أبواق حرب تنبعث من وقت لآخر بين المغرب وجبهة البوليساريو حول منطقة الصحراء الغربية التي تتجاوز مساحتها ربع مليون كم مربع، يحاول كل طرف تحقيق أي مكاسب سواء على الأرض أو على طاولة المفاوضات حينما يتجدد الصراع.

هذه المرة، نجحت المغرب في السيطرة على معبر الكركرات في النزاع الأخير الذي تفجر منذ أيام، باعتباره منفذًا حيويًا مع موريتانيا، وخرجت الرباط منتصرة ليس بالمعبر ولكن بالموقف العربي الداعم لها وبالصمت الدولي والإفريقي الذي فُهم على أنه ضوء أخضر لها، بينما ظهرت الجبهة في ثوب المليشيا المتمردة، التي باتت تهدد أمن منطقة المغرب العربي برمتها وإعطاء فرصة للجماعات المتطرقة لاستغلال هذا الصراع.

الصحراء الغربية: إرث استعماري قديم يشعل صراعًا جديدًا

منذ عام 1904، خضعت الصحراء الغربية للاحتلال الإسباني، ولم تحصل على استقلالها إلا عام 1975. شكّل ذلك الاستقلال نهاية لمرحلة مريرة من الكفاح ضد المحتل، وبداية لمرحلة جديدة من الصراع بين المغرب من جهة والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو) من جهة أخرى.

طالب المغرب بالصحراء الغربية باعتبارها جزءًا من أراضيه المحتلة، فيما طالبت الجبهة بأحقيتها في الأرض التي طالما دافعت عنها ضد المحتل الإسباني منذ تأسيسها عام 1973 كحركة قومية مناهضة للاستعمار شأنها شأن مختلف حركات التحرر بالمنطقة العربية آنذاك.

ولإنهاء النزاع، تم التوجه من قبل الطرفين عام 1975 إلى محكمة العدل الدولية والتي أبدت رأيها في النزاع الدائر بعدم وجود دليل على “أي ارتباط للسيادة الإقليمية” بين الصحراء الغربية وأيًا من المغرب أو موريتانيا، لكنها أكدت وجود “مؤشرات على علاقة ولاء وروابط قانونية بين بعض القبائل الصحراوية وملك المغرب تتفق مع ادعاءات المغرب بأن العديد من القبائل الصحراوية كانت موالية له، مشددة على أن الأمر يقتصر على بعض القبائل فقط لا جميعها.

بالإضافة لهذا أوضحت المحكمة أن القبائل الصحراوية هم السكان الأصليين للصحراء ومن حقهم تقرير مصيرهم. ورغم هذا الإقرار والاعتراف بحق تقرير المصير، لكن العاهل المغربي آنذاك الملك الحسن الثاني عمد إلى تفسير رأي المحكمة على أنه تأكيد لمطالب وحقوق المغرب بالإقليم. وأطلق بعد ذلك مباشرة ما أصبح يعرف باسم “المسيرة الخضراء”، حيث سار ما يقدر بنحو 350 ألف مواطن مغربي ملوحين بالإعلام المغربية عبر الحدود إلى الصحراء الغربية.

ورغم تنديد مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بالمسيرة الخضراء لكن الرباط مضت لما هو أبعد من هذا، حيث دخلت قواتها الصحراء في الـ 31 من أكتوبر/تشرين الأول 1975 ليندلع النزاع المسلح مع البوليساريو.

لم يمر شهر واحد، حتى عقدت المغرب اتفاقيات مدريد السرية مع موريتانيا وإسبانيا، التي تنازلت بموجبها الأخيرة عن سيطرتها الإدارية على الإقليم للمغرب وموريتانيا عند انتهاء انتدابها الرسمي على الصحراء في الـ 27 فبراير /شباط 1976.

وفي اليوم التالي للانسحاب الإسباني، أعلنت البوليساريو إقامة دولتها المستقلة تحت مسمى الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية (SADR)، ليستمر الصراع بينها وبين المغرب وموريتانيا حتى الـ 10 يوليو/تموز 1978، حيث الانقلاب العسكري بموريتانيا، والتي عمدت على إثره إلى توقيع معاهدة سلام مع البوليساريو في الـ5 من أغسطس 1979، تنازلت بموجبها للجبهة عن الجزء من الصحراء الخاضع لسيطرتها.

لكن حتى هذا المكسب، لم يتركه المغرب للجبهة، فاحتل معظم الأراضي التي تنازلت عنها موريتانيا، واستمر الصراع المسلح بين المغرب والبوليساريو من عام 1980 حتى 1987، حيث أقام المغرب سلسلة من السواتر الترابية، وزودها بالألغام والأسلاك الشائكة ونقاط المراقبة وأنظمة الإنذار المبكر في محاولة لمنع وصول الإمدادات وتقييد التحركات العسكرية للجبهة.

محاولات للحل لكن دون جدوى

ابتداءً من عام 1979، حاولت منظمة الوحدة الأفريقية  التدخل لحل النزاع، لكن محاولاتها باءت بالفشل عقب انضمام الجمهورية الصحراوية للمنظمة عام 1984، وانسحاب المغرب من المنظمة احتجاجًا على قبول طلب الانضمام.

تلا ذلك مساعٍ لحل النزاع كان أبرزها خطة التسوية التي اقترحتها الأمم المتحدة عام 1988 ونصت على وقف إطلاق النار، وتنظيم استفتاء لتقرير مصير المنطقة، وإعادة اللاجئين وتبادل أسرى الحرب. وبالنهاية وافق الطرفان على الخطة، ودخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في سبتمبر/أيلول 1991، بعدما سيطر المغرب على نحو 80% من الإقليم وسيطرت البوليساريو على مساحة صغيرة على طول الحدود الشرقية والجنوبية.

ورغم هذا، بقيت محاولة التسوية دون حسم، نتيجة لعدة خلافات من قبيل من سيصوت بالاستفتاء، إذ تمسكت الجبهة بوجود حوالي 100 ألف من أفرادها مقيمين كلاجئين في الجزائر، ورفض المغرب هذا الرقم، حيث أشارت التقديرات إلى أن اللاجئين بالجزائر يشكلون نحو 40 ألف لاجئ. نصف هؤلاء فقط هم من اللاجئين الفعليين من الجزء الذي يسيطر عليه المغرب من الصحراء الغربية، والبقية له جذور في الجزائر أو موريتانيا أو مالي، وبالتالي لا يحق لهم الاستفتاء.

وتلت تلك المحاولة مساعٍ أخرى من الأمم المتحدة لتسوية النزاع أبرزها عام2007 لكنها لاقت نفس مصير سابقتها، حيث تمسك المغرب بالحكم الذاتي للصحراء تحت سيادته، وتشبثت جبهة البوليساريو بحق تقرير المصير.

السيطرة على الأرض: هكذا رسخت المغرب وجودها 

على مدار سنوات طويلة، عمدت الحكومات المغربية المتتالية إلى التوغل في الصحراء عبر  الاستثمار بكثافة وتنفيذ مشاريع البنية التحتية، وتقديم الخدمات الاجتماعية، حتى بلغ إجمالي الإنفاق المدني في المحافظات الأربع للصحراء نحو 2.5 مليار دولار بين عامي 1976 و 1989، وكان الجزء الأكبر مخصص لمدينة العيون، حيث يعيش ما يقرب من ثلثي سكان الصحراء بها.

كان الهدف الأساسي من الإنفاق رؤية المغرب بأن التنمية تولّد قبولاً لحكمها داخل الصحراء، وتشجع مواطنيها للزحف نحوها وفي نفس الوقت ربما تجتذب القبائل الصحراوية المقيمة، وعمدت في هذا الصدد إلى تقديم حوافز مالية للمغاربة الذين ينتقلون إلى الصحراء، وبالفعل نجحت الحوافز في زيادة عدد سكان الصحراء الغربية من 74 ألف نسمة في التعداد الإسباني لعام 1974 إلى 162 ألف عام 1981، وفقًا للإحصاءات المغربية.

بالتوازي مع هذا، سعت المغرب لاجتذاب الاستثمارات الدولية إلى المنطقة لتسريع وتيرة التنمية، والحصول على ما يشبه الموافقة الضمنية أو الاعتماد الدولي لوجودها في الصحراء. وتجلت مظاهر  هذه الجهود مؤخرًا في تنظيمها منتدى أعمال في العيون في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، لجذب الاستثمارات الفرنسية إلى المنطقة لتحلق بالاستثمارات الأوروبية والخليجية خاصة السعودية بالمنطقة.

بالطبع أثارت هذه الخطوات مخاوف البوليساريو من سياسة المغرب، ودفعتها للتوجه للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، لوقف تلك السياسات، فضلًا عن تحذيرات وتهديدات بمقاضاة الشركات الأجنبية التي عمدت للاستثمار بالصحراء المتنازع عليها دوليًا. لكن هذه التحذيرات بقيت دون جدوى أو، فالاستثمارات ما زالت تتدفق نحو الصحراء.

الصحراء الغربية

جمهورية مع وقف التنفيذ

في المقابل من الحضور المغربي بالصحراء، اتخذت جبهة البوليساريو مسارًا سياسيًا لتعزيز موقفها في ظل ضعف قدراتها الاقتصادية. وبالفعل أقامت الجبهة علاقات دبلوماسية كاملة مع أكثر من 70 دولة من الدول النامية، واكتسبت عضوية بمنظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حاليًا) التي اعترفت بالجمهورية الصحراوية كحكومة شرعية للصحراء الغربية عام 1982.

أكدت الجبهة أيًضا كينونتها كدولة من خلال المصادقة على عدد من الاتفاقيات الإقليمية لمنظمة الوحدة الإفريقية والاتحاد الإفريقي، من بينها بروتوكول اتفاقية منظمة الاتحاد الإفريقي الخاص بمنع الإرهاب ومناهضته.

لكن رغم هذه الجهود، فقدت الجبهة على مدار سنوات صراعها مع المغرب العديد من الدول الداعمة وفي مقدمتها روسيا وكوبا الداعمين لها في إطار الحرب الباردة في مواجهة المغرب حليف الولايات المتحدة والمعسكر الغربي آنذاك.

فقدت الجبهة أيضًا دعم نيجيريا وجنوب أفريقيا والدعم الليبي لها منذ عام 1984، ولم يتبقى لها بشكل أساسي سوى الجزائر ، لكن الدعم الجزائري لا يأتي من موقف تضامني بل في إطار التنافس التقليدي مع الرباط على الزعامة في منطقة المغرب العربي، ولمواجهة الأطماع المغربية في أراضيها والتي تجلت “حرب الرمال” بين الطرفين 1963 التي حاول بها الرباط استعادة الأراضي حول تندوف التي نقلتها السلطات الاستعمارية الفرنسية من المغرب إلى الجزائر عندما كانت فرنسا صاحبة السلطة على كليهما.

وفي ظل هذه الأوضاع، بقيت الجمهورية الصحراوية بمثابة “جمهورية مع وقف التنفيذ” فالجبهة اليوم تفتقد لأي شكل من الصفة الرسمية أو الاعتراف الدولي في الأمم المتحدة، وهي في ذلك في منزلة أقل من منظمة التحرير الفلسطينية، التي أقامت علاقات دبلوماسية وحصلت على صفة المراقب في الأمم المتحدة، وهو ما لم تتمكن الجبهة من تحقيقه.