تتوالى الإشكاليات المتعلّقة بالفلسفة التي اشتغل بها المسلمون، والتي أثارها الباحثون والمؤرّخون واختلفوا فيها. ومن تلك الإشكاليات ما يتعلق بالاسم الأكثر دقة لتلك الفلسفة، هل هي الفلسفة العربية أم الفلسفة الإسلامية؟، ومنها ما يتعلق بالمصادر التي نهلت منها الفلسفة العربية الإسلامية واستفادت، هل كانت الفلسفة اليونانية فقط، أم أنّ هناك مصادر أخرى؟.


فـــلســفــة إســلامــيــة أم فــلــســفــة عــربــيــة؟

أيهما أدق في التسمية، الفلسفة العربية أم الفلسفة الإسلامية؟، هذا التساؤل طرحة الباحثون واختلفوا فيه، فمنهم من يقول فلسفة عربية من أمثال: موريس دي ولف، وبرهييه، ولطفي السيد، ومنهم من يقول فلسفة إسلامية مثل: ماكس هورتن، ودي بور، وجوتيه.

يقول الدكتور جميل صليبا في بحثه عن الفلسفة الإلهية عند ابن سينا: «إنّ الذين يجحدون وجود فلسفة عربية يثبتون وجود فلسفة إسلامية، بيد أنّ الإسلام برغم كل ما نفذ إليه من العناصر الأجنبية ظلّ أثرًا من آثار العبقرية العربية. أما أنّ أكثر الفلاسفة من أصل غير عربي فلا نكران له، لكن الذي لا نجده مستساغًا هو القول بأنّ الفلسفة التي يسميها العامة فلسفة إسلامية، لا تستند إلى الجنس العربي. نحن نتكلم عن فلسفة عربية كما نتحدث عن دين عربي».

الذين اختاروا اسم الفلسفة العربية هم الذين اعتقدوا أنّ كلمة «عربي» تنطبق على كل من يستخدم اللغة العربية سواء كان هنديًا أو فارسيًا.

ولقد اختار الدكتور عاطف العراقي أن يطلق عليها اسم الفلسفة العربية في كتابه «ثورة العقل في الفلسفة العربية»، ويرى الدكتور إبراهيم ياسين أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف أنّ الذين اختاروا اسم الفلسفة العربية هم الذين اعتقدوا أنّ كلمة «عربي» تنطبق على كل من يستخدم اللغة العربية سواء كان هنديًا أو مصريًا أو سوريًا أو فارسيا، من أمثال كارلونلينو.

ورفض الدكتور علي سامي النشار تسميتها بالفلسفة العربية، وساق في ذلك أدلة منها أنّ الحديث عن فلسفة عربية يُخرج من نطاقها كثيرًا من المفكرين المسلمين وقد كان الكثير منهم من الموالي والفرس الذين اعتنقوا الإسلام، كذلك إنّ كثيرًا من الأجناس التي اعتنقت الإسلام قد أدخلوا عليه تصوراتهم الخاصة، وحاولوا أن يصوروه بصورة أديانهم السابقة، كذلك الإسلام هو الذي حدد طبيعة البحث الميتافيزيقي الإسلامي.

ويلاحظ المستشرق هنري كوربان أنّ الأخذ بفلسفة عربية أمر خاطئ جدًّا يجعل مجال الفلسفة الإسلامية ضيقًا للغاية، وإلا أين نضع مفكرًا مثل الإيراني ناصر خسرو، أو أفضل كاشاني، وعبد الرحمن الجامي، وهم من الفرس الذين أثروا المكتبة الإسلامية؟.

كذلك يعارض الهنود ومنهم «تارشاند» كما يخبرنا الدكتور علي النشار، القول بفلسفة عربية، ويرون أنّه عنوان غير ملائم؛ أولا لأنّ المشتغلين بهذه الصناعة لم يكونوا جميعًا من العرب، بل كان معظمهم من الفرس، أو من مصر ووسط آسيا والأندلس والهند. ومع أنّ نسيج هذه الفلسفة كُتب بالعربية، فقد استخدمت لغات غيرها كالفارسية وغيرها، واعتبار أهم من ذلك هو أنّ الفلسفة نشأت من حاجة الإسلام إلى الجدل الديني، واهتمت بتوطيد دعائم العقيدة، أو التماس أساس فلسفي لها، ولا يمكن اعتبارها نقدية أو مستقلة لأنّها دارت حول الفكر الديني، وأما اليهود وأصحاب الاعتقادات الأخرى الذين كتبوا مؤلفات فلسفية نقدية متأثرة بالإسلام فينبغي إدخاله في جملة الفلسفة الإسلامية.

وهناك من أنكر التفلسف على العرب من الفرس، خاصة من الشعوبيين ورأوا أنّ العرب ليس لديهم بطبيعتهم قدرة على التفلسف، وبالطبع إذًا يرفضون تسمية الفلسفة العربية.

ويذكر القاضي صاعد بن أحمد في كتابه «طبقات الأمم» عن العرب: «وأمّا علم الفلسفة فلم يمنحهم الله عزّ شيئًا منه، ولا هيأ طباعهم للعناية به. ولا أعلم أحدًا من صميم العرب شهر به إلا أبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (ت 360هـ) وأبا محمد الحسن الهمداني (ت 334هـ)».

ويرى الجاحظ أنّ كل كلام للفرس وكل معنى للعجم، إنّما عن طول فكر واجتهاد، ومشاورة وخلوة ومعاونة، وطول تفكير ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار الفكر عند آخرهم، أمّا كل شيء للعرب، فإنما هو بديهة وارتجال كأنه إلهام. وقد اختلف بعض الباحثين في مقصد كلام الجاحظ فرأى الدكتور صلاح رسلان أنّها نظرة عنصرية للعرب (وهذا مستبعد لأنّ الجاحظ عربي في أرجح القولين)، ورأى الدكتور مطصفى عبد الرازق أنّ الجاحظ يقصد مدح العرب بالذكاء وسرعة البديهة!، وأيضًا هذا الرأي ليس دقيقًا، والرأي أنّ الجاحظ كان يصف الواقع فقط في رأيه حتى وإن كان من العرب ناقدًا ما يراه من حال العرب.

والواقع أنّ المصطلحات ليست أزمة في ذاتها فلا مشاحة في الاصطلاح، لكن الأزمة حين يكون الدافع وراء الجدل حول المصطلح هو دافع القومية، أو دافع العنصرية، فحين يحاول العربي الدفاع عن مسمى فلسفة عربية بسبب نزعة قومية يريد بها أن يثبت لعرقه إمكانية التفكير الفلسفي والقدرة عليه، ويجعله ذلك يبتعد عن موضوعية البحث العلمي الذي لا يعرف المجاملة، وحين يحاول غير العربي أن ينزع من الجنس العربي أي إمكانية للتفكير في العقل، والنظر الفلسفي، مشحونًا بنظرة عنصرية؛ هنا تكمن الأزمة.

لكن ينبغي أن نفرّق بين الوصف والتقرير للواقع دون دوافع أيديولوجية، والنزعات التي تغلب عليها الأهواء والأيديولوجيات. فنجد مثلا ابن خلدون الذي أرجع تكوين عقلية الشعوب وصفاتها المعنوية والحسيّة إلى التأثر بالظروف الاجتماعية والزمانيّة والمكانيّة واختلاف أحوال العمران، يرى أنّ تعليم العلم يزداد مع الحضارة والعمران، ويقل في حال البداوة.

وأيًا يكن من الأمر في هذا الجانب فقد اصطلح فلاسفة الإسلام أنفسهم على إطلاق ألفاظ مثل الفلسفة الإسلامية، وفلاسفة الإسلام، والفلاسفة المسلمين، على الفلسفة التي اشتغل بها المسلمون من العرب وغيرهم، وبما أنّ القاسم المشترك الأعم الذي يجمع العرب وغيرهم في الحضارة الإسلامية هو الإسلام، كان الأكثر دقة تسمية الفلسفة بالفلسفة الإسلامية نسبة إلى الحضارة الإسلامية، ونسبة إلى تأثرها بالدين الإسلامي وتأثيرها فيه.


مــصــادر الـفــلــسـفـة الإســلامــيــة

الواقع أنّ المصطلحات ليست أزمة في ذاتها فلا مشاحة في الاصطلاح، لكن الأزمة حين يكون الدافع وراء الجدل حول المصطلح هو دافع القومية.

يقول الجاحظ في كتابه «الحيوان»: «ولولا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها، وخلّدت من عجيب حكمتها، ودوّنت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنّا، وفتحنا بها كل مستغلق علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لما حسن حظنا من الحكمة، ولضعف سبيلنا إلى المعرفة». ويجد ألفريد جيوم في ذلك اعترافًا من الجاحظ بفضل اليونان على أهل ملّته.

ويرى الشهرستاني في «الملل والنحل» أنّ الفلاسفة الإسلاميين قد سلكوا طريقة أرسطاطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به سوى كلمات يسيرة ربما، رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدّمين عليه.

يرى الشهرستاني في «الملل والنحل» أنّ الفلاسفة الإسلاميين قد سلكوا طريقة أرسطاطاليس في جميع ما ذهب إليه وانفرد به.

ويذهب برتراند راسل إلى أنّ الثقافة المميزة للعالم الإسلامي على الرغم من أنّها بدأت في سوريا، إلا أنّها سرعان ما ازدهرت أعظم ازدهار لها، في طرفي العالم الشرقي والغربي فارس وإسبانيا، وأنّ السوريين أيام الغزو كانوا معجبين بأرسطو، الذي آثره النسطوريون على أفلاطون، وأن أوّل معرفة العرب بالفلسفة اليونانية كانت مستمدة من السوريين؛ ولذا فقد حسبوا أنّ أرسطو أهم من أفلاطون، على أنّ أرسطو لديهم قد لبس حلّة «أفلاطونية جديدة»، فقد ترجم الكندي أجزاء من «تاسوعات» أفلوطين، ونشر ترجمته بعنوان «الربوبية عند أرسطو» فأحدث هذا خلطًا عظيمًا في أفكار العرب عن أرسطو، لم يزيلوه عن أنفسهم إلا بعد قرون طويلة. وحدث إذ ذاك أن اتصل مسلمو فارس بالهند؛ فاستمدوا في القرن الثامن أول معرفتهم بالفلك من مؤلفات سنسكريتية، وفي سنة 830 تقريبًا، نشر محمد بن موسى الخوارزمي كتابًا تُرجم إلى اللاتينية، والذي كان أول مصدر استقى منه الغرب ما يسميه بالأعداد العربية، وإن كان ينبغي أن تُسمى بالأعداد الهندية.

ويرى يوحنا قمير في كتابه «أصول الفلسفة العربية» أنّ مصادر الفلسفة الإسلامية تنقسم إلى أصول عربية، وأصول أعجمية. أما الأصول العربية فتتمثل في ملامح الحكمة عند العرب قبل الإسلام، وفي الإسلام كونه قد أثّر التأثير الأكبر في الحضارة الإسلامية بطرق كثيرة. أما عن الأصول الأعجمية فتنقسم إلى: الثقافة الفارسية، والثقافة الهندية، واليونانية.

أمّا الفارسية فيرى أنّ الأثر الفارسي قد قوي حين انتقلت الخلافة إلى بغداد، وكاد يستأثر الفرس بالوزارة وشؤون الدولة، ونشأت الحركة الشعوبية، فإذا الفرس يذكرون ماضيهم، وإذا الإقبال كبير على معرفة تاريخهم السياسي، ونقل حكمهم وقصصهم. لكنّه يرى أنّ الفرس قد أثرّوا بعدما أسلموا أكثر مما أثرّوا بما كان لديهم من دين.

تأثر العرب بأفلوطين أيضًا من حيث لا يدرون، إذ أنّهم اعتبروا كتاب الأثولوجيا، أو الربوبية، كتابًا لأرسطو.

وأمّا الثقافة الهندية فكان اتصال العرب بالهند قبل الإسلام مرصودًا، ثمّ أيّام الوليد تم فتح السند، وفي عهد أبي جعفر المنصور امتد الفتح إلى كابل وكشمير ونتج عن هذا الفتح امتزاج روحانية الهند بروحانية الإسلام، ودخول موالي هنود إلى الإسلام، واختلاط الدم بالأنساب والتزاوج. والبرامكة قد عنوا بطلب الطب والحكمة عند الهند، ويحيى بن خالد البرمكي كما يحكي بعض المتكلمين قد بعث برجل إلى الهند، ليأتيَ ببعض العقاقير، وأن يكتب له أديانهم. وابن النديم قد تعرّض لمذاهب الهند في فصل من كتاب «الفهرست». وللشهرستاني أيضًا فصل في آراء الهند وفرقهم. ويرى أنّ أفضل العلماء اطلاعًا وافيًا صحيحًا على الفكر الهندي هو البيروني وأنّه تعلم السنسكريتية، ونقل كتابين إلى العربية.

وأمّا الثقافة اليونانية، فيرى يوحنا أنّ العرب تأثروا خاصة باثنين هما: أفلاطون وأرسطو. إلا أنّهم تأثروا بأفلوطين أيضًا من حيث لا يدرون، إذ أنّهم اعتبروا كتاب الأثولوجيا، أو الربوبية، كتابًا لأرسطو.

ومن الطبيعي تأثّر أي حضارة بالحضارات التي تحتك بها، وتتناقل العلوم والفلسفات بينها، وإن تمّت دراسة مظاهر التأثر بموضوعية قد ينكشف الكثير، حيث إنّ التأثر وأيضًا التأثير، ربما يكون قد امتد إلى ما هو أوسع من المذاهب الفلسفية، خاصة ونحن نرى التشابه بين بعض روايات الأحاديث النبوية وبعض قصص «الأفيستا» (كتاب الزرادشتيين المقدس) وما فيه من حكايات زرادشت، والبحث في ذلك المجال قد يساعد في فهم علاقتي التأثير والتأثر بين الحضارة الإسلامية والحضارات التي احتكت بها، وربما يجعلنا نعيد النظر في المنهج الذي ننظر به في التراث الفلسفي والديني.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.