فراشة ترفرف في طوكيو، وتتسبب في أعاصير بالولايات المتحدة، هذا هو المعنى المبسط لنظرية أثر الفراشة الفيزيائية، والتي تتعدى كونها نظرية فيزيائية أيضًا، فهي تمثل العشوائية التي تحدث في أمور الحياة الطبيعية، كالتي صوّرها المخرج المكسيكي « أليخاندرو غونزاليز إيناريتو»، في فيلمه الخالد Babel، عن سائح ياباني، يعطي بندقية كـ هدية لمرافقه في الصيد بالمغرب، والذي يعطيها بدوره لصديقه، فيعطيها لأولاده الصغار، وبينما يلعبون، تصيب رصاصة من البندقية إحدى السائحات الأمريكيات، وتتسبب في أزمة دبلوماسية ومسألة إرهاب كبرى.

هذا هو الذي حدث فعليًا في موضوعنا الذي سنعرضه في ذلك المقال، ففي مطلع تسعينيات القرن الماضي، أعلن قائد الحزب الشيوعي السوفييتي «ميخائيل غورباتشوف» سياسة الانفتاح «غلاسنوست» وإعادة الهيكلة «بيريسترويكا»، والتي كانت بمثابة المسمار في نعش الكتلة الشرقية التي يمثلها الاتحاد السوفييتي الشيوعي [1]. كان الشاب «رومان أبراموفيتش» يبلغ من العمر 24 عامًا، يتيم الأب والأم، نشأ في ظروف صعبة في بيت عمه «ليب أبراموفيتش». لم يكمل تعليمه الثانوي، وقد أنهى للتو فترة الخدمة الإلزامية في الجيش الأحمر السوفييتي.

فكيف تحول ذلك الشاب المُعدَم، ذو النسب البسيط، إلى رجل أعمال شديد الثراء؟

أرقام الملياردير

  • يمتلك ثاني أكبر يخت بالعالم يبلغ ارتفاعه 533 قدمًا، وقد اشتراه بما يقارب الـ 400 مليون دولار في عام 2010.
  • في عام 2005 قد باع 73% من حصته في شركة Sibneft لشركة الغاز المملوكة للدولةGazporm  بمبلغ وصل إلى 13 مليار دولار.
  • حين تولى حكم مقاطعة تشوكوتكا ورئاسة مجلس الدوما، أنفق أبراموفيتش في الفترة من 2001 حتى 2013 ما يقارب الـ 2.5 مليار دولار.
  • فضلاً على أنه صاحب الحصص الأكثر مساهمة في نادي تشيلسي الإنجليزي وشركة الصلب العملاقة Evraz.
  • تُقدَّر ثروة رومان في تلك اللحظة بما يعادل 12.5 مليار دولار.

وفقًا لـ Forbes، الموقع المختص بالأرقام والبيانات المتعلقة بأصحاب الثروة في العالم، نستطيع أن نطلع على بعض الإحصائيات المتعلقة بالملياردير الروسي ونُجمِلها كالآتي:

صنع نفسه بنفسه

في إشارة إلى ثروته، يتحدث موقع الفوربس أن رومان يندرج تحت بند الرجال الذين صنعوا أنفسهم Self-Made، ولكن كيف لرجل يبلغ الـ 53 من العام، عاش نصف عمره في الاتحاد السوفييتي الشيوعي أن يبلغ ذلك الحد من الثراء؟

رومان أبراموفيتش حالة خاصة لكونه لم يكن مسئولاً شيوعيًا سابقًا، ولكن في تكوينه الثروة في وقت قليل، ليس حالة خاصة على الإطلاق! فكل ملياردير روسي جمع ثروته خلال فترة وجيزة من انهيار الاتحاد السوفييتي في أعقاب سياسات غورباتشوف، وسياسة الخصخصة التي طبّقها خلفه «بوريس يلتسين»، فـ قائمة من يملكون المليارات في العالم لم تعرف روسيًا حتى منتصف تسعينات القرن الماضي.

في تسعينات القرن الماضي كان الاتحاد السوفييتي بالفعل كان قد بدأ في تطبيق سياسات غربية، والتي لم تحظ كلها بدعم من أمريكا وصندوق النقد الدولي في تطبيق اقتصاد ليبرالي للاتحاد السوفييتي، نظرًا للبطء الشديد في تطبيقها، ومن ناحية أخرى قد بدأ في التحرك شخص آخر هو «بوريس يلتسين» والذي يعده الغرب الشخص الذي أنهى الاتحاد السوفييتي.

وفي أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي كان أمام يلتسين خيارين للتخلص من المركزية الاقتصادية في الاتحاد السوفييتي، شرحهما رئيس بلدية موسكو «غافريل بوبوف»: «إما تقسيم الممتلكات على أفراد المجتمعات كلهم، وإما توكيل الصلاحيات المثلى للقادة»، وقد اختار بوريس يلتسين الخيار الثاني، والذي كان بمثابة انقلاب على الديمقراطية التي أتت به لسدة الحكم. [2]

قبل ذلك الوقت بقليل وفي نهاية الثمانينات كان الشاب رومان يعتمد في تكوين ثروته على بيع «البط المطاطي» من داخل منزله، وفي زيجته الأولى عام 1987 من «أولغا» حصل على هدية للزواج من والداها، مبلغ 2000 روبل، يقول عن تلك الهدية أنه استثمرها بطريقة خاصة، فقد تاجر في مواد مُهرَّبة مثل «العطور، ومزيل العرق».

وبعد أن نجح في تجارته، استثمر في صناعة الألعاب البلاستيكية، وقطع غيار السيارات، وكان رومان من أوائل المستفيدين من سياسات السوق الجديدة في روسيا. ففي سياسة خصخصة السوق بدأ رومان في إضفاء الصفة القانونية على مشاريعه الاستثمارية، ولكنه خرق القانون مرة أخرى، واعتقل لسرقة ممتلكات حكومية بعد استخدامه لمجموعة من الوثائق المزورة لسرقة قطار حمولته 55 ناقلة لوقود الديزل، ولكن لم يلبث رومان وأن أُسقطت عنه التهم. وخلال 3 سنوات أصبح رومان الذراع الأيمن لرجل الأعمال «بوريس بيريزوفسكي»، وتغيرت حظوظه.

صعود الأوليغاركية

على الجانب الآخر، في خريف 1991، أعلن يلتسين تحرير الأسعار ورفع الرقابة عنها، مما أغرق السوق الروسي في الفوضى. وفي أعقاب قرارات يلتسين الاقتصادية المتشددة، كان البرلمان الروسي الديمقراطي قد بدأ في الاعتراض على رئيسه مُتهِمًا إياه بخرق الديمقراطية، ولكن يلتسين الذي كان يحظى بالدعم الغربي قد نصّب نفسه قيصرًا على روسيا، وأصبح «يلتسين الأول»، في الوقت الذي كان يتهم فيه الإعلام الغربي النواب الروس أنهم مجموعة من الحمقى الشيوعيين. وفي عام 1993 أطلق يلتسين حملة غاضبة على البرلمان والشارع، وأصدر للجيش أمرًا بالهجوم على البرلمان وأمر بتطبيق سياسة الردع للدفاع عن اقتصاد روسيا الرأسمالي الجديد، حتى وإن وقف في وجه الديمقراطية.

لم يعد هناك من يقف في وجه تطبيق سياسة السوق الحر في روسيا بعد أن قمع يلتسين الديمقراطية التي أتت به إلى السلطة، وفي تلك الفترة قد كان يُفترض أن يجني الشعب ثمار القرارات الاقتصادية، ولكن ما حدث أنه اُستبدلت دولة الشيوعية بدولة شركات، وغالبًا ما جهل عمال المعامل والمناجم أن أماكن عملهم قد تم بيعها وخصخصتها، دون الخوض في هوية الشاري.

واستفاد من ازدهار دولة الشركات والخصخصة تلك عدد قليل من الروس، والذين شكّلوا سابقًا هيئة المسئولين في الاتحاد السوفييتي. ظهرت مجموعة جديدة من أصحاب المليارات في روسيا، عُرفوا عالميًا بـ «القلة الحاكمة» بسبب الثروة والنفوذ اللذين جمعاها سويًا في أياديهم، لقد اشترى الروس كل ما باعته الحكومة لهم، فلم تكن الحكومة تبيع لمستثمرين أجانب بشكل مباشر، ولكن البيع لطبقة الأثرياء من الروس والذين بدورهم يعرضون أسهم شركاتهم، مما دعا جريدة «وول ستريت» أن تطرح ذلك السؤال آنذاك: «أتبحث عن استثمار يعود عليك بربح 2000% شهريًا؟ وحدها سوق الأموال الروسية تقدم إليك هذه الفرصة». [3]

لقد كان «بوريس بيريزوفسكي» في الدائرة المقربة من الرئيس يلتسين والتي حظيت بكل شيء حرفيًا، فقد كان بيريزوفسكي مسئولاً عن بيع السيارات في جميع البلاد وشركة تصنيع السيارات الحكومية، وفي الوقت الذي بيعت فيه ممتلكات الاتحاد السوفييتي للأوليغاركيين في روسيا الاتحادية الجديدة، لم تكن لتتسنى لرومان (البسيط المحتال) الفرصة لأن يكون من أصحاب المليارات. في ظروف غير معلومة تعرَّف رومان على بيريزوفسكي، وكانت تلك هي اللحظة التي انطلق منها رومان ليكون الملياردير «رومان أبراموفيتش».

انقلاب بوتين

في إطار عام من الفساد حكمت سياسات الخصخصة في روسيا يلتسين، حيث بيعت شركة النفط الكبيرة Sibneft بفضل برنامج القروض مقابل الأسهم المثير للجدل، وكان مشتروها هما بيريزوفسكي وأبراموفيتش مقابل 100 مليون دولار، على الرغم من أن قيمتها الحقيقية كانت تبلغ 600 مليون دولار. وكانت تلك البذرة الأولى في ثروة أبراموفيتش.

وحتى العام 1999 كانت شركة Sibneft هي الشركة التي تدير الأمور، وتدعم يلتسين وراء الكواليس، وساهمت في نجاحه لفترة رئاسية أخرى، ولعبت دورًا آخر في تسليم السلطة إلى رئيس هيئة الأمن الفدرالية الروسية «فلاديمير بوتين» من خلال ضخ أموالها في دعمه، ولكن جاء بوتين يحمل نهج مختلف من السياسات، فبعد أن رأى أن الأوليغاركيين هم الذين يتحكمون في مسار كل الأمور في روسيا، أراد قلب الطاولة على الذين أتوا به، وقد حاول مرتين أن يغتال بوريس بيريزوفسكي، مما أدى إلى فرار بوريس إلى بريطانيا واتخذها منبرًا للمطالبة بالإطاحة برأس بوتين.

أُدين بيريزوفسكي غيابيًا بالاحتيال والتهرب الضريبي من محكمة روسية في عام 2007، ولكن يطرح السؤال ذاته: أين كل هذا من رومان؟

في عام 2007 قرر بيريزوفسكي أن يرفع من خلال منفاه في لندن دعوى قضائية على أبراموفيتش، اتهمه فيها بعدم الوفاء وإجباره على بيع أسهم شركته بثمن أقل من ثمنها الحقيقي، أي أنه خدعه فيما يقارب خمسة مليارات من الدولارات، وفي المحاكمة أنكر أبراموفيتش أن تكون له علاقة بهذا الرجل من قريب أو من بعيد.

شركة Sibneft كانت هي الشركة التي باعها أبراموفيتش، الصديق المقرب لبوتين على حد وصف بيريزوفسكي وصاحب النفوذ داخل الكرملين. بيعت تلك الشركة إلى شركة الدولة Gazporm كما أُشير سابقًا، في إطار تخلص فلاديمير بوتين من طبقة الأوليغاركية، ويبدو أن بوتين بصفته السابقة كرئيس الـFSB  (هيئة الأمن الفدرالي الروسي)، كان قد امتلك بعض الوثائق التي تدين فعليًا أبراموفيتش. والمُرجَّح وفقًا لإشارات بيريزوفسكي وادعاءاته في المحاكمة، أن رومان تخلى عنه وهو الذي صنعه، وأجبره بوتين على بيع الشركة، كما أجبره على حكم مقاطعة تشوكوتكا النائية، وضخ فيها العديد من الاستثمارات الضخمة.

كان رومان أيضًاً داعمًا لمجال كرة القدم في روسيا وتنميتها بشكل كبير، ويُعزى الفضل في الوصول لنصف نهائي الأمم الأوروبية 2008 إلى استثماراته.

وينكر أبراموفيتش أن يكون لادعاءات بيريزوفسكي أي أساس من الصحة، أو دور لعبه بوتين في إعادة توجيه ثروته واستخدامها. ولكن من المُسلَّم به أن رومان أبراموفيتش بالفعل، أصبح من رجال الكرملين المقربين في عهد بوتين.

2003 بداية التاريخ الأزرق

لم يكن لجمهور تشيلسي المقدرة على تخيل أن رجلاً لم يترك له أبواه روبلاً واحدًا، سيستطيع شراء ناديهم مقابل 100 مليون دولار أمريكي، ويحوله من نادي من أندية إنجلترا العادية، إلى النادي الأكثر نجاحًا داخل إنجلترا في العقد الأخير، حيث حقق خلاله 11 بطولة، من أصل 19 بطولة حصدها الفريق منذ مجيء رومان أبراموفيتش، كان أهمها الألقاب الأوروبية ولقب الدوري الإنجليزي خمس مرات.

لقد ظهرت آثار نظرية أثر الفراشة على ذلك النادي اللندني، فسياسات غورباتشوف ويلتسين أفقدت الملايين من الروس من الطبقة المتوسطة مدخراتهم، وتدهورت العمالة وقُطعت بشكل فجائي الإعانات المالية اللذين أديا إلى انقطاع الرواتب عن ملايين العمال لأشهر عديدة، وانخفض معدل الاستهلاك في روسيا بنسبة 40% بين عامي 1991 و1992، وأضيف ثلث السكان إلى نسبة من يعيشون تحت خط الفقر، بينما كانت تُجهِّز الأقدار رومان أبراموفيتش لأن يكون رجل تشيلسي التاريخي. [4]

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. نعومي كلاين، “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”، بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2009، ص 296.
  2. المرجع السابق، ص 300.
  3. المرجع السابق، ص 312.
  4. المرجع السابق، ص 303.