد العوامل التي دفعتها لإجراء هذا البحث، حيث كان لديها فضول لمعرفة كيف يتمكن المتقاعدون من خلق حياة صحية خلال تلك الفترة. بالإضافة لاهتمامها بذلك على المستوى المهني:

من خلال بحثي السابق، وجدت أن الناس يكونون أكثر سعادة في عملهم عندما يشعرون أنهم يحرزون تقدماً في العمل الهادف. وكنت اتساءل: ماذا يحدث عندما يترك هؤلاء عملهم؟ فأثناء العمل، يكون لديك هذا الشعور بالتقدم كل يوم، حتى لو كان يوم مُحبِط، فأنت تحقق تقدماً في شيء ما. تشعر أن حياتك تتحرك بك وتعلم إلى أين يسير هذا المسار.

وتضيف:

لكن بتقاعدك عن العمل تدخل مرحلة المجهول وهذا يمكن أن يكون مخيفاً للغاية. هناك منْ يغوص في هذا الخوف. وهناك آخرون يبدو أنهم قادرون على ركوب قطار جديد أو استكشاف قطارات جديدة. ويبدو هؤلاء الأشخاص عموماً أكثر سعادة بحياتهم خلال الفترة الانتقالية وفي فترة ما بعد التقاعد مباشرة.

فترة عصيبة أم ملجأ؟

إذن يمر المتقاعدون بمرحلتين هامتين تُحددان بشكل كبير كيف تسير حياتهم. لكن هل هناك عوامل أخرى تؤثر في كيفية قضاء تلك المرحلة؟

في دراسة بريطانية أُجريت على 4751 من موظفي الخدمة المدنية، وامتدت لـ 37 عامًا، لدراسة تأثير التقاعد على الحالة النفسية للأفراد من خلال تحديد ظروف بيئة العمل النفسية والاجتماعية، توصلت النتائج لأن الأمر يعتمد بشدة على بيئة العمل التي يتقاعد منها الأفراد وظروف عملهم قبل التقاعد؛ حيث أن التغييرات الجيدة في الصحة العقلية كانت أكثر وضوحًا عند التقاعد من بيئة عمل سيئة، والتي تشمل أيضًا ارتفاع متطلبات الوظيفة النفسية الاجتماعية، وانخفاض سلطة اتخاذ القرار، أو انخفاض الدعم الاجتماعي للعمل.

فالصحة النفسية للقادمين من ظروف أكثر حرمانًا تتحسن بعد التقاعد على المدى القصير (صفر-3 سنوات)، بينما العاملون في «الوظائف الجيدة» تكون لديهم نتائج أفضل فيما يتعلق بصحتهم العقلية، وهي ميزة لا يستطيع أولئك الذين ينحدرون من بيئات عمل أسوأ الحصول عليها، على الرغم من أن تحسيناتهم عند التقاعد تكون أكثر حدة.

هذه النتائج تجيب بشكل أفضل عن أن اعتبار التقاعد إما راحة من العمل أو أنه يمثّل ضغطًا ليس بالشيء المطلق، فذلك يكون مبنيًا على ظروف وبيئة العمل قبل التقاعد. فالتقاعد يمكن أن يكون بمثابة تخفيف من «العمل المُنفِّر والمُجهِد»، وبذلك يكون جيدًا لصحة هؤلاء الأفراد، بينما قد يكون باعثًا للقلق بالنسبة لهؤلاء الذين يستمتعون حقًا بعملهم وسط بيئة عمل جيدة ودعم جيد من أصدقاء العمل.

بيئة صحية للتقاعد

يشعر بعض المتقاعدين الجُدد بالقلق من أن أيامهم ستكون أقل أهمية في محيطهم الاجتماعي في هذه المرحلة لأنهم ليسوا ضمن بيئة عمل، وأنهم سوف يشعرون بالملل بافتقادهم التواصل الاجتماعي الذي يربطهم بزملائهم ليصبحوا كالقشة في مهب الريح، مما قد يصيبهم بالإحباط والوحدة، الشيء الذي يترتب عليه عواقب أخرى أكثر سوءًا.

يُشدِّد الباحثون على أنه من أكثر الأشياء أهمية في مثل تلك المراحل الانتقالية للأفراد، دعم وإرشاد المحبين والمقربين والموثوق بآرائهم، والذي يؤثر بشدة على كفاءة هذه المرحلة. كذلك فالتغيرات النفسية التي تحدث إثر تجربة الانتقال لمرحلة التقاعد تصبح أفضل مع التواجد وسط علاقات ودوائر تدعم المتقاعد.

تقول «أمابيل» بشأن هؤلاء الذين استطاعوا خلق بيئة أكثر إبداعًا في تلك المرحلة:

هناك بعض الأشخاص الذين بدأوا في اكتشاف الطريقة الأفضل لقضاء حياتهم قبل أن يتقاعدوا. هذا غير معتاد. يمكن أن تكون الفترة الانتقالية إلى حياة أكثر استقراراً قصيرة جداً – قد تكون بضعة أشهر لهؤلاء الأشخاص. فعليك إعادة هيكلة حياتك بشكل كبير في ذلك اليوم الذي تترك فيه العمل، وأن تفكّر بحياتك بشكل مختلف.

وبشأن الطرق الجيدة التي اتبعها بعض المشاركين في الدراسة تضيف:

من الأشياء التي رأيناها في المقابلات التي أجريناها، أنه إذا كان بإمكانهم الحفاظ على بعض الأنشطة الإبداعية خارج العمل، حتى أثناء مشاركتهم الكاملة في حياتهم المهنية، فذلك يكون جيداً، لأن هذا شيء يمكن أن ينمو بعد ذلك. وهذا يمنحهم جسر لسد فجوة الهوية. وسيكون من الجيد أن تُفكر الشركات في التوازن بين العمل والحياة بهذا المعنى أيضاً، وإعطاء الناس الفرصة لتطوير أجزاء أخرى من أنفسهم.

القرار مِلك لك

لكل مرحلة في الحياة استعداداتها الخاصة التي تساعد المرء في الحصول على أفضل النتائج من خلال تطبيقها. إذا كان التقاعد عن العمل إجباريًا، فكيفية قضاء واستثمار تلك المرحلة من اختيارك.

حرصك على الحفاظ على صحتك البدنية والعقلية بخلق بيئة صحية يجعل من تلك المرحلة أكثر إنتاجًا، وفرصة مميزة لممارسة هواياتك دون انشغال بأشياء أخرى. كن أكثر انفتاحًا في كيفية التفكير في قضاء فترة التقاعد، فهي ملكٌ لك دون تكليف من مديرك في العمل أو موعد تسليم.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.