مقدمة

كان مؤتمر شرم الشيخ ومؤتمر القمة العربية في مارس 2015 آخر مظاهرتين سياسيتين تشبث نظام 3/7 بهما ليثبت شرعنته من الخارج إقليميًا وعالميًا. وإذا كانت القراءات الناقدة للحدثين قد أبرزت أنهما لم يقدما إلا ديكورًا هشًا وأنه تم توظيفهما لإنقاذ الشرعنة الواهية السلبية (تحت وطأة القمع والخوف) داخليًا، فلقد أكدت الأوضاع الداخلية والإقليمية ما أصاب شرعنة هذا النظام من تداعٍ وتصدع متزايد أوصله إلى درجة التساؤل “ماذا بعد السيسي؟”، (وليس ماذا بعد الانقلاب)؟ والإجابة عن هذا السؤال تتوقف على فقه حالة التحالف الانقلابي داخليًا وإقليميًا ومآلاته.

ولكن دون مبالغة ودون توقعات عالية السقف. فالمقاومة الرشيدة ضد هذا النظام تتطلب تفكيرًا استراتيجيًّا رشيدًا يحسب القدرات والإمكانيات الذاتية من ناحية، كما يجب أن يقدّر أيضًا ما أصاب نظام 3/7 سواء من فرص أو ضغوط من ناحية أخرى. ومن أهم هذه الضغوط تصدع التحالف الانقلابي الذي انطلق منه نظام 3/7.

(ا)

فمنذ مشهد منصة 3/7 التي أعلن منها السيسي “الانقلاب على الشرعية” وأنا أتساءل: ما مصير هذه الزمرة المتباينة الاتجاهات والمواقف والأهداف التي اصطفت على المنصة؟ وإذا كان هدف إبعاد الإخوان عن المشاركة في الحياة السياسية (إن لم يكن استئصالهم) هدفًا مشتركًا لهم تحت ذريعة حماية الديموقراطية، فماذا بعد؟

ولم أتخلَّ عن البحث في الإجابة عن هذا السؤال، وأنا أفترض منذ البداية، أن النظام الذي سيفرزه هذا المشهد لن يكون إلا نظامًا هجينًا، لن يكون قادرًا على إدارة دفة الوطن بسلام لتحقيق أهداف ثورة 25/1، بدون مشاركة. بل إن التناقضات بين مكوناته ناهيك عن ضعفها شعبيًا وسياسيًا ستكون مسمار نعش هذا النظام ذاته، ومسمار قيام نظام أحادي يديره مباشرة “العسكر” حتى ولو برداء قد يبدو للبعض أنه ديموقراطي (انتخابي).

وكان الإعلام الانقلابي هو معملي الذي أبحث فيه عن الإجابة طوال عامين.

أحيانًا كان يعاتبني أبنائي وإخوتي وتلاميذي على دأبي في متابعة إعلام الانقلاب، ولكني قصدت هذا -طوال عامين- لأرصد أمرين: من ناحية أولى: ملامح حملة غسيل العقول والقلوب التي يمارسونها على حزب الكنبة: وقود الثورة المضادة لثورة 25/1، ووقود شرعنة الثورة الهجين الزائفة في 30/6، ثم وقود شرعنة قائد نظام 3/7 وتأليهه.

ولقد استندت هذه الحملة إلى اتهامات للإسلاميين بالخيانة وعدم الوطنية وسرقة الثورة والإرهاب والكذب، وتشويه الإسلام، واللعب بالدين في السياسة…

وكان هدف الحملة تغيير الصورة الذهنية الإيجابية عن الإسلاميين عقب ثورة 25/1 مباشرة، والتي ظهرت آثارها خلال الاستحقاقات الانتخابية، والاستعداد لتوجيه الضربة لثورة 25/1 وللإسلاميين.

ومن ناحية أخرى، كنت أتابع الإعلام الانقلابي لأرصد ملامح ودرجة تفكك ثم تصدع التحالف الانقلابي. فمنذ مشهد 3/7 وأنا أرصد هذه الملامح. والذاكرة القريبة تقدم، من خلال العامين الماضيين الأدلة والمؤشرات؛ وهي عديدة ومتداخلة، ومتقاطعة، وقد تبدو أحيانًا صعبة التفسير.

(2)

بالطبع لا يمكن هنا استدعاء تفاصيل كل المشاهد المفصلية الدالة، ولكن أكتفى بتحديد جانب المفاصل الأساسية التي كشفت واختبرت الجدالات حولها وتداعياتها حقيقة علاقات روافد 30/6 و3/7 بعضها ببعض: ابتداء من طبيعة تشكيلة وزارة حازم الببلاوي وممارساتها وطريقة تغييرها، فأحداث ذكرى محمد محمود الأولى والثانية، فقانون التظاهر، ولجنة إعداد الدستور والاستفتاء عليه، مهزلة الانتخابات الرئاسية، القانون الذي دشّن حالة طوارئ خفية بعد أحداث جمعة 28/11/2014، أحكام وحوادث الالتراس، التأجيل المتكرر للانتخابات البرلمانية بذريعة إعداد قانون الانتخابات، أحكام البراءة لأركان نظام مبارك ولمبارك وولديه، تجدد سياسات القمع البوليسية، قبضة الجيش على قطاع الأعمال، تدهور أحوال العمال والفلاحين، تدهور الأوضاع المعيشية للناس مع رفع الدعم عن الطاقة وارتفاع الأسعار، الهجمة العلمانية على الأزهر باسم الإصلاح الديني، أحكام الإعدام بالجملة على مؤيدي الشرعية وقياداتها، القبضة الحديدية في سيناء والاستمرار في حصار غزة والتآمر مع إسرائيل…

إن هذه المفاصل وغيرها بالطبع كانت ساحة لتفاعلات سياسية ومواقف متشابكة بين خريطة القوى السياسية في نظام 3/7: الأحزاب القديمة والجديدة، العلمانية والإسلامية، الفلول و”الثوار”، رجال الأعمال القدامى والجدد، المنظمات المدنية (الرسمية) منها وغير الرسمية…

ولقد رصدت ملامح تفكك التحالف المتعاقبة خلال متابعتي لتطورات ملامح الساحة السياسية المصرية داخليًا وخارجيًا، ومن خلال متابعة الحملات الإعلامية.

فهاهي حملات مشابهة تدور الآن منذ عام، ولكن تقودها هذه المرة الأذرع الانقلابية المختلفة بعضها ضد البعض على ساحة الإعلام. وينفذ الإعلام خطة ممنهجة للاغتيالات السياسية لروافد ثورة 25/1 الذين شاركوا في 30/6 وذلك لخلق صور ذهنية –جديدة- عما هو “الوطني” “محب الدولة والجيش”.

وقد تصل هذه الحملات إلى نفس درجة الكراهية والبغض والإقصاء التي مورست ومازالت ضد الإسلاميين. ونماذج هذه الحملات متعددة ضد البرادعي، ضد حزب النور، ضد عمرو حمزاوي وزياد بهاء الدين، ضد 6 أبريل، ضد حمدين صباحي، ضد سعد الدين إبراهيم، ضد بداية، ضد الوفد، ضد أبو الفتوح، ضد كمال الهلباوي وغيرهم…، والآن جاء دور ساويرس، بعد أن بدأ دور الأزهر. ومازالت الكنيسة بعيدة.

والآن، وعلى ضوء هذه الحملات المتواترة العلنية التي تجري بأسلوب سوقي بذيء، أضحت الصورة عن هذا التصدع أكثر وضوحًا ودلالة على حقيقة مفادها الآتي: إن خريطة تفاعلات القوى الانقلابية هي خريطة للتناحر. إنه ليس اختلافًا أو خلافًا ذلك الذي يدور بينهم، بعد تراكم على طول عامين، إنها حرب مثل تلك التي شنّوها بكافة روافدهم على الإخوان والإسلاميين عامة وبصورة متصاعدة منذ 19/3/2011 وحتى 3/7/2013.

إنها حرب يتصارعون فيها على السيسي، وليس لاستبدال السيسي أو لتجميل السيسي!!!

فإنهم لا يقدمون رؤى متنافسة لإصلاح الوطن وخدمة شعبه.

إنهم يكررون ما حدث في العامين الأوليْن من ثورة 25/1: صراع مقيت بين القوى السياسية للوصول إلى السلطة وحماية المصالح. وهو الصراع الذي دار برعاية “المجلس العسكري” ووفق ما اقتضاه الظرف ساعتها من حيث المناورة بين الإسلاميين وبين العلمانيين.

أما الصورة بعد 3/7 فلقد أطلت أيضًا فيها وجوه الصراع على السلطة بالتدريج ولكن تحت قيادة وأوامر العسكر المباشرة، وكان هذه المرة صراعًا بين متساوين في الضعف وفي التعلق بسراويل العسكر (ولو بطرق مختلفة)، نعم متساوون في الضعف شعبيًا وفكريًا وسياسيًا، بعد أن اعتقدت هذه القوى أنها تخلصت من المنافس القوي، الذي اتهموه بالتغلب والمغالبة وبسرقة الثورة والتآمر مع العسكر عليها، فمن يغالب هذه القوى الآن؟ أليس العسكر؟ ألا يقدرون على صراعه مثلما فعلوا ضد الإخوان وبمعاونة العسكر؟ أم الأصح أن العسكر هم الذين وظّفوا كافة هذه القوى في صراعهم مع الإخوان؟ ومن ثم أليس من الطبيعي أن يتحول بأس كافة المرتزقة أصحاب اللامبادئ واللاقيم إلى بأس بيني؟ من سيصبح الظهير السياسي والمالي الجديد للسيسي؟ أم أن السيسي لا يريد ظهيرًا إلا مؤسسته ولا يرضى من كافة هذه الأجنحة إلا التسليم التام والإذعان الكامل لما يريده ويطلبه؟ هكذا يجب أن نطرح الأسئلة بحثًا عن أسباب هذا التصدع، فهو ليس ممارسة للديمقراطية ولا للنقد البنّاء ولا معارضة رشيدة لحاكم ينفرد بالسلطة طيلة عامين حتى الآن.

وبعد أن اتضحت نوايا الانقلاب في الانفراد بالسلطة ولو أدى الأمر إلى موت الحياة السياسية في مصر واستنزاف طاقة الوطن في “الحرب على الإرهاب”، فليس أمام من تبقى له من كرامة ووطنية من حلفاء 30/6، إلا دفع ثمن المعارضة القوية (وهم قلة)، ولم يعد أمام من يبحثون عن النفوذ والسلطة والاستمرار في الصورة بأي ثمن، أي لم يعد أمام “أقحاح الواقعية” المتلونيين مع كل عصر، إلا أن يجدوا ذرائعهم ومبرراتهم. وهي لابد وأن تقود إلى الاصطدام فيما بينهم.

كل ينعق على بضاعته ويتهم غيره ويحاربه. والجميع يقذفون إلى الوراء كل ما يتصل بخدمة الناس وتحسين أمورهم لصالح “الاستمرار في الصورة” وبأي ثمن، ولو بالتخلي عما هو محسوب من مبادئ على التيارات التي يعلنون انتماءهم لها: يساري، ناصري، ليبرالي، وكذلك إسلامي.

(3)

أرجو ألا يجادلني أحد بالقول إنهم يمارسون “سياسة”، وأن السياسة صراعات قوى ومصالح، وأن لكل طرف أن يستخدم ما يتوافر له من أدوات؛ ذلك لأنهم يتصارعون في فضاء ماتت فيه السياسة أصلاً. ماتت فيه الحياة السياسية التي طمح إليها ثوار 25/1 وذلك حين استبدلوا الثورة الزائفة الهجينة في 30/6 بها، وحين أطاح العسكر وأذرعة في 3/7 بالشرعية الانتخابية (برلمانًا ودستورًا ورئيسًا) ثم بالشرعية الثورية: إنهم يجنون ثمار أوهامهم بل أطماعهم حين اعتقدوا منذ 3/7 أن العسكر سيسلمون لهم السلطة وسيقيمون حياة سياسية مدنية اتهموا الإسلاميين بتهديدها، إنهم الآن يحصدون ثمار قفزهم على الثورة، بمساعدة العسكر.

فهاهم الذين سبق واتهموا الإسلاميين بأنهم سرقوا الثورة، ها هم قد وأدوا الثورة وأجهضوها. ها هم الآن، لو استدعينا صفحات كل النخب الانقلابية، يكال لكل منهم في الإعلام ما كالوه لنخب ثورية: إسلامية أو غيرها قبل 30/6 وبعدها.

إنهم جميعًا، سواء نخب حزبية أو سياسية أو فكرية أو… يتعرضون من بعضهم البعض (رفقاء ثورة 25/1) أو من الفلول -تلك الأذرع الانقلابية النقية- لاتهامات وحملات تشويه هي في الواقع حملات كشف الأقنعة.

إنها ليست لعبة السياسة القذرة، كما قد يدّعي البعض، إنها لعبة الأنفاس الأخيرة لعملية احتضار السياسة في نظام 3/7، فلا قبول إلا للصوت الواحد.

فلم يعد لذلك النظام إلا أسلحة الترويع والقهر والخوف عقابًا لمن سولت له نفسه الثورة في 25/1 ضد نظام 23/7/1952. فإن نظام 3/7/2013 الذي وظف ثورتين (حقيقية وزائفة) وتلاعب بهما ليس إلا الطبعة الجديدة برأس جديد وشبكة تحالفات أخرى. ولذا فإن الصراع بين الأجنحة الانقلابية هو صراع تصفيات انتهازي لتحديد من يبقى إلى جانب السيسي بأي ثمن.

إنه ليس صراعًا على استبداله أو تجميله بوجود ديكور لمعارضة ولو هزلية. إن من يخوضون هذا الصراع ليبقوا يؤكدون أنهم لا يعبدون إلا “الاستبداد” ولا يقبلون بالبيادة بديلاً. في حين أن من يرضون بخدمة هذا النظام، ممن مازلوا يزايدون بالمطالبة بالديموقراطية ليسوا بقادرين على ممارسة إلا “خوار أجوف” وفائض كلام، من داخل غرف مغلقة مكيفة أو يتبارون منها وعبرها في غسل عقول وقلوب “حزب الكنبة” وفي الاغتيال السياسي والمعنوي لبعضهم بعض من ناحية أخرى، في نفس الوقت الذي تتصاعد حملاتهم الحاضّة على الإقصاء والكراهية والحقد و”القتل” والاستئصال الدموي لمن يدافعون عن الشرعية وعن ثورة 25/1.

إن شاشات الفضائيات تنضح بالمشاهد الكاشفة كل يوم، على أن الانقلاب الذي وفر له التحالف الانقلابي رداءً ديمرقراطيًا شفافًا كاشفًا مصطنعًا مليئًا بالبقع السوداء، قد أضحى عاريًا بلا ساتر يشرعنه، وأن النظام الانقلابي في واقع الأمر لا يريد إلا القهر سبيلاً للشرعنة، بعد أن تصدع هذا التحالف وأوشك أن ينهار كاملاً. ولم تبقَ ظاهرة إلا حقيقة الانقلاب وهي تستوجب –على الجانب الآخر- وتبرر وتشرعن استمرار مقاومته وكشفه؛ لإسقاط ما تبقى من نظام 3/7.

ولكن ماذا عن “ما بعد هذا النظام؟” كيف يتحقق الاصطفاف الوطني وراء قيادة وطنية للثورة هي حجر الزاوية حتى لا تواجه مصر حالة مشابهة لتفكك تحالف ثورة 25/1 أو تصدع تحالف انقلاب 3/7؟

(4)

إن النخب التي تم صرعها أيضًا بقبضة القمع، فقبض عليها حين أعلنت اكتشافها حقيقة الانقلاب الذي سبق وسكتت عليه أو ساندته، إن النخب الأخرى التي لزمت الصمت، بعد أن تم اغتيالها سياسيًا ومعنويًا بطعنات أذرع الانقلاب التي باعت نفسها تمامًا للشيطان، إن النخب التي ما زالت تتعرض للتصفية والمطاردة وإحكام الخناق على رقابها حتى لا تعلن معارضتها الحاسمة من خارج النظام أو تظل “تعارض بأدب” وفي نطاق الحدود المسموح بها من داخل نفس النظام،… إن جميع هذه النماذج والأنماط التي أسفر عنها وكشف عنها تصدع التحالف لا جدوى منها للعملية المطلوبة لإنقاذ الحياة السياسية المصرية أو في مقاومة الانقلاب… فالرهان عليها خاسر.

فلقد وافقت هذه النخب جميعها، وما زالت توافق رغم ما تعرضت له، على خطورة مشاركة الإسلاميين السياسية على الديمقراطية وعلى الحريات المدنية والسياسية في مصر، أي إنها تقبل ببعض نتائج الانقلاب ولا تقبل بنتائج أخرى له. وبعض هذه النخب وإن كشفت حقيقة الانقلاب متأخرًا فإن البعض الآخر كان يعرفها منذ البداية وراهن على ما سيحققه من مكاسب.

إن جميع هذه النماذج سيسقطها التاريخ كما سيسقط النماذج الأخرى المستمرة في إشاعة الضبابية في عقول الناس لأنهم جميعًا يكرهون الإسلاميين أكثر من احترامهم للحرية والعدالة وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، ويتسترون وراء ذريعة تهديد الإرهاب. ولكن يجب ألا ننسى أن شبابًا من ثورة 25/1 ومن موجة 30/6، رغم اختلافاتهم مع الإسلاميين، يجدون الشجاعة للإعلان عن انتقادهم نظام 3/7 الذي ينتهك حقوق الإنسان في المظاهرات والمعتقلات والمحاكمات. لكنها مازالت أصوات محدودة لا يبرزها الإعلام الانقلابي إلا ليغتالها معنويًا وسياسيًا وهي في المهد.

إن التاريخ لن يتذكر إلا “الناس”: أهالينا الأحرار الذين استجابوا للثورة منذ بدايتها في 25/1. إن الذين سقطوا منهم شهداء لم نعرف أسماءهم، ومن أكمل المشوار منهم لم يتفاخروا على الفضائيات بما قاموا به أو ادعوا القيام به. ومن ظل وفيا منهم للشرعية وللثورة هو الذي يقاوم الانقلاب بسبل شتى، ولو بكلمة، ولو بيقظة، ولو بوعي، ولو بدعاء، ولو بقلبه. هذا هو أحد الشعبين الذي نبذه مطربو الانقلاب.

وفي المقابل، فإن التاريخ سيتذكر أيضًا الشعب الآخر الذي تغنى به مطربو الانقلاب؛ “الناس” من حزب الكنبة الذين مثلوا وقود الثورة المضادة. فهم الذين استجابوا للترويع واشتروا ما يسمى “الاستقرار والأمن ولقمة العيش” بما هو أغلى: “العدالة والحرية والكرامة”.

فلقد ساعد قيادةَ نظام 3/7 المستمسكة بالسلطة عنوة وقهرًا حالةٌ “تدنٍ حضاري إن لم يكن انهيارًا حضاريًّا” كشفت عن نفسها لدى قطاعات من شعب مصر. على عكس ما كشفت عنه ثورة 25/1 من مخزون حضاري إيجابي لدى قطاعات أخرى من نفس هذا الشعب. إنه التدافع بين الخير والشر، بين الحق والقوة، بين الثورة والثورة المضادة عليها. ومن أهم مؤشرات تلك الحالة: الخرائط والصور الذهنية الفاسدة الغالبة الآن على مشاهد تصفية الحسابات بين أجنحة تحالف 30/6، 3/7/2013؛ وهو التحالف الذي يدخل مراحل تصدُّعه الأخيرة، فلقد قربت لحظة انهياره.

من نماذج تلك الصور الذهنية الفاسدة الشائعة والممتدة عبر سنتين ويعاد إنتاجها باستمرار: مبارك زعيم وطني حارب من أجل وطنه ولكنه فاسد، الحقوقيون الذين يدافعون عن حقوق المعتقلين إرهابون لأنهم يدافعون عن إرهابيين، الرئيس المنتخب تقصيه السلطة وفق إرادة الشعب، قليل من عطاء صاحب السلطان أفضل من عصيانه، الخضوع والاستكانة للظلم لعدم المخاطرة بلقمة العيش، الخصومة السياسية تدار بالقوة والإقصاء، تأجيل الحريات والحقوق من أجل الأمن، الليبراليون عملاء للخارج ويتآمرون على وحدة مصر، والإسلاميون سرقوا الثورة ولم يكن لهم رؤية سياسية وخونة للوطن، الإسلاميون يكرهون الوطن والدولة ويريدون الخلافة.

(5)

إن تصدع التحالف الانقلابي لم يكن من طبائع الأمور المعتادة في هذه الحالات. ولكنه كان من نتاج تلاعب “العسكر” وقيادة الانقلاب بمكونات التحالف بعضها ضد البعض. وكان الفلول الجدد (الذين ادّعوا الثورة في 25/1) والقدامى (الذين خططوا بليلٍ ضد ثورة 25/1 ثم خططوا بنهار لثورة 30/6 الزائفة) هم أدوات الهجوم والاتهام والاغتيال لمن فطن لحقيقة 3/7 ولو بعد حين.

ولعل حرص السيسي على الاجتماعات الدورية مع الإعلاميين والمثقفين ثم رؤساء الأحزاب من أهم المؤشرات على هذا التلاعب. وفي كل مرة يطالب السيسي الإعلاميين بالنقد الموضوعي له وللحكومة، ويطالب الأحزاب بالاصطفاف الوطني لتكوين قائمة موحدة!!!

فما معنى ذلك؟ هل الإعلام لا ينقد بموضوعية أم لا ينقد على الإطلاق بقدر ما يهاجم ويصفّي حساباته؟

ما معنى أن تكوّن الأحزاب قائمة موحدة؟ أليس المقصود الاصطفاف وراء الرئيس بدون اختلافات؟ إن السيسي “العسكري” المعتاد على توجيه الأوامر والطاعة له بدون مناقشة يحول الحياة السياسية في مصر، وبدون مواربة إلى “معسكر”، بعد أن قسم شعب مصر إلى شعبين.

فالتجزئة هي سلّم الانفراد بالسلطة المستبدة.

هذه هي فلسفة التصدع وتبعاته: فهو الموجة الثانية من الانقلاب: الأولى كانت للإطاحة بأحد روافد ثورة 25/1 وهم الإخوان، والثانية للإطاحة بالرافد الثاني وهي المدنيون. فغاية الموجتين الإطاحة بكل معارض لدولة العسكر وكل معارض للفساد، وكل معارض لانعدام العدالة الاجتماعية، وكل معارض لانتهاك حقوق الإنسان والحريات المدنية والسياسية.

(6)

إن مقاومة الانقلاب بعد تصدع تحالفه تصبح أكثر ضرورة؛ وذلك بعد أن سقطت أقنعته كلها التي تجمل بها وبعد أن انكشفت عنه كل الأغطية التي تدثر بها طوال عامين، وبعد أن تأكدت خطورته وتهديده للأمن القومي والمجتمعي والإنساني، وبعد أن تأكد كذب وعوده للناس الطيبين…

أي بعد أن تأكد إجمالاً، لمن كانت تساوره الشكوك، أن ما حدث في مصر هو انقلاب لم يحترم الديموقراطية ولن يحترمها أبدًا؛ ومن ثم الأمر لا يقتصر على مجرد معارضة ممارسات نظام 3/7 غير القانونية غير الإنسانية … ولكن الأمر هو أن مقاومة نظام الانقلاب لتغييره هو واجب وطني.

شكرًا لتصدع التحالف الانقلابي:

ليس لأنه يضعف من نظام الانقلاب، ولكن لأنه كشف حقيقته أمام من لم يعتبر منذ البداية. فاتسع نطاق الحراك الاحتجاجي والثوري ضد السيسي ذاته وضد شرعية نظامه بالأساس.

ومن ثم فإن استراتيجية الاصطفاف الوطني ضد الانقلاب وتوسيع نطاقه، تمثل ضرورة وطنية ملحة وآنية، ولكن في إطار رؤية استراتيجية شاملة ووطنية لكيفية إعادة بناء الحياة السياسية المصرية استعدادًا لما بعد الانقلاب. هذه الرؤية وتلك الاستراتيجية ضرورتان؛ فإن تصدع التحالف هو بداية النهاية وليس النهاية، وخاصة أن البيئة الإقليمية والعالمية الحاضنة للانقلاب أخذت تفرز من الفرص ما هو جدير باستثماره.

(وللحديث بقيه عن التحالف الانقلابي إقليميًا وعالميًا).

الحمد لله